هل يستطيع لبنان الخروج من أزمته في المستقبل القريب؟
د. وفيق ريحان
في ظل الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية و المالية و النقدية المتدهورة في لبنان حاليا” ، و في خضم المحاولات المتلاحقة من قبل حكومات العهد الحالي للإحاطة بتلك الازمات و إيجاد الحلول المؤقتة و الظرفية أو الطارئة لها دون جدوى . و في ظل تسارع إنهيار القيمة الشرائية للعملة الوطنية و تراجع القدرة الشرائية لدى غالبية الفئات من الشعب اللبناني و تآكل الرواتب و الأجور و إنخفاض قيمتها الفعلية بما لا يقل عن (80%) ، و إزاء كل ما يحصل من تجاذبات سياسية على صعيد المؤسسات الدستورية العليا في البلاد، لا سيما بين موقعي رئاسة الجمهورية و رئاسة مجلس الوزراء بالنسبة لتشكيل الحكومة المتعثر و تفسير الدستور حول صلاحيات كل منها بطرق مختلفة ، لا سيما نص المادتين (52 و 64) من الدستور اللبناني و بروز الثغرات و العراقيل على هذا الصعيد ، بينما ينوء الشعب اللبناني تحت ضغط المعيشة و جائحة الكورونا و ظروف الحياة التي تزداد تعقيدا” يوما” بعد يوم ، و الحديث يطول عن تلك الأزمات ، و حيث يزداد إرتفاع سعر الدولار السوقي بصورة مطردة تجاه العملة الوطنية . بناء على ما تقدم ، فهل نرى في الأفق أو المستقبل القريب أملا” بإعادة السيطرة على مقاليد الأمور في لبنان ، و لجم حالة التضخم المتفاقمة ، و إيجاد حلول ناجعة و ثابتة للحالة الإقتصادية و المالية و الإجتماعية المتردية التي يعيشها المواطن و الوطن في المستقبل القريب ؟ أم أن البلاد سوف تزداد إنحدارا” على جميع الأصعدة ، و بما لا يحمد عقباه وصولا” الى الإنهيار الشامل على جميع الأصعدة؟ لذلك ، لا بد هنا من الإشارة الى أوضاعنا و تجاربنا السابقة و الى البرامج و الأساليب التي إعتمدت في محاولات الإفلات من الأزمات و السيطرة عليها لمدة طويلة أو قصيرة ، في محاولة لإلقاء الضوء عليها و محاولة الإفادة منها قدر المستطاع ، أو اللجوء الى إبتكار أساليب و برامج أو خطط حديثة ، قد تكون مختلفة عن سابقاتها ، أو قد تتقاطع مع البعض منها بنسب و أشكال مختلفة .
أولا” : تاريخ الأزمات الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية في لبنان ما قبل الطائف :
تجدر الإشارة بداية الى أن هذا الوطن ، دولة و شعبا” و مؤسسات لم يشهد إستقرارا” دائما” أو ثابتا” منذ ولادة دولة لبنان الكبير ، أو إنبثاق ميثاقه الوطني منذ العام 1943 ، فهو بلد الأزمات المتكررة بشكل عام ، و بالتالي ، فهو لم يشهد إستقرارا” في بنيته الإقتصادية و المالية و حتى الإجتماعية . نظرا” للأحداث المتعددة و شبه المتواصلة منذ ذلك الوقت و حتى تاريخه ،دون أن ينفي ذلك طبيعة الإقتصاد الحر و النظام القائم على المبادرة الفردية و حرية التجارة في ظل الإنفصال النقدي عن سوريا عام 1948 ، و من ثم الإنفصال الجمركي عنها عام 1950 ، و الميل الشبه الدائم لدى اللبنانيين للإنخراط في قطاع الخدمات ، الى جانب القطاعات الإنتاجية الأخرى من زراعة أو صناعة أو تجارة خارجية . مع الإشارة الى ما أصاب تلك القطاعات من خلل بنيوي في طبيعتها أو في هيكليتها من وقت لآخر تبعا” للأحداث المتكررة ، فمنذ نكبة فلسطين عام 1948 ، و دخول لبنان في إتفاقية الهدنة مع العدد الإسرائيلي عام 1949 الى جانب دول الطوق في كل من سوريا و الأردن و مصر العربية . مرورا” بالحوادث الأمنية و السياسية عام 1958 ، و أزمة ” بنك انترا” عام 1966 ، و حرب حزيران عام 1967 مع العدو الاسرائيلي ، و حوادث العام 1973 العربية و الداخلية و ما رافقها من إنقسامات و إرتدادات أخذت طابعا” ، سياسيا” و إجتماعيا” و أمنيا ” وصولا” الى الحرب الأهلية بين أبناء الوطن عام 1975 ، و التي أخذت بعدا” طائفيا ” و سياسيا ” و الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 ، و حرب الجبل عام 1984 ، بحيث إنعكس ذلك بصورة سلبية على مختلف الأصعدة من حوادث أمنية و كوارث إقتصادية و إجتماعية و إنسانية ، و فرزا” للمناطق على أساس طائفي و مذهبي، و إندلاع حروب مدمرة إمتدت زهاء خمسة عشر عاما” ، قضت على مجمل إمكانيات البلاد و قدراتها الإنتاجية و الإقتصادية و المالية ، و ساهمت في إنهيار قيمة النقد الوطني و إرتفاع بنسبة عجز الموازنة الى حدود ال (50%) عام 1991 ، و بالإضافة الى الخلل الكبير في الميزان التجاري و هجرة الأدمغة و الرساميل و المؤسسات الإنتاجية الى خارج البلاد ، و دخول البلاد في الأزمات المستعصية ، في الوقت الذي حافظت فيه بعض القطاعات الإقتصادية و المالية على استمراريتها رغم الحروب و الأزمات ، لا سيما على صعيد القطاع المصرفي و بعض القطاعات الإنتاجية المتبقية من صناعية أو زراعية أو خدماتية مختلفة. الى أن حصلت التسوية السياسية بإرادة خارجية من قبل الولايات المتحدة الاميركية و النظامين السعودي و السوري ، و حيث عقد الإتفاق على إنهاء حالة الحرب في لبنان ، في” مدينة الطائف” في المحكمة العربية السعودية، و بمشاركة من جميع الأقطاب السياسية و ممثلي الطوائف الرئيسية في لبنان، حيث وضع دستور جديد للبنان سمي بدستور الطائف ، عام 1990 ، و دخل لبنان في مرحلة جديدة ، سادها بعض الهدوء النسبي و الإستقرار الإقتصادي و الإجتماعي و الأمني ، و إعادة بناء البنى التحتية المادية و الإدارية و محاولات النهوض الإقتصادي بالبلاد التي واجهتها صعوبات لا تقل أهمية عما يحصل اليوم .
ثانيا ” : مرحلة ما بعد إتفاق الطائف : ( 2005-1990 )
في إطار خطة النهوض الإقتصادي و إعادة الإعمار في لبنان ، تضافرت جهود دولية لإخراج لبنان من آثار الحرب الأهلية المدمرة. من أجل إعادة بناء و ترميم البنى التحتية للقطاع العام و إعادة تأهيلها لتشمل كافة القطاعات العامة و الخاصة في البلاد ، و من أجل السيطرة على العجز المالي المتفاقم في الموازنة العامة للدولة ، و تنشيط الإستثمارات و القطاعات الإنتاجية على إختلافها ، الى ما هنالك من الأهداف الإقتصادية و الإجتماعية و التنموية الشاملة ، و حيث لعبت القروض و المساعدات و الهبات العربية و الدولية الدور الأساسي في إعادة البناء و النهوض بالإقتصاد الوطني ، في جو من الثقة و الإستقرار النسبي الذي رافق خطة النهوض الإقتصادي ، و قد ساهمت لجنة من الخبراء الإقتصاديين في عهد الرئيس “إلياس الهراوي” في وضع الدراسات و التصورات حول إمكانية إنقاذ البلاد من حالة العجز و التضخم المالي آنذاك ، كما وضع ” مجلس الإنماء و الإعمار” الخطة الإستراتيجية العامة للنهوض الإقتصادي ضمن إطار الخطة العامة لإعادة الإعمار ، و التي كلف بالتخطيط لها ووضع البرامج المرحلية لتنفيذها خلال عشر سنوات ، ( تبدأ من العام 1992 حتى نهاية العام 2002 ) و بالمشاركة مع شركتي (باكتل و دار الهندسة) للمشاركة في عمليات التخطيط و الهندسة ، وذلك وفقا” لما يلي :
أ – لقد إعتمدت هذه الخطة على مصادر تمويلية ثلاثة ، هي التالية:
1 – القروض و المساعدات الدولية و العربية للبنان و من المنظمات و الصناديق المالية الخارجية الممولة للإستثمارات المختلفة .
2 – الإقتراض من الموردين و من البنوك التجارية الداخلية و من إحتياطي القطع لدى مصرف لبنان ، وودائع المودعين المقيمين و المغتربين.
3 – عبر تأسيس “الصندوق الدولي لإعمار لبنان” ، و المساعدات و الهبات العربية تطبيقا” لإتفاق الطائف ، و بما يكفي لتمويل كل مشروع بكامله كي يتمكن من الإستمرار و إعطاء النتائج المرجوة .
وقد قدرت تكاليف الخطة العشرية ب (12,9 مليار دولار أميركي ) و كان أفضلها القروض الميسرة و على فترات زمنية بعيدة المدى (من 20 الى 30 سنة ) و بفائدة متدنية ، مع فترة سماح ( من 3 الى 5 سنوات ) ، مع إحتواء بعض الإتفاقيات على نسبة هبة و مساعدة وصلت أحيانا” الى حدود ال (30%) من قيمة القرض. و قد لعب “البنك الدولي” دورا” إستشاريا” هاما” على هذا الصعيد .بالإضافة الى دور “صندوق النقد الدولي” الذي إقتصرت مساعداته على التقديمات العينية . كما لعبت صناديق التنمية العربية دورا” لا بأس به لجهة تأمين القروض و المساعدات للدولة اللبنانية ، (كالبنك الإسلامي للتنمية و وكالات تمويل وضمان الصادرات عبر القروض و خطوط التسليف و سواها ) .
ب – وقد قسمت الخطة العشرية لإعادة الإعمار الى ثلاث مراحل(1995 – 1992 ) و ( 1998 – 1996 )
( و من العام 1999 الى العام 2002 ) … و حيث خصصت المرحلةالأولى لإستقطاب الأجزاء الأولى من القروض و المساعدات و الهباتالخارجية لتمويل بناء مشاريع الخطة في نطاق البنى التحتية المادية و الإجتماعية ( مياه – كهرباء – إتصالات – طرقا
و خلال حزيران من العام 1993 ، عقد مؤتمر في فندق “السمرلند” حول مستقبل القطاع السياحي في لبنان للنظر في إمكانية إعادة تفعيله بحيث كان يغطي قرابة (20%) من الدخل الوطني قبيل الحرب الأهلية عام 75 . كما عقد مؤتمر آخر في شهر تموز من العام 93 ، أطلق عليه تسمية “المؤتمر الحدث ” في ذات المكان برعاية رئيس مجلس الوزراء آنذاك الشيخ رفيق الحريري ، حضره أكثر من ( 200 مستثمر خليجي و رجال أعمال عرب ) للإطلاع على الخطط التنموية و الإستثمارية و المساهمة بها بالمشاركة مع رجال أعمال لبنانيين أو أجانب و حيث شجعت الحكومة اللبنانية قيام الشركات الإستثمارية بين لبنان و دول الخليج العربي للإسهام في تلك المشاريع .
ج – أما الدول الأساسية التي ساهمت في تقديم القروض و المساعدات الى لبنان ، فكان أبرزها عربيا ” ( الكويت – السعودية –و دول الخليج العربي و سوريا و جمهورية مصر العربية) . بالإضافة الى تمويل الصناديق العربية ( الصندوق الكويتي للتنمية و الصندوق العربي للإنماء و المصرف الإسلامي للتنمية و خلافها ) أما الدول الأجنبية ، فهي تبعا” لأولوياتها ( إيطاليا – فرنسا – اليابان –الم
أما الصناديق و المنظمات الدولية الداعمة ، فهي على سبيل المثال : (الوكالة الأميركية للتنمية – صندوق أوبيك للتنمية – منظمة الفاو – برامج الأمم المتحدة للإنماء – البنك الدولي – السوق الأوروبية المشتركة – البنك الأوروبي للتنمية –المؤسسة المالية الدولية التابعة للبنك الدولي – و منظمة أوبيك و صندوق النقد الدولي ).
د – لقد ساهمت هذه الخطة بوجه عام في إعادة البناء و النهوض الإقتصادي في إعادة الثقة الدولية بلبنان خلال السنوات العشر الأولى ، وازدهرت القطاعات الخدماتية و المصرفية و السياحية و العقارية على وجه الخصوص ، و حصل بعض التقدم على مستوى الدخل الوطني ، و انخفض عجز الموازنة تدريجيا” حتى (%31) تقريبا” ، وانتعشت الحركة الإقتصادية في البلاد بوجه عام ، و تعززت سلطة الدولة المركزية في مختلف المرافق العامة للدولة ، علما” بأن تلك الفترة لم تخل هي أيضا” من بعض الإنتكاسات الأمنية (عدوان اسرائيل عام 1993 و عام 1996 “تفاهم نيسان” في ظل حكومة الرئيس رفيق الحريري و حوادث أمنية أخرى متفرقة ) . كما حصل تطوير و تحديث في بعض الإدارات العامة المدنية و العسكرية (الأمن العام – الأمن الداخلي – الجيش – المالية – ال
قطاع الكهرباء لإنتاج الطاقة و قطاع النقل ، و المواصلات و خلافها .
ثالثا” : (مرحلة ما بعد العام 2005) بعد عملية إغتيال رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري في 14 شباط من العام 2005 ،
دخل لبنان في مرحلة جديدة بالغة بالتعقيد و الأزمات و الإهتزازات الأمنية . لا سيما بعد خروج القوات السورية من لبنان صيف العام 2005 بصورة نهائية تبعها العدوان الاسرائيلي على لبنان صيف العام 2006، حيث شهدت الساحة الداخلية المزيد من التشنجات التي انعكست بصورة سلبية على المستوى الأمني و الإقتصادي و السياسي و الإجتماعي ، كما إزدادت وتيرة الفساد في الإدارة العامة ، بحيث كان الدين العام حتى نهاية العام 2005 بقدر ( ثمانية و عشرين مليار دولارا” أميركيا”) في ذلك الوقت ، لكنه أصبح اليوم يتجاوز عتبة المئة مليار دولار أميركي ، وذلك دون أي تقدم على مستوى البنى التحتية المادية او الاستثمارية في ظل حكومات لم تكلف نفسها عناء اعداد الموازنات العامة و قطوعات الحساب منذ العام 2004 و حتى العام 2017 ، وذلك دون اي تدخل من قبل السلطة التشريعية المسؤولة تجاه الرقابة على اداء الحكومات المتعاقبة و على حسن أداء الوزراء في إداراتهم و الصفقات العمومية التي لم تخل من التواطؤ أو السرقات و الإثراء غير المشروع على حساب المال العام ، ولربما كان السبب الاساسي يكمن في اسلوب المحاصصة بين افرقاء السلطة الحاكمة التي شكلت منظومة للفساد بوجه عام ، وانعكس ذلك سلبا” على جميع المرافق العامة و تأدية الخدمات للمواطنين على إختلافها ، و تراجع الاستثمارات و سيادة الفوضى و اعمال العنف و العمليات الإرهابية .في ظل الحروب المدمرة في سوريا و انعكاساتها السلبية على الواقع اللبناني في مختلف جوانبه . و حيث تزداد ميول الطوائف في المرحلة الأخيرة لإعتماد صيغة الفيدرالية مما يزيد الطين بلة لجهة اضعاف دور الدولة المركزية و الميل نحو المزيد من الانقسامات الطائفية و المذهبية و المناطقية التي تأخذ بعدا” سياسيا” بين مكونات المجتمع اللبناني .
ه – لقد بدأت وتيرة التدهور الإقتصادي و المالي و الإجتماعي بصورة متسارعة و دقيقة منذ بداية العام (2018) حيث إرتفعت حالة التردي الإقتصادي و زيادة نسبة البطالة ، و تراجع الإيرادات العامة و ارتفاع نسبة العجز في الموازنة العامة لتصل الى حدود ( %46) في ذلك العام ، وارتفاع نسبة التضخم ، الى جانب أزمات القطاع العام و السكن و الهجرة و التلوث البيئي و تراجع الخدمات الإنمائية و اعتماد سياسة التقشف و عصر النفقات على صعيد الموازنة ، ومحاولات فرض المزيد من الضرائب و الرسوم لتخفيف العجز في الموازنة العامة، و فشل محاولات الحصول على قروض إضافية من الدول الصديقة بسبب فقدان الثقة العربية و الدولية بالنظام السياسي و الطبقة السياسية التي تدير السلطة في لبنان ، و التشدد في فرض الشروط القاسية في حال الموافقة على تقديم بعض المساعدات أو القروض للدولة اللبنانية المتهاوية ، وصولا” اليوم الى أزمة تشكيل الحكومة بين أطراف السلطة المتناحرة .
رابعا” : كيف يمكن للبنان أن يجتاز المرحلة الراهنة
لا يخفى على أحد مدى الصعوبات و التعقيدات التي يمر بها لبنان في هذه المرحلة الدقيقة و الحساسة ، لا سيما بعد حادثة الإنفجار في مرفأ بيروت في 4 آب من العام 2020 ، و انعكاساته الخطيرة على الوضع الإقتصادي للدولة في أهم مرافقها الحيوية ، و على الأوضاع الإجتماعية و الإنسانية لعائلات الضحايا ، و على المالية العامة للدولة و ميزان المدفوعات . بالإضافة الى التراجع الخطير و المستمر في القيمة الشرائية للعملة الوطنية ، و الأزمة النقدية و المصرفية ، و إحتجاز أموال غالبية المودعين و تهريب قسم كبير من ودائع النافذين في السلطة و المصرفيين و كبار رجال الاعمال نحو الخارج، و أزمة السيولة النقدية بالعملات الأجنبية عدا عن تخلع الإدارة العامة و فسادها المتواصل و عجز الحكومات المتعاقبة عن إيجاد المخارج و الحلول للأزمات المتفاقمة بوما” بعد يوم . و فشلها في إقناع المجتمع الدولي بالحصول على بعض القروض و المساعدات الميسرة من أجل تجاوز تلك الأزمات، و زيادة ضغط المجتمع و الشارع عليها من أجل تأمين أبسط الحقوق و الخدمات الإجتماعية و الإدارية و المعيشية و الصحية ، في جو من الإحتقان و الغليان ضد منظومة الفساد التي ما زالت تمسك بزمام السلطة و الدفاع المستميت عن إمتيازاتها السابقة دون إفساح المجال أمام المجتمع المدني في تحقيق بعض أهدافه الإصلاحية و المحقة ، و التي تتمحور حول قيام الدولة المدنية ، و إقرار قانون إنتخاب خارج القيد الطائفي و على قاعدة النسبية الأكثر عدالة في الدائرة الموسعة أو الدائرة الواحدة ، و إعادة الودائع الى أصحابها بالطرق القانونية ، و المطالبة بالقضاء المستقل الذي يشكل العمود الفقري لإعادة الثقة بلبنان و بمؤسساته الرسمية ، و الذي يشكل الضمانة القانونية و الواقعية لحقوق الأفراد و أشخاص القانون العام، ناهيك عن المطالبة بالمساعدات المادية و تأمين فرص العمل و الحد من ظاهرة الهجرة التي فاقت عام 2020 كل التصورات المنطقية . كما أن وباء الكورونا و التدابير و الإجراءات التي تعتمدها الدولة للحد من أخطاره ، تنعكس هي أيضا” بصورة سلبية على الواقع الإقتصادي و الإجتماعي في ظل عدم التوافق الداخلي بين أقطاب السلطة و الزعامات السياسية التقليدية على تشكيل حكومة قادرة على إنقاذ البلاد من مآسيها و كوارثها و أزماتها التي لا تعد و لا تحصى. كما أن “المبادرة الفرنسية” من قبل دول الإتحاد الأوروبي لتقديم المساعدة للحكومة المرتقبة ، ما زالت هي الأمل الوحيد في الحصول على المساعدات أو القروض الخارجية ، بالإضافة الى بعض تقديمات “صندوق النقد الدولي” ، في حال إستطاعت هذه الحكومة أن تتعهد بالإلتزام بالشروط و الإصلاحات الأساسية التي عبر عنها موفد الرئاسة الفرنسية ، لضمان الإتفاق على تقديم تلك المساعدات، و التي أصبح الحصول عليها في غاية الصعوبة أو التعقيد نظرا” لعدم التوافق الداخلي على تحديد المسار الموحد للبنان على صعيد العلاقات الخارجية العربية و الدولية ، و على صعيد الخطط و البرامج الإنمائية الداخلية و غير المتوفرة حتى الساعة . فمن أين سيأتي الخلاص لهذا الوطن المنكوب على أكثر من صعيد ؟
و تجدر الإشارة هنا الى أهمية التوافق العام الداخلي على رسم الخطوط العريضة حول المرحلة القادمة ، و التي ينبغي ان تصب في خدمة المصلحة الوطنية العليا ، والتي ستشكل القاعدة الرئيسية للتفاهم على أساسها مع الخارج، و تضافر الجهود من أجل إنقاذ الوطن من محنته القاسية ، لأن أصدقاءنا في العالم أصبحوا قلة ، عدا عن فقدان الثقة بالطبقة السياسية الراهنة ، و حيث يستدعي ذلك إحداث تغييرات جوهرية في بنية النظام السياسي ، لإعادة لبنان الى موقعه الطبيعي في هذا الشرق ،في جو من الإستقرار و الأمان و الثقة المتبادلة مع الدول و المنظمات التي تنوي مد يد المساعدة للبنان ، و إقناع المغتربين بالمساهمة في الإستثمارات الداخلية بعد إنصافهم بالنسبة لودائعهم المحجوزة في المصارف اللبنانية و المجهولة المصير حتى تاريخه . لأن تحويلات المغتربين و إسهامهم في رفد المصارف اللبنانية و المالية العامة للدولة عبر المصرف المركزي ،ما زالت هي الوسيلة الأساسية في تحسين ميزان المدفوعات و تنشيط حركة الإستثمارات الداخلية و إنعاش الوضع الإقتصادي في لبنان .
في ظل هذا الواقع الأليم ، لا بد من الإشارة الى ورقة الإصلاحات الهيكلية التي تقدم بها سابقا” رئيس مجلس الوزراء المكلف حاليا” الشيخ سعد الحريري ، و التي تنسجم الى حد بعيد مع مطالب و شروط صندوق النقد الدولي و اقتراحات الرئيس الفرنسي “ماكرون” ، مع الميل الى خصخصة بعض المرافق العامة التي لا نرى فائدة منها في الوقت الراهن ، لأنها سوف تشمل القطاعات المنتجة الأساسية مثال ( قطاع الإتصالات و النقل الجوي و كازينو لبنان ) و التي ترفد المالية العامة للدولة بالسيولة النقدية ، و قطاع الكهرباء الذي أصبح في أشد أزماته ، و حيث يستدعي ذلك ما يلي :
أ – على المستوى القانوني و القضائي :
1 – العمل سريعا” على إصدار قانون استقلالية القضاء بالسرعة اللازمة و اصدار مراسيمه التطبيقية بعد تشكيل الحكونة العقيدة .
2 – إستكمال إقرار جميع النصوص القانونية المتعلقة بالحد من الفساد الإداري و المالي ، ومحاسبة رموز الفساد و إسترداد الأموال المهربة و المنهوبة وقيام الهيئة العليا لمكافحة الفساد بواجباتها على هذا الصعيد .
3 – إستكمال التحقيقات الجنائية و الادارية الجارية في قضية إنفجار مرفأ بيروت و مصرف لبنان و سائر الإدارات و المؤسسات العامة، و محاسبة المسؤولين عن مكامن الهدر و الفساد، و تقعيل دور المحاكم الادارية و العدلية بالشكل المطلوب .
4 – إستكمال تشكيل “المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء و الوزراء” و إصدار النصوص القانونية المتعلقة بنظامه الداخلي و أصول المحاكمة أمامه، و تحديد صلاحياته بدقة و عناية.
ب – على الصعيد المالي و المصرفي :
1 – بذل الجهود للحفاظ على ما تبقى من الودائع المصرفية و المحافظة على إستقرار سعر الصرف للعملة الوطنية تجاه العملات الأجنبية من خلال أساليب علمية مبتكرة، يقوم بها أصحاب الإختصاص في الحكومة المرتقبة و ترشيد عمليات الدعم و عدم المساس بالإحتياط الإلزامي لدى مصرف لبنان و إحتياط الذهب الخاص به .
2 – بذل الجهود المحلية و الدولية لإسترداد الأموال المهربة و المنهوبة و إعادتها للخزينة العامة للدولة ، ولأصحاب الحقوق بكافة الطرق القانونية و الدبلوماسية ، و إرغام المصارف على إعادة الأرصدة المهربة تحت طائلة انزال اشد العقوبات بها في حال عدم الالتزام و مصادرة جميع اموالها و ممتلكاتها ضمانا” للودائع.
3 – العمل على تخفيض عدد المصارف التجارية ،و تصفية العديد منها وفقا” لتصنيفها ماليا” و مصرفيا” ، و دمج المصارف الباقية في عدد لا يتجاوز عدد أصابع اليد ، و إعادة رسملة المصارف الباقية بما يكفي لإعادة الثقة بها و إحياء دورها الضروري في عمليات التسليف الصناعي و الزراعي و التجاري و الإسكاني و خلافه .
4 – إلزام المصارف بالإستجابة للأحكام القضائية التي تتعلق بحقوق المودعين و المقترضين و أصحاب الحقوق ، و فرض الجزاءات بحقها في حال إمتناعها أو تخلفها عن ذلك وفقا” لبرنامج زمني تعده الحكومة العتيدة بعد استشارة اصحاب الخبرة على هذا الصعيد.
ج – على الصعيد الإقتصادي و الإجتماعي و التربوي :
1 – العمل على تشجيع الإستثمارات في القطاعات الإنتاجية و الخدماتية من خلال خطط و برامج تمويلية محلية و دولية ، و الإهتمام الكبير بقطاعي إنتاج الطاقة الكهربائية و الإتصالات ، لما لها من أهمية في مجال الاستثمار و الانتاج عل كافة الاصعدة ، و ابتكار الطرق الحديثة في أساليب التعاقد و عقد الصفقات العمومية ، و إستمرار البحث في عمليات التنقيب عن الغاز و النفط في بحرنا الإقليمي ضمن خطط منهجية مدروسة و بالمشاركة مع الشركات العالمية ذات الخبرة و الاختصاص.
2 – تطوير طرق و أساليب العمل في الإدارة العامة و المرافق العامة لتتماشى مع تطورات العصر ، و إشراك القطاع الخاص في مشاريع الإستثمار التي تقوم بها الدولة ، لا سيما في قطاع النقل و المواصلات و إنتاج الطاقة و الخدمات الجمركية و ما شابه .
3 – الإهتمام بالجامعة اللبنانية الوطنية ، و المدرسة الرسمية و تطوير برامجها العلمية و الاكاديمية لتتماشى مع العصر، و تخفيض كلفة الإنتساب إليها . بالإضافة الى إعادة العمل بدور المعلمين و كلية التربية لإعداد الكادرات التربوية في شتى المجالات و تخصيص منح للتخصص في الخارج ، و تعزيز الإتفاقيات مع الدول ذات الصلة .
4 – الإهتمام بالشأن الإجتماعي المتفاقم سوءا” ، و تعزيز دور وزارة الشؤون الإجتماعية و وزارة التربية و الاهتمام بشؤون الصحة و البيئة و إطلاق المبادرات بالمشاركة مع المجتمع الأهلي و الجمعيات و الأندية و البلديات و الاتحادات البلدية و النقابات المهنية و العمالية.
5 – دعم و مساندة السلطات المحلية للقيام بدورها الإنمائي ، و تقديم المساعدة لها و عدم تأخير دفع مستحقاتها من الصندوق البلدي المستقل ، و إحياء مجالس الأقضية التي نص عليها إتفاق الطائف و تعزيز اللامركزية الإدارية بكافة أشكالها و أساليبها المتاحة .
د – على المستوى الإداري و التنظيمي:
1 – إحداث إصلاحات هيكلية في إدارة مصرف لبنان و مجلسه المركزي و لجان الرقابة على المصارف ، لإعادة تطهيره من الفساد و تعزيز دور اللجان الاستشارية من ذوي الخبرة و الاختصاص على هذا الصعيد .
2 – تعزيز دور الهيئات الناظمة في القطاعات الحيوية ( الكهرباء –الإتصالات.
3 – إعادة إحياء وزارة التصميم و التخطيط العام و دمج مجلس الإنماء و الإعمار فيها أو الإستغناء عنه و إعتماد أساليب حديثة في عقد الصفقات العمومية و تحديث قانون المحاسبة العمومية و القوانين و الانظمة المرادفة له .
4 – تشكيل الحكومات من أصحاب الخبرة و الإختصاص و بصورة منفصلة عن المجلس النيابي ، لكي يتسنى لهذا المجلس من إجراء رقابته عليها بصورة فاعلة ، و تقليص عدد الوزارات الى حدود العشرين وزارة و إلغاء مناصب وزراء الدولة.
5 – تحديث العديد من القوانين و الأنظمة الإدارية و التنظيمية ، و تعزيز دور المكننة في تفعيل عمل الإدارة العامة و المؤسسات العامة و البلديات .
6 – إعادة النظر في تشكيل أجهزة الرقابة الإدارية و المالية على الإدارات و المؤسسات العامة ، وتحديث انظمتها و ملء الشواغر العديدة فيها ، و تفعيل دورها الى جانب الأجهزة القضائية المختصة ، و فصل إدارة المناقصات عن إدارة التفتيش الركزي و إعطائها المزيد من الإستقلالية و توسيع دورها و صلاحياتها لتطال المؤسسات العامة الكبرى و إتحادات البلديات و ربطها مباشرة برئاسة مجلس الوزراء أسوة بديوان المحاسبة.
7 – تكثيف الجهود الأمنية و السياسية و الدبلوماسية من أجل إعادة النازحين السوريين الى الأماكن الآمنة في وطنهم بالتنسيق و التعاون مع الحكومة السورية ، و بذل الجهود المكثفة لضبط الحدود بين لبنان و سوريا و منع عمليات التهريب الحاصلة وضبط المعابر الجمركية بطريقة أفضل مما هي عليه اليوم.
إن هذه الإجراءات الإصلاحية ، من شأنها أن تعيد الثقة الى لبنانداخليا” و خارجيا” ، لكنها تحتاج الى إرادة الشرفاء من أبناء هذا الوطن ، للدفاع عن مصالحه الوطنية العليا بعيدا” عن الطائفية و المذهبية و الفئوية و أسلوب المحاصصة الذي كاد أن يقضي على ما تبقى من هذا الكيان الهجين . و المبادرة الى إعداد الخطط و البرامج الاقتصادية و الإنمائية و النقدية بالإستعانة بالخبراء اللبنانيين و الخارجيين تمهيدا” لإطلاق عملية نهوض إقتصادي و إجتماعي في المستقبل القريب في ظل حكومة تجسد آمال و طموحات اللبنانيين الذين عانوا الكثير من إهمال و فساد الحكومات المتعاقبة و يتطلعون نحو مستقبل أفضل آمن و مستقر للأجيال الصاعدة.