الجارة نور الهدى .. وقبلة عبد الوهاب

الجارة نور الهدى .. وقبلة عبد الوهاب

جورج الراسي

على طرف ذلك الشارع الصغير والوديع (المدور في منطقة الأشرفية)، وعند منعطف مواجه لحرش الصنوبر، وعلى بعد مئني متر من “فيللتنا”، وفي بيت متواضع من طابقين، زهري اللون، متآكل الجدران، كانت تقيم أميرة  من أميرات الطرب العربي الأصيل، جارتنا نور الهدى.

بهذا الإسم عرفها الجمهور المتذوق لطرب أصبح  في عداد المفقودين، إسمها الحقيقي الكسندرا نقولا بدران. من مواليد 20 أيلول ــــ سبتمبر  1924 وفق المصادر اللبنانية،  او 20 كانون الأول ــــ ديسمبر من العام نفسه حسب المصادر المصرية.

ولدت في تركيا لأب كان يعمل في قطاع البناء. وقد ظهرت عليها منذ الطفولة أعراض الموهبة الفنية، لكن أمها رفضت ان تجاريها في ميلها إلى دراسة الموسيقى بناء على نصيحة الأقارب،  خوفا من معارضة الأب لهذه الفكرة .

غير ان عمل الأب في مدينة طرابلس، بعيدا عن الأسرة، سمح لها بتلقي تعليما موسيقيا أوليا على يد عازف الكمان خالد ابو النصر الذي نجح  في إقناع والدتها بإقامة حفلة لطفلة التاسعة في دار سينما “كريستال”  في بيروت، على أن تغني قصيدة بعنوان “سل الليل عن سهري” من ألحانه.

اول “علقة” على يد الأب

في نفس يوم الحفل، إضطرت الأم لإخبار زوجها بهذا الإتفاق خوفا من ان يكتشفه بنفسه وما سيستتبع ذلك من عقاب. فما كان من الأب الا ان هرول إلى دار السينما، وما ان انتهت إبنته من وصلة الغناء، حتى اندفع  إلى الكواليس وأشبعها ضربا وإصطحبها معه إلى مدينة طرابلس حيث يعمل.

لكنه مع الوقت بدأ يلين أمام إصرار إبنته وتقدمها في سنوات العمر، بشرط وحيد هو ان يتم كل شيء بإشرافه وتحت بصره .فما لبثت ألكسندرا   أن عاودت تلقي دروس العود ولكن هذه المرة على يد الفنان السوري عمر نقشبندي ، إضافة إلى دروس الإلقاء على يد الأستاذ بكري كردي.

 أقامت بعد ذلك عدة حفلات في سورية في ملهى  “اليسمارو” وفي  مسرح “العباسية”، وتواصلت تنقلاتها بين المدن السورية مع تزايد الحفلات التي تشارك فيها في دمشق وحلب وحمص واللاذقية إلى أن قضى الله أمرا كان مفعولا.

يوسف وهبي المنقذ

حدث حينها أن قام الفنان المصري يوسف وهبي برحلة إلى بلاد الشام مع أفراد فرقة “رمسيس” فنظم له أصدقاؤه حفلا ترحيبيا في مدينة حلب غنت فيه ألكسندرا  بدران فأعجب بها وهبي صوتا وشكلا، فما لبث أن وقع مع والدها “مدير أعمالها” عقدا مدته خمس سنوات لصالح شركة “نحاس فيلم”، وغادر سورية وهو على يقين انه عثر على “كنز” ووعد بأن يرسل للفتاة ووالدها تأشيرة لدخول مصر في غضون شهر على الأكثر، لكن الشهر إمتد إلى ثلاثة وأيقن الجميع أنه عدل عن رأيه، فتعاقدت الكسندرا مع مطعم بشرط جزائي قدره 50 الف ليرة سورية (يوم كانت الليرة تحكي).

فجأة ودون سابق إنذار وصلت التأشيرة مع استدعاء عاجل من طرف يوسف وهبي . لكن لم يكن من الممكن دفع البند الجزائي المنصوص عليه في العقد. وبات بحكم المؤكد أن تبقى الفنانة الموهوبة في دمشق، وتحرم من صفقة العمر.

لكن راقصة لبنانية تدعى ملكة جاجاتي كانت صاحبة المطعم عرفت  بالأمر، فألقت إلى الفنانة الشابة بنت الــ 18 عاما بطوق النجاة، حيث أنها قامت بتمزيق العقد وقالت لها انها لا يمكن أن تقف حائلا أمام شهرتها.

                     مسيحية ومسلمة .. نور وهدى

وصلت الكسندرا بدران إلى القاهرة  في شهر تشرين الثاني ــــ نوفمبر من عام 1942. تصادف ذلك مع ليلة السابع و العشرين من رمضان ـــ ليلة  القدر، فنذرت إن وفقها الله ان تصوم في ذلك اليوم من كل عام كأية فتاة مسلمة. وبالفعل ظلت وفية لهذا النذر حتى آخر رمضان في حياتها.

اما عن إسمها الفني الجديد  “نور الهدى” فتدور رواية طريفة تقول أن يوسف وهبي دعا مجموعة من أصدقائه الفنانين والسينمائيين ليعرفهم على  إكتشافه الجديد كان من بينهم المخرجان محمد كريم ونيازي مصطفى . وطلب من الحاضرين أن يساعدوه على إيجاد إسم فني لهذه القنبلة الجديدة .

توالت الاقتراحات إلى أن إنحصرت المفاضلة بين إسمي نور وهدى، هنا تدخل وهبي قائلا : “لماذا لا يكون نور الهدى؟.

كان ذلك إسما جديدا على الساحة الفنية إذ لم يكن من المعتاد ان يحمل الفنان إسما مركبا،أما نور الهدى فقد سعدت بهذا الإسم الجديد وكانت تردد دائما أنه يجمع بين ديانتين الإسلام والمسيحية، وتدلل على ذلك متسائلة: “أليس عيسى هو نور العالم، ومحمد هو هدى للعالمين”.

كان ذلك الكلام يعكس مدى شفافيتها وسماحتها فقد حافظت طيلة عمرها على ديانتها لكنها حفظت أجزاء كثيرة من القرآن الكريم، وقدمت العديد من الإبتهالات الدينية التي كان أشهرها:  “ربي سبح بحمدك كل شيء حي “.

هل كانت أم كلثوم شريرة؟

منذ ظهورها في فيلم “جوهرة” الذي تم عرضه في 8 آذار ـــ مارس   1943 وهو من إخراج يوسف وهبي ، شاركت نور الهدى  في 24 فيلما، كان آخرها فيلمي “حكم الزمان” من إخراج هنري بركات وبطولة عماد حمدي ، وفيلم “حكم قراقوش” أمام زكي رستم من إخراج فطين عبد الوهاب.

فجأة نور الهدى  تغادر مصر عام 1953، فهل كان ذلك برضاها ام رضخت “لحكم الزمان” و”حكم قراقوش”؟ 

أكدت نور الهدى في مناسبات عديدة أنها خرجت من مصر “بفعل فاعل ” وهي في اوج عزها ومجدها، وأكدت في أول وآخر حوار أجرته معها مجلة “نصف الدنيا”  في شهر نيسان ــــ ابريل من عام 1998 أنها واجهت حربا شرسة في القاهرة وان ام كلثوم ـــ ما غيرها ـــ أرسلت ذات يوم كلا من ليلى مراد ورجاءعبده ونجاة علي  إلى وزارة  الشؤون الاجتماعية  للإحتجاج على نشاطها الفني في مصر، وأجبرت فيما بعد على توقيع تعهد بعدم مشاركتها في الحفلات الخاصة والعامة.

وتضيف ان وجودها في مصر كان يثير حسد وغضب الكثيرين، لا بل إنها تعرضت لمساومات كثيرة على شرفها!

قبلة واحدة من عبد الوهاب

التربية الدينية الصارمة التي حصلت عليها ألكسندرا جعلتها شديدة الحساسية في كل ما يتعلق بسمعتها وهي تعترف ان الشيء الوحيد الذي  خسرته في هذا المجال كان “بوسة ” سرقها  منها “المايسترو” محمد عبد الوهاب .

ظلت في سنواتها الأخيرة تعيش منعزلة مع ذكرياتها في ذلك البيت المتواضع الذي هدمته الحرب اللبنانية مرتين .

كرمتها في نهاية العام 1997 السيدة منى الهراوي عقيلة رئيس  الجمهورية بعد أن نالت تكريما من طرف معهد العالم العربي في باريس.

إنسحبت من هذه الدنيا بهدوء عن 74 عاما، كما انسحبت من الحياة الفنية قبل خمسة وأربعين سنة. كان ذلك في 9 تموز ـــ يوليو  من عام 1998  في مستشفى ” لقديس  جاورجيوس” في بيروت على أثر تعرضها لالتهاب حاد في الرئة. الفارق بين الإنسحابين أن الأول كان آختياريا وقد حاولت صاحبته مرارا جعله مؤقتا، أما الانسحاب الثاني فقد كان قدريا غير مشفوع بحق العودة .

وفي الحالتين إفتقد الجمهور الفني صوتا ملائكيا قل نظيره في تأدية الطرب العربي الأصيل.

رغم سنوات الوحدة الطويلة التي عاشتها بخاصة بعد فراق الأب ثم الأم، فقد ظلت نور الهدى على موقفها في رفض الزواج حتى رحلت عن دنيانا.

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني