المعرفة والسلطة في أندلس القرن الحادي عشر  

المعرفة والسلطة في أندلس القرن الحادي عشر  

باريس- المعطي قبال

لا زالت الأندلس تلهم الفانتازمات، تنشط الحنين والإسقاطات على ماضي لم يفت بعد. فهي تارة أحد أقطاب التسامح الإسلامي، وتارة أخرى جنة عدن المفقودة التي لم نرث من بقاياها سوى قصور رهيفة وصدى بعيد لفن عيش مندثر، دون الحديث عن كونها كانت مسرحا لتقاتل مميت بين الإسلام والمسيحية. فالاندلس هي من بين المجالات القلائل التي أنجبت أساطير ثرية وفي نفس الوقت استيهامات متناقضة. هذه القطعة من أوروبا التي كانت تحت أمرة الإسلام، خلفت لحسن الحظ نصوصا ثمينة في شتى المجالات انكبت الباحثة وأستاذة تاريخ الإسلام الوسيط بجامعة نانتير، إيمانويل تيكسييه دو مينيل، على دراستها تحليلا وتفكيكا وذلك بالتركيز على الحصاد الثقافي الغني للقرن الحادي عشر لما تقاسمت، زهاء عشرين طائفة، مخلفات أو ما تبقى من  بلاد الخلافة. إنه موضوع بحثها الحامل لعنوان «المعرفة والسلطة في أندلس القرن الحادي عشر»، الصادر عن منشورات سوي.

الزمن الأندلسي كان زمنا لكل الأخطار في الوقت الذي كانت فيه تهديدات ملوك المسيحيين شمالا والمحاربين الأمازيغ جنوبا، كان زمن ابتكارية رفيعة سياسيا وأيضا ثقافيا. أقامت السلطة والمعرفة في هذا المسرح المميز روابط قوية ومتينة خلال القرن الحادي عشر الذي وجب استعادة تاريخه المعقد. جعل الأمراء من الثقافة مشروعا سياسيا، مختبرا للشرعية، طريقة للمنافسة بينهم، الشيء الذي ساعد على إثبات، ولمدة قرون، صورة الأندلس كقارة عالمة وبؤرة للعرفان.

مثل الأندلس كمثل الأطلانتيد التي حدد أفلاطون موقعها على ساحل مغارات هرقل. هي عادة ما ينظر لها كأرض عجيبة طورت العلوم، جنة مفقودة، لكنها كانت من وراء انبثاق أسطورة لا يزال صداها يصدح إلى يومنا هذ. لكن ثمة تعارض ما بين فريقين في مسألة «التسامح الأندلسي»: من جهة أولئك الذين يرغبون في تبيان أنه لا رابط بين الإسلام والعنف على اعتبار أنه وعلى الرغم من التراجيديات المعاصرة فإن العالم الإسلامي كان في لحظة ما متسامحا. ثم هناك المعسكر المعارض الذي يرى أن التسامح ليس بقيمة لكنه يسعى إلى التأكيد أن التسامح لم يوجد البتة تحت أية سلطة من سلطات الإسلام وبالأخص في الأندلس. لكن المعسكرين يقدمان فقط نظرة تلخيصية مختزلة للعالم الإسلامي، إذ لا يأخذان بعين الاعتبار العمق التاريخي والتطورات التي اعترت الأندلس. بالنسبة لهما فالأسطورة أفضل من التاريخ. لا يتدخل المتخصصون في دراسة العصر الوسيط في هذا النقاش لأنهم يعتبرونه مغلوطا وهم بذلك مخطئون. أولا لأن الرهانات السياسية والاجتماعية لمثل هذه المسألة هي في غاية الأهمية في هذه الأزمنة التي يوقد فيها مجرد ذكر الإسلام في فرنسا التهابات في النقاش. ثم لأن أصحاب السجال الذين خاضوا في الموضوع غالبا ما ينحون لإنكار وجود أي تعايش سلمي بين الديانات المتواجدة بالأندلس. يمارسون ذلك باسم التاريخ باستنادهم على قطع مرجعية تتماشى وتحاملهم على الديانة الإسلامية. لكن بعض الباحثين يجندون أدوات البحث العلمي الموضوعي سعيا إلى المساهمة في إقرار الطابع المركب للموضوع مع استحالة الاقتصار على أجوبة جاهزة. في هذا الإطار فإن النصوص جد أساسية ولا يمكن اعتبارها مجرد أوعية للمعطيات الخام. بل يجب تبيان تنوع وثراء هذه النصوص، كيفية التكامل والتناقض بينها، فهم وإدراك كيف، متى ولغاية من كتبت هذه النصوص، ما هي هندستها الداخلية، وكيف تم استقبالها؟

بفضل هذه النصوص لا تزال الأندلس تسمعنا صوتها القوي، كما تجسد موضوعا هاما للدراسة التاريخية بعد عدة قرون من الأبحاث، بحيث لا تزال تحظى بعمق تاريخي مستدام. عند نهاية القرن الثامن عشر سافر الرحالة الرومانسيون، الإنجليز والفرنسيون بخاصة  إلى روما وإلى الأندلس أيضا التي كان ينظر ينظر لها على أنها الشرق القريب. على مر القرن التاسع عشر ، كان السفر يتم إلى غرناطة، بحيث يتم البكاء والحسرة على قصورها المهجورة.. ثمة حنين إذا إلى فنون العيش وإلى ثقافة راقية لأن الأندلس كانت قطعة من أوروبا وبأن تاريخها مغلق وبأنها ليست تحت سيادة الإسلام وأنها أحد المرجعيات والينابيع التي تحتمل كل الإسقاطات.

 بعد أن عالجت الباحثة التكوينة الداخلية للتسامح الأندلسي، انتقلت لدراسة الزمن الذي تكونت فيه الهوية الثقافية للجزيرة. لماذا ومتى تم تحويل هذه الجزيرة الايبيرية إلى أرض لثقافة رفيعة؟  ابتداء من 756 أصبحت أرضا لمنفى السلالة الأموية التي طردت من الشرق جراء الثورة العباسية بعد أن استحوذت على السلطة بين 661 و 750 . في بداية القرن العاشر، كادت فتنة الحرب الأهلية تعصف بهذا الكيان، لكن الأمويين استطاعوا الحفاظ على السلطة بفضل عبد الرحمان الثالث، الذي استرجع ابتداء من 929 لقب أمير المؤمنين الذي كان يلقب به أسلافه بالشرق. لكن الامبراطورية ما لبثت أن دخلت في سلك من الفتنة والتناحر والتآكل انتهى بانقسام الامبراطورية إلى طوائف أضعفت من قوة المسلمين وقوت الخصوم في استيلائهم على الأندلس. قامت الباحثة بقراءة متأنية للمراجع والنصوص، تاريخية كانت أو شعرية أو فنية. كما بنت من جديد الإطار التاريخي للقرن الحادي عشر،  القرن المحوري، وذلك بغية كشف نسيج الأحداث الكثيفة والغامضة مع محاولة تقديم فهم ومعنى لهذه الكتلة من الأحداث. كما أن التاريخ السياسي للثقافة يوجد في قلب إشكالية هذا البحث. وفي القسم الثالث سعت الباحثة إلى الإمساك بالأطر الخارجية للحصاد الثقافي لهذه المرحلة. كل ذلك ساعد على تشكل الهوية الأندلسية وذلك بفضل إسهامات جميع المدن الإسبانية التي كانت في انصهار وتلاحم ثقافي قل نظيره.

تقربنا هذه الدراسة من الأندلس بما هي «فكرة تقود العالم» (هيغل)، بما هي باراديجم يحتضن في عمقه التاريخ، السياسة، الثقافة، الفنون، بما هي حلم تتزاوج فيه الحقيقة والخيال.

Visited 4 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".