عن العِطْر والعُطُور ونَوائِب الأيَّام والدّهُور
د .محمّد محمّد خطابي
كان أحد الأصدقاء الأصفياء من الأدباء الكبار فى لبنان الشقيق وهو الصّديق الأنيق، والمبدع الرّقيق، والإعلامي المتميّز الأستاذ جورج طرابلسي قد سألني عن كلمة «العطّار» اذا ما كان لها وجود وانتشار بيننا في المغرب كذلك..؟ ونظراً للمحبّة الخالصة التي أكنّها لهذا الصّديق الكريم، وتقديري للدور الطلائعي الكبير الذي يضطلع به في نشر الحرف العربيّ والحفاظ على جماليته، وروعته، وبهائه في لبنان وفى سائر البلدان العربية والمهجر كان لابدّ لي أن أجيبه عن سؤاله بكلّ سرور حتى وإن كنت على يقين أنه كان على علمٍ تامّ، ودرايةٍ واسعة بهذا الموضوع قبل توصّله بجوابي المتواضع هذا إليه.
تجدر الإشارة في المقام الأوّل أنّ العطّار أو عطَّار اسم معروف ومُستعمل ومُتداوَل في مختلف البلدان منذ قديم الأزمان، وهو موجود على وجه التقريب في جميع البلدان العربية، حيث يوجد العديد من الكتّاب، والشعراء، والشخصيات المرموقة التي تحمل هذا الاسم (في لبنان والمغرب موجود بكثرة)؛ فضلاً عن تركيا وإيران، واليمن، والجزائر وتونس إلخ. والعطّار في الأصل يعني -كما هو معروف-: بائع العِطْر أو العطور، أو صانع العِطْر أو العطور أو مقطّر العطر والعطور، ونحن نشتري البُخورَ، وعَرْفَ العُود، والندّ،والعطور من عند العطَّار أو من دكاكين العطّارين، كما أن العشّاب هو بائع الأعشاب الطبية التي كانت تُستعمل وما تزال في الطبّ التقليدي والتداوي المتوارث.
اِستحالة إصلاحُ ما أفسده الدهر؟
ومن الأمثال المعروفة والمأثورة، أو الأقوال السائرة المشهورة قولهم: هل يُصلح العَطَّارُ ما أفسده الدّهْرُ!، يُضرب هذا المثل في من أو لمن يحاول إصلاحَ ما لا يُمكن إصلاحُه أو أهلكه الزّمن، وأفسده الدهر ودَرَسَته السنين!
وجاء في حكايات الأوّلين أن هذا العَجُز من البيت جاء في باب الخدعة والمخادعة والخداع إذ يُحكى ﺃﻥ ﺃﻋﺮﺍﺑﻴﺎً حلّ بقوﻡٍ ﻭﻛﺎنت فيهم ﻋﺠﻮﺯٌ ﻻ ﺗﻔﺘﺄ ﺗﺘﺰﻳَّﻦ، وتتطرّى، وﺗﺘﺠﻤَّـﻞ، وﺗﺒﺬﻝ ﻛﻞَّ ﻏﺎﻝٍ ونفيس، وبخسٍ ورخيص ﻹﺧﻔﺎﺀ ﺁﺛﺎﺭ ﺍﻟﺸﻴﺨﻮﻳﺨﺔ والسنين ﺍﻟﺘﻲ ﺑﺪﺃﺕ ﺗﺪﺏّ ﻓﻲ ﺃﻭﺻﺎﻟﻬﺎ.ﻓﻠﻤﺎ ﺭﺁﻫﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﻋﺮﺍﺑﻲ ﺍﻧﺨﺪﻉ ﺑﻤﻈﻬﺮﻫﺎ الخارجي ﻓﺘﻘﺪﻡ ﻟﺨﻄﺒﺘﻬﺎ دون أن يولي أو يعير اهتماماً للمثل القائل: المظاهر خدّاعة، ﻭﻟﻢ ﻳﻠﺒﺚ ﺃﻥ ﺗﺰﻭﺟﻬﺎ،ﻓﻠﻤﺎ ﺯُﻓَّﺖ ﺇﻟﻴﻪ، ﻜﺸﻔﺖ ﻟﻪ ﺤﻘﻴﻘتها فرآى من جمالها مارآى فوجد ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻳﻪ ﺷﻤﻄﺎﺀ ﻓﻲ ﺛﻴﺎﺏ ﻓﺘﺎﺓٍ ﺷﺎﺑﺔ ﻓﺄﻧﺸﺄ ﻳﻘﻮﻝ:
ﻋﺠــﻮﺯٌ ﺗُـﺮﺟِّـﻲ ﺃﻥ ﺗﻜـﻮﻥ ﻓﺘـﻴـَّﺔً / ﻭﻗﺪ ﻧﺤﻞَ ﺍﻟﺠﻨﺒﺎﻥِ ﻭﺍﺣﺪﻭﺩﺏَ ﺍﻟﻈﻬْـر
ﺗﺪﺱُّ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﻄَّﺎﺭ ﺳﻠﻌـﺔَ ﺃﻫﻠِﻬﺎ / ﻭﻫﻞ ﻳﺼﻠﺢُ ﺍﻟﻌﻄـَّﺎﺭ ﻣﺎ ﺃﻓﺴﺪَ ﺍﻟﺪَّﻫْﺮُ
ﺩﺧﻠـﺖ ﺑﻬﺎ ﻗﺒـﻞ ﺍﻟﻤﺤـﺎﻕِ ﺑﻠﻴﻠﺔٍ / ﻓﻜﺎﻥ ﻣﺤـﺎﻗـــﺎً ﻛﻠُّــﻪ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸَّﻬـْــﺮُ
ﻭﻣـﺎﻏـﺮَّﻧﻲﺇﻻﺧِـﻀــﺎﺏٌ ﺑﻜﻔِّﻬـﺎ / ﻭﻛُﺤـْـﻞٌ ﺑﻌﻴﻨـﻴـْﻬﺎ، وﺃﺛـﻮﺍﺑُﻬﺎ ﺍﻟﺼُّﻔـــﺮ
وهناك بيت مشهور ومعروف لأحمد ابي الطيب المتنبي يقول فيه عن العطر والتطرية جاء فيه:
حُسنُ الحضارة مجلوب بطريةٍ / وفى البداوة حُسن غير مجلوب .
كما يُطلق العطّار في المغرب وربما في بعض البلدان العربية الأخرى كذلك بالإضافة الى صناعته للعِطر والعطور وبيعه، على بائع التَّوابِل والبهارات ( العطور أو العطرية) أيضاً، فنحن نشتري من عند العطّار: الكمُّون والقرفة، والكركوم، والرّيحان، وإكليل الجبل وورق الغار، وحبّة البركة، والهال، وجوزة الطّيب والفلفل، والحبهان، والزعفران، والقرنفل الناشف، والفلفل الأسود، والفلفل الأبيض، والفلفل الحلو، والفلفل الحرّاق (الشطّه) وسواها من البهارات، والعطّار جاءت فى صيغة المبالغة (فعّال) ويعني كثير العطر أو العطور، وهناك بيت من الشّعر مشهور جاء فيه:
ومَن خالط العطّارَ نال من طيبه / ومَن خالط الحدّادَ نال السّوائدا
وجاء هذا البيت في صيغة أخرى يقول :
ومن خالط العطّار فاز بعطره / ومن خالط الفحّام نال سوادَه.
وأنور سعيد أنيس العطّار (1913 – 23 يوليو 1972) شاعر معروف من سوريا وُلد في (دمشق )، وفريد الدين عطّار شاعر فارسي متصوّف معروف، وممَّيز عاش في القرن الثاني عشر الميلادي. من أعماله الشهيرة “منطق الطير”، وهو كتاب ذائع الصّيت، وقد ولد فريد الدين العطار في مدينة نيسابور.
دَقَائِقَ العِطْر
ويُعرف عادة باسم عطار أو كلمة عطار كذلك بائع الآدويه الشعبية والتوابل والعطور، ولكن ميرزا محمّد يثبت بأمثلة وجدها في كتابيْ «خسرونامه» و«أسرارنامه» أنّ هذه الكلمة لها معنى أوسع من ذلك، ويقول أنها أطلقت عليه، لأنه كان يتولّى الإشراف على دكّان لبيع الأدوية والعطور والبخورحيث كان يزوره المرضى، فيعرضون عليه أنفسَهم، فيصف لهم الدواء ويقوم بنفسه علي تركيبه وتحضيره. ولقد تحدّث عن نفسه في كتابيْه” مصيبت نامه” و”إلهي نامه” فذكر صراحة بأنه ألفهما في صيدليته أو أجزخانته، “داروخانه” التي كان يتردّد عليها في ذلك الوقت خمسمائة من المرضى، كان يقوم على فحصهم وجسّ نبضهم. (وهذه التسمية ما زالت تطلق على الصيدلية في مصر حتى اليوم)، ويقول “رضا قليخان” في كتابه “رياض العارفين”: أنه تعلم الطبَّ على يديّ الشيخ مجد الدين البغدادي وهو أحد تلاميذ الشيخ نجم الدين كبري، و”عطر” جمعُه: عُطُورٌ، يَفُوحُ عِطْرٌ زَكِيٌّ مِنْ فُسْتَانِهَا،ومَا يُتَطَيَّبُ بِهِ لِحُسْنِ رَائِحَتِهِ، ويقول عبقريّ بشرِّي ولبنان والعالم بأسره الاديب والشاعر الفريد الطيّب الذكر “جبران خليل جبران” رحمه الله: ” تَشْربُ قَطَرَاتِ النَّدَى وَتَسْكُبُ دَقَائِقَ العِطْرِ…”!
الحُسيمة.. مدينة خزاميّة العِطر
ومن المعروف أنه من العِطر نسماتُ نباتاتٍ ذائعة الصّيت ذات رائحة طيّبة، عَطِرَة، زكيّة، عبقة، فوّاحة مثل عشبة الخزامىَ (ولا يخفى على أحد أنّ إسم مدينة الحسيمة الجميلة الواقعة فى شمال المغرب التي يوجد بها واحد من أجمل عشر خلجان في العالم مشتقّ من هذه النبتة العطرة الزكية الرّائحة التي كانت تكثر وما تزال في أرباضها ونواحيها وضيعها وحقولها، وقراها، ومداشرها) وتُعرف هذه النبتة عند الافرنج بـ: (Lavanda) التي يُستخرَجُ منها زيتُ العِطر جمع أَعطار وعُطور: والطيب هو كلُّ ما يُتَطيَّب به لِحُسْنِ رائحته:- يُقال: لهذه الوردة عِطرٌ فوَّاح، زجاجة عِطْرٍ، أو قارورة عطر، كما يقال فى الأمثال: دقُّوا بينهم عِطْر مَنْشم: وهو مثل يُضرب كرمز إلى الشُّؤم والحرْبِ، ولا عِطر بعد عروس، وهوَّ تعبير عن الزُّهد بعد فقد عزيز، وفي المغرب هناك العديد من الأصدقاء الذين يحملون هذا الإسم ومنهم شعراء،وكتّاب، ومبدعون وأناس عاديون،وهو اسم ينحدر في الغالب من الأندلس، كما أنه موجود ومستعمل ومنتشر فى البلدان المغاربية (المغرب، الجزائر، وتونس،وليبيا وموريتانيا) وفي المشرق العربي وفى سائر البلدان العربية كذلك، ولعلّه من الأسماء الموريسكية التي استقدمها المُهجّرون، والنازحون، المُبعدون عن ديارهم الأصلية قهراً وقسراً وعُنوةً في بلاد الأندلس بعد سقوط آخر معاقل الإسلام في شبه الجزيرة الإيبيرية غرناطة 1492 م، إذن فهذا الإسم غير محصور أو مقصور على بلدٍ بعينه كما يبدو، بل إنه موجود وذائع ومنتشر ومتداول في مختلف الأصقاع والبلدان.جعل الله.أوقاتكم وحياتكم عِطراً، وسِحْراً،وذِكْراً طيّباً مباركاً ان شاء الله .