عاملات قطف الفراولة: عودة مآسي الهجرة النظاميّة إلى اسبانيا
د. محمّد محمّد الخطابي
عبّرت الهيئات الفلاحية الاسبانية مؤخراً عن استعداداتها لاستقبال ما لا يقل عن 15000 من العاملات المغربيات الموسميّات اللاّئي يعملن في فطف أو جني الفراولة أو الفريز أو توت الأرض فى الديار الإسبانية ، وأفادت مصادر إعلامية إسبانية ومغربية بأن الدفعة الأولى من العاملات المغربيات في حقول الفواكه الحمراء ستُباشر عملها على غرار المواسم المنصرمة في مستهل العام القادم2023،. هؤلاء العاملات المغربيّات الموسميّات فى الديار الإسبانية معظمهنّ من الأمّهات، والأرامل، والعوانس، والثكالى، ينتمين إلى المناطق الهشّة من القرى، والمداشر والضيعات المغربية التي تعرف هشاشة في بنياتها الاقتصادية التحتية ، وخصاصاً في ضآلة القدرة الشرائية لساكنتها، يتمّ نقلهنّ إلى إسبانيا للعمل في هذا المجال كلّ موسم بعقود عمل مُحدّدة ومؤقتة، تنتهي بانتهاء الموسم الفلاحي. وتعرف عمليات التسجيل من أجل الحصول على عقود عمل لفائدة العاملات المغربيات بحقول الفراولة في إسبانيا للموسم القادم أحداث من التدافع والتزاحم والاكتظاظ في بعض المناطق المغربية، ممّا يتطلّب من الجهات الحكومية المسؤولة عن هذا القطاع ضرورة الإسراع في تطبيق ورش الرقمنة التي تتيح عدداً من الخدمات الميسّرة عن بُعد بل وينبغي تعميمه وإيصاله إلى كل المناطق النائية، قصد تفادي تكرار مثل هذه الحوادث المؤسفة .
يغادرن الوطن على مضض
لابدّ أنّهنّ يغادرن أرض الوطن على مضض، حالتهنّ مُزرية، وظروفهنّ مُبكية، يبرحنه مُكرَهاتٍ بمرارة لجلب لقمة العيش اليومي الضروري بالكادّ لسدّ رمقهنّ ورمق أسرهنّ وأطفالهن فى بلدٍ جار كان له حتى الأمس القريب وما يزال صولات وجولات، ومواجهات، ومناوشات،ومغالطات، ومشاكسات، على امتداد تاريخه الطويل القريب منه والبعيد حيال بلادهنّ نظراً لما عرفته علاقاتهما الثنائية من مدٍّ وجزر، وأخذٍ وردّ، وفتقٍ ورتق، وطبخٍ ونفخ. لجروح الماضي المشترك التي لم تُضمد، وقروحه لم تلتئم بعد، وعلى الرغم من التقارب والتداني الذين عرفتهما هذه العلاقات بين البلين ،وحُسن النوايا التي عبّر عنها الجانبان لتجاوز هذه العراقيل والتغلب عليها فانّ السّيوف ما زالت مرفوعة إلى أعلى حتى اليوم فيما يخصّ غير قليل من المشاكل والقلاقل، والقضايا الشائكة التي لم تجد الحلول الناجعة لحدّ الآن وللعديد من المعضلات التي لا تغيب عن ذهن أحد، في مُستهلّها قضيّة الصّحراء المغربية في المقام الأوّل الذي عبّر الجانب الاسباني مؤخراً عن تفهّمه لمطالب المغرب الشرعية في استكمال وحدته الترابية ، وقضية مدينتي سبتة ومليلية السليبتين، والجزر والجيوب المحاذية لليابسة المغربية (الجعفرية وحجرة النكور وبادس، وليلي) ومحنة استعمال إسبانيا للغازات السامّة القاتلة والقنابل العنقودية في حرب الريف التحررية الماجدة والتي ما فتئ أهلها يعانون من آثارها الوخيمة ومخلفاتها الضارّة، والاعتذار العلني الذي ما زال الرّيفيّون ينتظرونه من الجارة الإسبانية عن هذا الفعل الاجرامي الآثم الذي تستنكره وتدينه كل القوانين والأعراف الدولية الشرعية والوضعية والسّماوية، ومسألة تسوية أوضاع الجالية المغربية المتواجدة في الأراضي الإسبانية منذ عقود، وقضية طرد وإقصاء وتهجير قهراً وقسراً وعنوةً الموريسكيين وإبعادهم عن ديارهم بإسبانيا، وعدم الإعتذار لهم حتى اليوم ممّا أصابهم من ضرٍّ وشرٍّ، ومآسٍ وتعذيب بمّا اقترفت أيدي ملوكهم في حقهم، وردّ الاعتبار لهم على غرار ما حدث مع الموريسكيين السّفارديم اليهود الذين اعتذرت لهم إسبانيا وعملت بلا هوادة على جبر “الضرر” ممّا لحق بهم بمنحهم الجنسية الإسبانية ببادرة من العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل المتنازل عن العرش لنجله العاهل الاسباني الحالي فيليبّي دي بوربون السادس.
حفيدات الذين عاشوا لقرون طويلة في الاندلس
أصحاب الحقول الشاسعة وأرباب الأراضي الواسعة وسكان القرى والضِّيَع والمداشر والأرباض الاسبانية يدركون أنّ هؤلاء العاملات هنّ حفيدات لهؤلاء وأولئك الذين عاشوا، وأقاموا وترعرعوا لقرون طويلة في تلك الديار المترامية الأطراف بأرض شبه الجزيرة الإيبيرية، التي جعلوا منها جنة غنّاء فوق الثرىَ وعلى ظهر الأرض.. (يا أهل أندلسٍ لله درّكمُ /ماء وظلّ وأنهار وأشجارُ … ما جنّة الخلد إلاّ فى دياركم / فلو تخيّرت هذا كنت أختاُر.. لا تختَشوا بَعدَ ذا أَن تَدخُلوا سَقراً /فَلَيسَ تُدخَلُ بَعدَ الجَنَّةِ النارُ ) ! أجل، ما فتئ الشعراء يتغنّون بمفاتنها، وما زال المؤرخون يكتبون عن أمجادها، وما انفكّ العلماء يفخرون بعطاءاتها، ويتباهون باسهاماتها في مختلف فنون القول، والشعر، والأدب، واللغة، والمعمار، والفلاحة، والملاحة، والبستنة، والسقي، والريّ والفلك والرياضيات وفي العديد من العلوم والمعارف والعرفان على اختلافها وتباينها وتعددها .
واليوم ها قد انقلبت الآية، فإذا بنا نرى بعض أحفاد وحفيدات هؤلاء الأماجد حزيناتٍ، باكياتٍ، منكسراتٍ، متحسّرات، منهدّاتٍ، يتدثّرن بأسمالٍ بالية، وتعلو رؤوسَ معظمهنّ قبعات ذات تأثيرات موريسكية أندلسية تقيهنّ لفحة الشمس الحارقة وهنّ مُنحنيّاتٍ، مُنهمكاتٍ في قطف أو جني الفواكه الصغيرة الشهيّة الحلوة الرّطبة بعناية فائقة، وعندما يَعُدن إلى أكواخهن المهترئة المتهالكة، ومقرّات سكناهنّ المتواضعة بعد انصرام النهار، واقتراب هبوط الليل بحلكته وعتمته يكون التعب قد أثقل كواهلنّ ،والعياء قد هدّهنّ وأخذ منهنّ كلّ مأخذً.
معاناتهنّ في وسائل الاعلام الاسبانية
يذهبن زرافاتٍ ووحدانا ثمّ يُزجّ بهنّ في بطون المراكب، ثم في الحافلات التي تأخذهنّ إلى أماكن عملهنّ في ظروف صعبة عسيرة، وفي ملابسات وحيثيات عويصة غير يسيرة، وقد تركن في بلدهنّ الأمّ فلذات أكبادهنّ، وأهلهنّ، وأبناءَهنّ، وبناتهنّ، وأقاربهن، وجيرانهنّ والوطن الغالي العزيز.
وكانت وسائل الاعلام الاسبانية والمغربية في مواسم القطف السابقة قد تعرّضت لبعض المشاكل التي يواجهنها خلال عملهنّ ، وفى هذا السياق كانت جريدة ” الباييس” الاسبانية الواسعة الانتشار قد نشرت تقريراً مؤثّراً عن الظروف الصعبة التي تعيشها هؤلاء العاملات الموسميات المغربيات في إسبانيا، وقد تناول التقريرالمعاناة اليومية القاسية المتوالية لهنّ بمزارع حقول الفراولة فضلاً عن بعض المعاملات المُجحفة، والاعتداءات الجنسية التي تعرّض لها بعضهنّ .وكانت هذه الصحيفة قد وصفت عمل العاملات الموسميات المغربيات بمزارع الفراولة بـ”الجحيم الحقيقي”، ممّا أفضى بمعاناتهن الخروج إلى النور، وفتح المجال لهنّ لتقديم شكاوى إلى “نقابة العمّال الأندلسية” التي لم تتأخّر ولم تتوان في دقّ ناقوس الخطر، وعملت على توثيق شكاويهنّ عن الحالة المزرية التي يعشنها والتظلّم الذي لحق بهنّ. كما لم تتوان صحيفة “الباييس” وسواها من وسائل الاعلام الاسبانية في نشر شهادات مؤلمة لبعض العاملات المغربيات الحوامل، حيث روت احداهنّ تعرّضها لاعتداءات جنسية من طرف أصحاب الضيعات من دون أن تتمكن من التصريح بذلك للشرطة الإسبانية لخوفها من العواقب، حيث أشارت إلى تهجّم أحد المسؤولين بالحقل عليها بمقرّ سكناها بدون استئذان.
الأمس عندهنّ يشبه اليوم، واليوم يضاهي الغد
كان الأمس عندهنّ يشبه اليوم، واليوم يضاهي الغد. وهكذا مرتّ بهنّ الأيّام منسابةً كلمىَ ثقيلة وئيدة روتينيّة رتيبة متوالية. وهكذا عشن على أمل العودة إلى حُضن الوطن الحنون ولكن الأوبة تطول وتطول ، فقد صادفهنّ – في مناسبات سابقة – انتشار الجائحة اللعينة لفيروس كورونا في مهاجرهنّ، وامتلأت قلوبهنّ بالرّعب، والهلع وأضحى حلم العودة إلى ديارهنّ نائياً بعيداً، فأصبحن كباقي إخوانهنّ وأخواتهن من المغاربة والمغربيات الذين علقوا على مضض في مختلف بلدان الله الواسعة. ويزداد الليل حلكة، والظلام سواداً في أعينهنّ، ويغدو النهارُ لظىً حاميَ الوطيس، وتصبح الأيام عندهنّ شهوراً، والشهور ردحاً من الزّمن الطويل العنيد الذي لا يني ولا ينتهي.
وفى الوقت الراهن قبيل انطلاق عمليات الهجرة “النظامية” إلى اسبانيا (في يناير2023) لهؤلاء العاملات الموسميات طفقت الاخبار تنتشر وتملأ الأسماع من جديد عن عودة الجائحة في صيغ جديدة (الموجة الخامسة) وعن لقاحات وتطعيمات آتية من “الصين” والتي تؤخذ عن طريق الأنف، هذه الاخبار أصبحت تثير الرّعب والهلع في القلوب على الرغم من التطمينات التي يقدمها قطاع الصحة في بلادنا في هذا الخصوص بلا هوادة.
وبعد أن تسرّبت – كما رأينا فيما نشرته جريدة “الباييس” الإسبانية آنفاً – عنهنّ أخبار لا تسرّ الخاطر، من تطاولاتٍ، وتهجّماتٍ، وهتكٍ للأعراض طالت بعضهنّ قهراً وقسراً دعت العديد من الجمعيات الحكومية وغير الحكومية في المغرب وإسبانيا وفى جهات أخرى من العالم إلى إدانة هذه الأعمال الشانئة التي لم تكن فى حسبانهنّ، حتى بلغ الأمر بالأمم المتحدة إلى التدخل بعد ان ذاعت وانتشرت الأخبار عن الظروف السيّئة، التي تعيشها العاملات الموسميّات في حقول الفراولة بشكلٍ خاص في (إقليم وِيلْبَا) جنوب إسبانيا، فوجّه المنتظم الدولي (الأمم المتحدة) انتقاداتٍ لاذعة لإسبانيا في هذا الخصوص، حيث كان أوليفيه دي شوتر، الذي يعمل مقرّراً للأمم المتحدة الخاص المعنيّ بالفقر المُدقع وحقوق الإنسان، أشار فيها: “يتعيّن على الحكومات المحلية الإسبانية أن تحسن على الفور الظروف المُؤسفة التي يعاني منها العاملات المهاجرات الموسميّات في الأحياء الفقيرة والأرباض الهامشية حول حقول الفراولة في إسبانيا قبل أن يموت الناس هناك”. وأكد المسؤول الاممي إبّانئذٍ على “الإدارات المحلية وأرباب العمل والشركات التجارية أن تبحث بشكلٍ عاجل عن إيجاد الحلول الناجعة والعاجلة لإنهاء الأوضاع المتدهورة التي يعيش في كنفها العاملات الزراعيات الموسميّات”. وجاءت هذه الانتقادات الأممية العلنية لإسبانيا بعد سلسلة من الحرائق التي كانت قد اندلعت وشبّت في بيوت العمال الموسميّين العاملين في ضيعات حقول الفراولة بإقليم وِيلْبَا الإسباني على وجه الخصوص .
والحالة هذه ينبغي توفير جميع الوسائل اللوجستيكية والاختبارات المصلية لفائدة جميع العاملات المغربيات الموسميات، بهدف الحفاظ على صحتهنّ وسلامتهنّ ذهاباً وإيّاباً وتوفير النجاح لهذه العمليات، في إطار مراعاة التدابير الصحية الجاري بها العمل، مع الأخذ بعين الاعتبار الاجراءات الاحترازية التي ينبغي مراعاتها عند ذهابهنّ وعودتهنّ من وإلى أرض الوطن الغالي .فضلاً عن ضرورة توفير جميع التدابير والإجراءات لسلامة المواطنات لتفادي الظروف الصعبة التي عشنها في التجارب السابقة خلال تواجدهنّ في الديار الإسبانية من كل نوع حتى تطلّب الأمر كما سبق القول تدخّل الأمم المتحدة لمطالبة إسبانيا بتوفير الظروف الحسنة لتلك الفئات الهشّة من المجتمع اللاّئي يعانين الفقر ، والعوز والخصاص سواء في البلاد التي قدموا منها أو في تلك التي انتقلن للعمل الفلاحي الموسمي بها.
أصداء وسائل التواصل الاجتماعي
وبناءً على ما سبق نرجو أن تكون ظروف سفرهنّ وعملهنّ وإقامتهنّ ميسّرة هذه المرّة في الديار الاسبانية خاصّة بعد أن قرأنا – وما زلنا نقرأ- العديد من المتابعات والتعاليق المتوالية التي نشرت في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي في هذا القبيل، وحتّى وإن كان العمل شرفاً لصاحبه كيفما كان نوعه وطبيعته فقد استنكر أصحاب تلك الوسائل الإجتماعية عملية مشاركة العاملات الموسميات المغربيات في الأصل في هذا النوع من العمل المُزري الذي يلطّخ سمعة البلاد، ويشوّه صورتها ويوحي وكأنّ الأمر يتعلّق ببلدٍ غارقٍ في براثن الفاقة والفقر والاحتياج والعوز، وطالب بعض المعلقين بإشراك الرجال في هذه العمليات، ووضع حدٍّ للمآسي التي عانينها العاملات الموسميات من قبل خلال تواجدهن في اسبانيا أو عودتهن إلى أرض الوطن ، والتي وصفها البعض بـ “المهزلة” فلعلّ أصحاب الضمائر الحيّة من أثرياء وأغنياء هذا البلد الميسورين، فضلاً عن هؤلاء الذين اختارهم الشعب المغربي طواعيةً ليتقلّدوا زمام الأمور ومقاليدها في هذا البلد الأمين يفتحون أبوابَ معاملهم، ومصانعهم ويشرعون مداخلَ حقولهم ومزارعهم وضِيَعَهم لأمثال هؤلاء الغارقين والغارقات في بؤر البؤس والخصاصة صوناً ومراعاةً لسمعة البلاد وحفاظاً على ماء وجهها وهي بلاد مشهود لها بتاريخها المجيد، وبماضيها التليد، وبتراثها العتيد .