هَسِيسُ ٱلْجُنُون

 هَسِيسُ ٱلْجُنُون

نص: ناصر السوسي

 

ٱلأَنَا وَظِلُّهَا:

 -1-

 قُبَيل الفَجْر دَاهَمَتْني مَنَامَة.

فقد رَأَيتُ فِي مَا يَرَى النَّائِم أَضْغَاثَ أَحْلاَمٍ لمْ أعْهَدْ مِثْلها مِنْ قَبْلُ..

 عَلَى إِثْرِهَا صَحَوْتُ مَذْعُورًا وَالظَّمَأُ ينالُ منِّي إذ أَحْسَسْتُ بِتَجَفُّفِ حَلْقِي. أَطْفَأتُ غُّلَّتِي بِمَاءٍ معْدني فَٱبْتَلَّتْ أَحْشَائِي.

ٱجْتَاحَنِي عَرَقٌ غزيرٌ وأنا أَتَفَكَّرُ في صُوَرِ رُؤْيَايَ، وَأُقَلِّبُ رُمُوزَها الَّتِي تُقْتُ قَدْرَ مُكْنَتِي إلى ٱلتِقاطِ بعض مَعَانِيهَا وَتَفَهُّمِ قَدْرٍ مِنْ دَلاَلاتِها.

-2-

 فِي كُلِّ صباح، ألْبَثُ مُسْتلْقِيًّا، لِوقْتٍ قَدْ يَطُول أويَقْصُر، كَدَيْدَنِ “روني ديكارت” وهو تلميذٌ في مدرسة “لاَفْلِيشْ” ٱلْيَسُوعِيَّة. على سَرِيرِي أَظَلُّ أتأرْجَحُ بين خَدَرِالكَرَى وٱستشباحاتِ يَقَظَتِي. وفي مَضْجَعِي أيضًا أسْعَى جَاهِداً إلى ضَبْطِ بَوْصَلتي المُرْتَجَّة ٱلَّتِي تَجْعَلُنِي، على النَّقِيضِ مِنْ “يُوهَان غُوتُه”، أَرَى الشَّرقَ غَرْبًا، والغَرْبَ شَرْقاً..

يَا لَأَوْهَامِي

مَنْ أُصَدِّق يَاإلَهِي فِي غَمْرَة تَيْهِي وَجُنُونِي؟!

أَنَايَ المُمَزَّقة بَيْنَ الأَحلاَمِ وَاليَقَظَة، أمْ آخَرُهَا المُضَاعَف الَّذِي يُكَابِدُ كَ “الفَتَى فِيرْترْ” وَاقِعاّ شِرِّيراً هَشَّمَ حَيَاتَهُ فَحَوَّلَهَا إلى مَأسَاةٍ خَالِصَة ؟..

يَالَهَلْوَسَات سَمْعِي!

 يَمَامَةٌ تَنْعَقُ وهْيَ تَرْمُقُنِي من نافذة بِنَايةٍ خَرِبَة!..

سُنُونُو يَعْوِي وهو يَشْحذُ ريشَهُ ٱلْمَنْفُوش على فَنَنِ سِنْدِيَّانة تَأهُّباً للتِّرْحَالِ المَوْسِمِي..

 يَافِعُون مُشَرَّدُون يُدَخِّنُون بشَرَاهَة لُفَافَاتٍ مَحْشُوَّة على مَقْرُبَةٍ مِنْ قُمَامَةٍ كُدِّسَتْ أَكْوَامًا أمَام المَدْخَل الرَّئيس لِدارِ الثقافة..

شُحْرُورٌ أَسْود يهْزَأُ مِنْ فَوقِ لاَقِطٍ هَوَائِي مِنْ بُؤْسِ عَالَمِنَا..

فَرَكْتُ بِقُوةٍ عَيْنَيَّ المَكْدُودَتين حَتَّى ٱحْمَرَّتا ثُمَّ عَزَمْتُ عَلَى مُزَايَلَةِ غُرْفَتِي مُنَاجِيًا ذَاتِي المُتَوَثِّبَة:

يَالَرَنْحِي!

وَكَمَنْ يَرَى إلى مِرْآةٍ مكْسورةٍ بَدَتْ من حَوْلِي الأشياءُ شَظَايا مُتناثِرة. هكذا لَمَحْتُ من خَلْفِ شُرْفَة مَقْطِنِي طَيْفًا يُشْبِهُني كُلِّيَّةً. كَان السَّدَفُ كَأَهْلِ الكَدْحِ منا يَخْطُو مُتَأبِّطا خُبْزَةً، وَيَحْمِل جرائد، وحزمة أوراق، وقبطة نعناع، ونُسْخَةً مِنْ مَتَاهَة ” أُولِيسْ” ل “جِيمْسْ جُويْسْ”؛ وخَلْفَه قَوَانِع ضَالَّة تَتَقَفَّى أَثَرَهُ دُونَ نُبَاح.

مِنَ الشُّرفة لَبِثْتُ أَرْنُو إلى المشْهَدِ الغريب إلى أَنْ تَوَارَتْ عَنِّي صُورَةُ الطَّيْف تَمَاماّ.

في الغُرفَة المُوَازِيَّة لغرفةِ نَوْمِي فَاجَأنِي مَنْ يُشْبِهُنِي يَشْغَلُ مِنْضَدَتِي فَتَعَاظَمَ ذُهُولِي.

 ٱرْتَدَى مَثِيلِي نَظَّارَتِي الطِّبِّيَّة ثُمَّ ٱنْهَمَكَ فِي تَقْلِيبِ صفحات رواية “ٱلْمَمْسُوسُون” ل “فيودور دوستويفسكي” الَّتي شَرَعْتُ فِي قِرَاءَتَها في بَحْرِ ٱلأُسْبُوع الفَارِط. بكلِّ هُدُوء، ٱسْتَوَيْتُ قُبَالَتَه على أَرِيكَةٍ مِنْ قَصَبٍ فَطَفِقتُ أَتَفَرَّسُ فِي مَلاَمِحِ زَائِرِي.

كَانَ يُدَخِّن مثْلَ نَبِيلٍ مِنْ زَمَنِ البَاشَوَات غلْيُونًا  بُنِّيًا ذَكَّرَنِي بِصُورة “جان بول سارتر” المَنْشُورة على الدَّفَّةِ ٱلأُولَى من “الكلمات”، سِيرَته الذَّاتِيَّة..

لَمْ يُعِرْ ْشَبِيهِي أَيَّ ٱهتمامٍ لِوُجُودِي..

لَمْ أُكَلِّمْه..

لَمْ يُكلِّمْنِي..

أُرَجِّحُ أَنَّ زَائِري الغَريب الَّذِي تَجَاهَلَني وأنا على تَمَاسٍّ شَدِيدٍ منه، عَلَی غِرَارِي، ٱسْتَعْذَبَ روايةَ الأديب الرُّوسِي الكَبِير فَصَرَفَتْهُ عَنِّي. مع ذلك أَصْرَرْتُ علی ٱكْتِشَافِ السِّرِّ فَسَألتُ نفسي: لماذا ٱنْشَدَّ مَثِيلِي إلَى رِوَايَةِ “ٱلمَمْسُوسُون” وَلَمْ يَنْجَذِبْ إلَى “مَسْخ” فرانزكافكا؟

 وَسُرْعَان ما ٱسْتَدْرَكْت:

ومِنْ أيْن لِي أَنْ أدْرِي بِحَيْثِيَاثِ ٱخْتِيَارِه؟       

ٱسْتَرْسَلْتُ أتَفحَّصُ بٱتِّئَادٍ تَفَاصِيلَ ظِلِّي.

 أتَأَرِّجُ نكْهَةَ التبْغ المُثِيرة الَّتِي غَمَرَتِ الغُرْفَة. أتَتَبَّعُ خُيُوط الدُّخَّان المُتَصَاعدة من الغليون البُنِّي.

وَأَتَأملُ الوُجُومَ الغَرِيب،

وَأُنْصِتُ لِلسُّكُون المُطْبَق!..

 

ٱلأَنَا ٱلمُتَشَظِّيَّة:

 كنَقَّار الخَشَب دَأَبْتُ على التَّسَكُّع بَاكِرًا بَيْن شَجَرِ ٱلْغَاب كيْمَا أَصْنَعَ لنفسي وَكْرًا أَعْتَصِمُ به حَذِراً من ٱحْتِيَال صِلٍّ سَامٍّ؛ أو دَرْءًا لهُجُوم كَاسِرٍ يُصَيِّرُنِي وَجْبَته المُشْتَهَاة فِي لَمْحِ ٱلْبَصَر.

وَفِي عِزِّ الظَّهِيرَة أتَمَتْرَسُ في رُكْن رَكِينٍ لِئَلاَّ أسْتَحِيلَ هَدَفًا لِيَافعين يَعِنُّ لَهُمْ نَزَقهُم قَذْفِي بحَجَرٍ طَائِش بُعَيْد فَرَاغِهِمْ مِنْ ٱختبارَاتِهم الدورية؛ وإحْراقِهم لِكُتُبِهم، وَدَفَاتِرِهِم أمام بوَّابَات المدارسِ ٱستعدادًا للدُّخُول في مَتَاهَات عَطَالَةِ المَصِيف..

وَعَلى قَدَمٍ وسَاقٍ، وَقْتَ الأَصِيل، أَنْشَغلُ بالبحث عن أُنْثَى تَحْنُو عَلَيَّ من دَواعِي صَدْرِي نَهَارًا، وَتَلْأَمُ نُدُوبَ حَافِظَتِي لَيْلاً..

وعندما يدْلَهِمُّ عَلَيَّ لَيْلِي أَجْنَحُ إلى مُحَاكَاة “بُومَةِ مِنِيرْفَا” لَعَلَّ هَوَاجِسَ فلسفةِ الجِيرْمَان تَضْمَنُ لي ٱتِّسَاقَ ٱسْتِفْهَاماتٍ أتَوَسَّلُ بِهَا إعْقَالَ قَلَقٍ يَغْشَانِي مَتَى نزَعْتُ إِلَى نَزْعِ ٱلْغَرَابَةِ عَنْ عَالَمٍ أضْحَی أَشَد تَقَلُّبًا مِنْ جِلْدِ ٱلحِرْبَاء..

بَلْ أَشَد لُوثَةً مِنْ خَبْلِي..

وَفِي ذِرْوَةِ ٱنْدِهاشي أعرجُ إلى الإِصْغَاء لِصَوْتِ سقراط الحكيم يَعْرِضُ في “فِيدُون” خُلودَ النفس؛ أوْ يَعْتَرِضُ علَى صَلاَبَةِ الدُّوكْسَا فِي “أُمْثُولَةِ المَغَارَة”..

وَإذْ تُضْنِيني عَبَثِيةُ الوُجُود أتَحَوَّلُ رغْمًا عَنِّي إلى “حَلاَّجٍ” يُوَاجِهُ فَظَاعَة ٱلصَّلْبِ السياسي دِفَاعاً عَنْ تَجَلِّيَاتِ إشْرَاقَاتِهِ، وَٱنْتِصَارًا لِبَاطِنِ المَعْنَی.

أمَّا فِي ٱلصَّرِيمِ الأَخِير من غَسَقٍ مُوحِشٍ أَسْرِي بَيْنَ ٱلْمَسَارِبِ والدُّرُوبِ شَوْقًا إلی لُجَيْنِ بَدْر السَّحَر.

 

ٱلأَنَا وَٱلسَّرَاب: 

هَدّنِي تَثَاقلُ َنوْمِي فَحَمَلَنِي عَلَى الاسْتِسْلاَم لِوَابِلٍ مِنَ ٱلتَّهَيُّؤَات لاَنَاظِمَ بَيْنَهَا. وَفِي غُضُونِ ذلك تَسَلَّلَ مِنْ تَشَقُّقَاتِ ذَاكِرِتِي قَوْلٌ يَتَواتَر خِلاَلَ التَّدْلِيسِ الشَّعْبَوِي: “الحَقُّ يَعْلُو وَلاَيُعلَى عَلَيْه”.

وبينما أَنَا أَغطُّ في نَوْمِ الضَّيْمِ وَفَدَتْ عَلَيَّ جِنِّية اللَّيْلِ مِنْ غَيْرِٱسْتِئْذَان.

كَانَتْ مُتَوهِّجةً كَجذْوَةِ لَهَبٍ.

أَيْقَظَتَنِي الجِنِّيةُ عُنْوَةً ثُمَّ أنَاخَتْ بِحَافَة سريري.

رَانَ عَلَى ظَنِّي أَنَّ فِي جُعْبَتها قَصٌّا جَدِيدًا كَشَهْرَزَاد..

حَدَجَتْنِي لِبُرْهَة ثُمَّ طَمْأَنَتْنِي بِإِشَارَةٍ خَفِيفَةٍ بِطَرْفِ عَيْنِها ٱلْوحيدة مُتَفَطِّنَة لِنَفَاذِ صَبْرِي..

وَبِهُدُوء تَامٍّ بَدَّدَتْ وَجَلِي لَمَّا هَمَسَتْ فِي أُذُني اليُمْنَى كَيْمَا تُنْبِئَنِي أَنَّ الحَقَّ في مجتمع ٱلإِنْسِ لاَ يَعْلُو بَلْ يُعْلَى عليه عَلَى مَرِّ التَّارِيخ.

مِنْ فَزَعِي أَنَرْتُ الأَبَاجُورَة. ٱنْجَلَى بَهِيمُ ٱللَّيل فَلَمْ يَتَرَاقَصْ أَمَامَ نَاظِرَيَّ طَيْفُ زَائِرَتِي، وَلاَأَبْصَرْتُ عَدْلا،ً أوبَعْضَ المُسَاوَاة. وَلاَرَمَقْتُ حَقاًّ أوْ بصيص إِنْصَافٍ..

رَأَيْتُ فقط وَرَقَةً كَتَبَتْ عَلَيْهَا جِنِّيَّةُ ٱللَّيْلِ بِالخَطٍ الدِّيوَانِي: ” نَادِ علَيَّ أَيَاهَذا إنْ لَمْ يَنْبَجِسِ القَصِيدُ! “

دَاهَمَتْنِي بَعْدَ حِينٍ شَرَارَةُ قَرِيضٍ يَتَغَنَّى بِالغُصَّة وَالمَرَارَة..

فَلَمْ يُسْعِفْنِي شَيْطَانُ الشِّعْر،

وَإلَهُ المُدَام،

وَلَا ٱسْتَقَامَتِ ٱلعِبارَة!

نَادَيْتُ عَلَى جِنِّيَتِي فَٱنْبَرَی لِي حَفَّارُ القُبُور..

<

p style=”text-align: justify;”>رَجَفَ قَلْبِي. ٱنْدَسَسْتُ فِي فِرَاشِي. أَطْبَقْتُ عَيْنَيَّ عَسَانِي أَتَلَافَی تَوَاشُجَ هَالاَتِ الأشْبَاحِ، وَأَسْدَافِ حَفَّارِي القُبُور وَأنَا أَتَلَظَّى مِنْ بَأْسِي فِي دُهْمَة الغَلَس. مُسْتَوْحِداً علَى مُضْطَجَعٍ بِالسَّرَاب يَفِيض..

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

ناصر السوسي

باحث وشاعر مغربي