35 عاماً على اندلاع “انتفاضة الحِجَارَة” صُمُود ومُوَاجَهات

35 عاماً على اندلاع “انتفاضة الحِجَارَة” صُمُود ومُوَاجَهات

د. مُحمّد مَحمّد الخطّابي

أحيا الفلسطينيون في الثامن من شهر ديسمبر الجاري 2022 ذكرى انطلاق أكبر الانتفاضات الشعبية التي اندلعت  ضد الاحتلال عام 1987، التي اصبحت تعرف ب “انتفاضة الحجارة”.

ويرى الملاحظون انّ هذه  “الانتفاضة ” شكّلت أبرز مظهر من مظاهر الصمود والمواجهات  الجماهيرية التي خاضها وما فتئ يخوضها الشعب الفلسطيني ضدّ الكيان منذ عام 1948، هذه الانتفاضة  أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية ،ومعروف أنّ السلاح الذي استعمل فيها كان هو “الحجارة”  لقد اندلعت شرارة “انتفاضة الحجارة” بعد أن شيّع الفلسطينيون في ذلك اليوم، أربعة عمال شهداء ينتمون  لبلدة “جباليا” شمالي غزة، كانوا قد لقوا حتفهم جراء حادث سير “متعمّد”وقع بين سيارتهم ومصفّحة إسرائيلية أثناء رجوعهم من عملهم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

انتفاضة الحجارة فى كتاب

 خلال الأشهر الأخيرة عاد التوتّر والتذمّر والإحتقان من جديد بقوّة إلى العديد من المناطق الفلسطينية، الشئ الذي يعتبره بعض الملاحظين إرهاصات، وأمارات لإنطلاق إنتفاضة جديدة، ممّا سيزيد من تصعيد الموقف فى مختلف الواجهات، العديد من الإعلاميين، والصحفيّين،والمراسلين  من مختلف أنحاء العالم يتابعون عن كثب،ويقومون بتغطيات متواترة للتطوّرات التي باتت تعرفها المنطقة من هيجان وغليان، ويرى المسؤولون الغربيون ومعهم الصّين إحتمال  تفاقم الوضع إذا بقي الإسرائيليون متعنّتين ومتمسّكين بمواقفهم المعرقلة لتحقيق أيّ “سلام”،. لقد كُتب الكثير، وسال حبر غزير عن مواقف مماثلة، بل وعن مواجهات فعلية بين أطفال  وشباب فى عمر الزهور، وبين الآلة العسكرية  الإسرائيلية التي لا تقيم وزنا لرضيع أو صغير، أو لكهل أو شيخ، أو لأمّ ثكلىَ، ولإمرأة مترمّلة .

ويعود الى الذاكرة  ويطفو على ثبجها كتاب تعرضّ بشجاعة فائقة لمثل هذه المواجهات ،والإنتفاضات بعنوان “حرب الحجارة” للكاتب الأرجنتيني “خورخي لاناتا” وهوكتاب صالح للقراءة في كل زمان ومكان وفى كلّ وقت وحين. كتاب لا ينحصر بين أطفال صغار، أوشبّان يافعين، وبين جيش عنيد مجهّز بأحدث وسائل القمع والتنكيل. بل إنه يخرج عن هذه الوتيرة العادية ليصبح سردا أدبيّا وصحافيّا جريئا نابضا حيّا في آن واحد. وبالتالي تكتسب  نصوص هذا الكتاب قيمة أدبية رائعة سواء من حيث الأسلوب أو المضمون معا. لذلك لم تتردّد  دار النشر التي قامت بطبع الكتاب في إسبانيا إلى القول عند تقديمه للقرّاء: “إنّه كتاب حرب، إلاّ أنّه في الوقت ذاته حكاية واقعية مؤلمة، وسرد رائع وممتع من نوع أدب الأخبار، والإستطلاعات، والرّحلات الذي عرف به كبارالمراسلين والمخبرين الأنجلوسكسونييّن “عمّا يجري من تظلّم وتفاوت وتعنّت في العالم، كما ان الكتاب يبرز الشجاعة، والصمود والثبات والمواجهة البطولية المستميتة التي يناضل من اجلها الفلسطينيون.

صور وأحداث حيّة في  قالب أدبيّ رفيع

إنّ الكاتب  “خورخي لاناتا ” في هذا الكتاب يسير ، يتنقّل، يسأل، يلاحظ، يسافر،يراقب، يغامر، يشاجر، يخاطر بنفسه ثمّ بعد ذلك يحكي لنا التجربة اليومية المرّة والقاسية المعاشة بين الشعبين الفلسطيني و(اليهودي) المتطاحنين. إنّ أخبار الأيام الحامية، أيّام الحجارة، والرّصاص، والمواجهات المتكرّرة التي عاشها الفلسطينيون على امتداد التاريخ  تروى في هذا الكتاب بمهارة فائقة، وجمالية نادرة وأسلوب موف، وآسر ، وحافل بالاثارة والألوان قلّما نجده في لغة الصّحافة اليومية المتواترة التي تترى أمام أعيننا هذه الايّام ، إنّنا نجد في هذا الكتاب حوارا مقتضبا، أو نظرة عجلى في فضاء لانهائي، أو تعليقا يسمع في الطريق، كلّ ذلك يغدو بمثابة مفاتيح تكشف لنا عن عقم ولامعقولية،وشراسة هذه الحرب الضروس التي لا مبرّر لها في سياق التاريخ ، والتي يأبى الإسرائليّون إلاّ أن يزيدوها أواراً ، وإضراماً ، وإشتعالًا.

    يصل المؤلف الى منطقة الصّراع، ويقذف بنفسه فى أتون الأحداث، ويدفعه فضوله ليرى ويلمس أنّ مجتمعاً يزعم ويدّعي لنفسه أنه “قائم” على قضية عادلة، وهو المجتمع الاسرائيلي، يتحوّل هو الآخرإلى قضية غير عادلة، بل ظالمة، جائرة، يدير ظهره بإمعان ولامبالاة لحقوق الطرف الآخر. كما يجتهد المؤلف باحثاً عن أصل هذا الصّراع، ويغوص في متاهة ثقافتين تبدوان غريبتين ومتباعدتين. ويحاول لفّ خيوط هذا المشكل الشائك، وحبك حكاية كتابه الذى يذهب فيه  أبعد من مجرّد الإعلام الاخبارى، أو السردي المتواتر. ذلك أنّ المؤلف  يتنقّل  بين المكاتب، ويجوب الشوارع، ويجتاز الأزقّة والدروب، ويكشف عن الوجه الآخر البشع لهذه الحرب اللعينة، وهذا الحصار الجائر . هذا الوجه الذى يخفى وراءه أفدح جريمة، وأحلك مأساة عرفها التاريخ، إنّ القارئ الذى يتابع هذه الحكايات بعد طول تجوال وتنقال ينتهى به المطاف إلى تجربة قاسية ومؤلمة تجعل مؤلف الكتاب في دوّامة من القلق والتوتّر إزاء هذا الصّراع الذي تعرفه المنطقة من العالم منذ ما يربو على سبعين حولاً . حيث يلجأ إلى نقل، وتصوير، ورصد ذلك كلّه في صور حيّة ،وأحداث مؤلمة، وإيماءات حميمية ، وأدب صحافيّ رفيع.

عناصر الإثارة والتشويق

يتميّز كتاب “خورخي لاناتا” بسرد صحافيّ قوامه أسلوب جذّاب حافل بالعبارات الآسرة، والمركّزة، والموفية، والبليغة، والمؤثّرة .إنّ المؤلف يعمد إلى وصف  الملامح، و تصويرالأماكن، ونقل الأحداث  بدقّة متناهية، وبمهارة فائقة، إنه كاتب يجيد فنّ الحوار ، سواء كان حوارا ذاتيا بينه وبين نفسه، أو بينه وبين الآخرين، أو بين شخصيات حكاياته الحقيقية  المستلهمة من الواقع المعاش المرير.

يتضمّن الكتاب سخرية مُرّة من تعنّت رجال الدّرك والحرّاس والجنود أو من المسؤولين الإسرائليين بشكل عام، وتخوّفهم من الصّحافيين ، وفرارهم من وسائل الإعلام ، إنّه يصف لنا وصفاً دقيقاً  بعض مظاهر الذّعر والهلع اللذيْن يعلوان محيّاهم ، ويتابع الكاتب أثرهم، ويقتفي أخبارهم، ويرصد حركاتهم ،وحرصهم على عدم إطّلاعه علي حقيقة الوضع، سواء داخل إسرائيل، أو في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. إنّ قارئ الكتاب يشعر وكأنّه يقرأ فصولاً من رواية “لمن تقرع الأجراس” للكاتب الأمريكي إرنست همنغواى الذي كان هو الآخر مراسلاً صحافياً خلال الحرب الأهلية الاسبانية،(1936-1939) نظراً لعناصرالإثارة والتشويق في الكتاب، فيسترسل  “خورخي لا ناتا” متنقّلا من مشهد  الى آخر، ومن واقعة إلى أخرى، ومن حدث إلى آخر، ومن مواجهة إلى أخرى، ومن معاناة إلى معاناة .

وتصل السّخريّة مداها، وتبلغ أوجها في الكتاب عندما يصف المؤلف سِحَن وملامح الإسرائيليين الذين يلتقي بهم فوجوههم متباينة، لا تجمعهم صفة واحدة مشتركة، كما هو الشأن مع باقي شعوب العالم، وهم بالتالي قليلو الشّبه بعضهم ببعض لإنتمائهم إلي أجناس، وأعراق، وإثنيات، ومجتمعات مختلفة نائية. كما تظهر هذه السخريّة عندما يعهد الكاتب إلى مقارنة مستوى العيش بين الإسرائيلي والفلسطيني حيث تفصلها هوّة سحيقة، وبرزخ واسع في هذا القبيل، فالإسرائيلي العادي يتوفّر على سيارة فارهة، ولديه هاتف منزلي، وآخر محمول، وهو يتوفّر على كلّ مستلزمات الحياة العصرية المريحة، كما أنّه يكسب آلاف الدولارات شهرياً ، في حين لا يتوفّر المواطن الفلسطيني على هذه المستلزمات التي أصبحت تشكّل ضرورة  ملحّة فى الحياة العصرية لدى أيّ مواطن من مواطني العالم، وهوحتى ولو كان يزاول العمل نفسه، أو يشغل المنصب ذاته الذي يزاوله أو يشغله  “الإسرائيلي” فإنّه يتقاضى مرتّباً أقلّ بكثيرممّا يتقاضاه هذا الأخير سواء في غزّة أو داخل إسرائيل.

 ويزداد  الكاتب إمعاناً في السّخرية والتهكّم عندما يستمع إلى إذاعة ناطقة باللغة الإنجليزية في إسرائيل وهي: “إذاعة صوت السلام”، وكانت هي الإذاعة الوحيدة الناطقة باللغة الانجليزية، وكانت تبثّ برامجها من على ظهر مركب، ويقدّم الكاتب من باب السخرية أيضاً نتفاً وفقرات أو مقتطعات من نوعية الأخبار التي عادة ما تذاع أو تبثّ من هذه  الإذاعة، فإذا معظم هذه الاخبار تدور حول أهوال الحرب، والمواجهات، والإنتفاضات،والمظاهرات،والإضرابات وأحداث الضفّة الغربيّة، وغزّة ،والقدس الشريف .

  حرب الحجارة 

وتنضوى أحداث، ووقائع، وسرد الكتاب تحت عناوين ذكيّة مثل: “الخطّ الأخضر” (وهم الخط الذي كان يفصل بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلّة بعد حرب 1967). و”أصوات الصّمت”. و “الحرب والسلام”، و”بائعوالبرتقال “، “وأبيض وأسود”، و”طائر أسود”.

ويتضمّن الكتاب كذلك أوصافاً دقيقة، ومتابعات حثيثة للحياة اليومية داخل إسرائيل، أو في الأراضى الفلسطينية المحتلّة، وسمات، وهو رصد حيّ لعلامات، وأمارات القلق الدائم الذى يسود المجتمع الاسرائيلي. ويحمل الفصل الأخيرعنوان الكتاب نفسه وهو “حرب الحجارة “، وقد خصّه المؤلف للحديث عن الانتفاضات منذ قيامها متنقّلا  بين المناطق والأماكن، والمداشر، والضّيع، والقرى، والبقاع، والأصقاع ، سائلاً، مستفسراً،متقصّياً، مستقصياً، متتبّعاً، راصداً، واصفاً، ناقلاً، حاكيا.

و جاء الكتاب في شكل سرد أدبى مسترسل، وتتبّع صحافي سلس متّصل الأحداث، مترابط الحلقات، يوحى للقارئ بالفعل أنّه أمام نوع خاص من كتب أدب المخاطرة والمغامرة، وليس أمام تحقيقات صحافية، ومتابعات، وتغطيات إعلامية تنقل، وتعالج، وترصد، وتصف أهمّ قضايا العصر. ويعتبرهذا السّرد المتألّق، والدّفق النصّي المتداعي فوق ذلك كلّه شهادة حقّ حيّة ناطقة وصادقة تأتينا من بلد بعيد  يوجد في الشقّ الجنوبي للقارة الامريكية وهو (الأرجنتين) هذه الشهادة مكتوبة بلغة حيّة واسعة الإنتشار( الإسبانية) يتحدّث بها اليوم ما يناهز خمسمائة مليون نسمة فى العالم أو يزيد بكثير .

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا