في انطلاقتها الـ 35: “حماس” أمام لحظة الحقيقة
هاني المصري
أبدأ بتهنئة حركة حماس بذكرى انطلاقتها الخامسة والثلاثين، التي جسّدت خلال مسيرتها نضالاتٍ متنوعةً، وقدّمت تضحياتٍ غاليةً، لا ينكرها سوى جاحد أو متعصب لأفكاره أو فصيله وتحت تأثير الإقصاء والاحتكار.
انطلقت “حماس” مع انطلاقة الانتفاضة الشعبية التي كانت بمنزلة مرحلة جديدة نوعية في تاريخ الكفاح الفلسطيني، واختارت ألا تنضم إلى منظمة التحرير؛ لأنها كانت ترى نفسها بديلًا من المنظمة، ولكنها لم تكن تشكل منافسًا ولا تهديدًا؛ لأن المنظمة بقيادة ياسر عرفات وحركة فتح كانت تحوز على تأييد غالبية الشعب الفلسطيني، فعدم انضمام “حماس” إلى القيادة الوطنية الموحدة لم يترك ضررًا فادحًا؛ لأن الحركة كانت تضرب في الاتجاه نفسه؛ أي ضد الاحتلال، على قاعدة “الضرب في الاتجاه نفسه، والسير منفردين”، وساعد على احتواء الأضرار عدم وجود مفاوضات وعملية سياسية مختلف عليها في تلك المرحلة، وعدم وقوع الانقسام السياسي والجغرافي الذي كسر ظهر القضية الفلسطينية ولا يزال.
إن الثغرة الكبرى التي رافقت “حماس” عند تأسيسها أنها كانت جزءًا من مشروع عالمي بوصفها فرع فلسطين ضمن جماعة الإخوان المسلمين، لذلك أولويات الجماعة هي التي تحتل الأولوية لديها، ولم يكن الوطن الفلسطيني هو الهدف المركزي، بل قيام دولة الخلافة التي ستتولى بعد قيامها إزالة إسرائيل.
في هذا السياق، لم تطرح “حماس” برنامجًا سياسيًا، ولم تجد حاجة لذلك، بل اكتفت بطرح هدف التحرير الذي سيتحقق عبر الجهاد، وكان المقصود بالجهاد، أولًا وأساسًا وقبل كل شيء، المقاومة المسلحة.
تحوّل في “حماس”: من البديل إلى الحوار
عندما أجرت “حماس” حوارًا مع “فتح” في الخرطوم في العام 1990، وغيرها حول دخول المنظمة، طرحت شروطًا تعجيزيةً؛ لأنها كانت تطرح نفسها بديلًا كما أسلفنا، وكونها لا تريد أن تكون أقلية وتخضع لقرارات القيادة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات.
لقد سمعت مباشرة من الأخ خالد مشعل، رئيس “حماس” السابق، أن حركته كانت تسعى إلى تشكيل بديل إسلامي من المنظمة، ولكنها اصطدمت بقرار عربي ودولي يمنع إقامة بديل، فحدث تحول في وجهة نظرها؛ حيث باتت مستعدة للانخراط في المنظمة والسلطة، كما ظهر واضح في موافقتها على إعلان القاهرة في آذار 2005، الذي نص على إجراء الانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية، والانضمام إلى منظمة التحرير وتفعيلها.
وساعد على حصول التحول في موقف حماس:
أولًا: اغتيال ياسر عرفات، صاحب الصفات القيادية والوزن الشعبي؛ ما شجع “حماس” على التقدم على طريق القيادة.
ثانيًا: تصور “حماس” أن إمكانية التعامل مع خليفته محمود عباس أفضل من سلفه، والدليل أن أول تهدئة وافقت عليها “حماس”في العام 2003 كانت لتسهيل عمل حكومة عباس، التي شُكلت بعد استحداث منصب رئيس الحكومة في السلطة الفلسطينية، الذي كان هدفه إضعاف قيادة ياسر عرفات، وإيجاد قيادة فلسطينية جديدة أكثر اعتدالًا سياسيًا، ومستعدة لمحاربة “الإرهاب” بصورة لا هوادة فيها؛ حيث كان رائجًا حينذاك أن عباس رجل مؤسسات وليس فرديًا مثل عرفات.
ثالثًا: تقدير “حماس” بأن اتفاق أوسلو قد مات، أو على وشك الموت، وأن فشله أضعف من تبناه.
رابعًا: ما شجع “حماس” أن الإدارة الأميركية والغرب بشكل عام باتوا منفتحين أكثر وأكثر على التعامل مع “الإسلام المعتدل” في مواجهة “الإسلام المتطرف”، في سياق نظرية جديدة تهدف إلى إصلاح في الأنظمة الموالية للغرب في المنطقة العربية قبل سقوطها؛ لأن استمرارها يهدد بزعزعة الاستقرار في المنطقة.
دخول النظام السياسي من بوابة السلطة
تأسيسًا على ما سبق، وأمام عدم فتح أبواب المنظمة أمام “حماس”، اختارت أن تدخل النظام السياسي من بوابة السلطة، وتحديدًا من بوابة الانتخابات؛ حيث شاركت في الانتخابات المحلية ثم التشريعية، ولكن (وهذا خطأ كبير ارتكبته “حماس”) من دون أن تطالب بتغيير التزامات أوسلو السياسية والاقتصادية والأمنية، والأهم من دون الاتفاق على برنامج مشترك يحدد القيم والمبادئ والأهداف الأساسية، وأشكال العمل والنضال، وأسس الشراكة والقواعد التي تنظم العلاقات الداخلية، متصورةً أن أوسلو قد مات، أو على وشك الموت، وأن دخولها إلى السلطة سيجهز عليه، أو يقلل من أضراره، مع أن ما حدث بعد اغتيال ياسر عرفات أن السقف السياسي الفلسطيني انخفض، وأصبح أقل من أوسلو، وهبط إلى مستوى خارطة الطريق الدولية التي جعلت الأمن الإسرائيلي هو المرجعية العليا للمفاوضات، وبالتالي جعل دخول “حماس” بشكل أو بآخر تحت مظلة سلطة أوسلو.
ومن ثم جاءت خطة فك الارتباط عن قطاع غزة، التي كانت فخًا للفلسطينيين بشكل عام، ولحركة حماس بشكل خاص؛ حيث تصوّر الفلسطينيون أن المقاومة هي التي أجبرت قوات الاحتلال على الانسحاب، في حين “إن وراء الأكمة ما وراءها” وأن المقاومة لعبت دورًا ثانويًا بما حدث، والدليل أن قطاع غزة بعد 17 عامًا على “الانسحاب” الإسرائيلي لا يزال محاصرًا ومعرضًا للعدوان العسكري المتكرر، وبالتالي تحت الاحتلال، وإن بشكل غير مباشر؛ حيث لم تنفذ الخطة كما هو مفترض بالتنسيق مع السلطة، وذلك ضمن تخطيط وتدبير من رئيس الوزراء أرئيل شارون آنذاك وحكومته على أساس بث الفتنة بين الفلسطينيين، وتحديدًا بين حركتي فتح وحماس، وكذلك لأن التخلص من مليوني فلسطيني يبعد خطر القنبلة الديمغرافية عن إسرائيل، وأن “الانسحاب” خطوة إلى الوراء في غزة تساعد إسرائيل على التقدم عشر خطوات إلى الأمام في الضفة الغربية، وتحديدًا في القدس، وتقطع الطريق على قيام دولة فلسطينية، ولو بشكل مشوّه، كما جاء في خارطة الطريق الدولية، التي وافقت عليها القيادة الرسمية من دون تحفظ، في حين وضعت عليها حكومة شارون 14 تحفظًا، وهذا ما كان؛ حيث أصبحت الخطة الإسرائيلية حول “فك الاشتباك” اللعبة الوحيدة في المدينة.
وعندما جاءت نتائج الانتخابات التشريعية في العام 2006 مفاجئة للسلطة وحكام واشنطن وتل أبيب، وفازت حركة حماس بالأغلبية، لم تعترف الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة ودولة الاحتلال بهذه النتائج، واعترفت فيها القيادة الرسمية شكلًا وليس فعليًا، من خلال تكليف إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة العاشرة، من دون تمكينها من الحكم ضمن تقدير أن السلطة و”حماس” ستنهار خلال أشهر قليلة بسبب المقاطعة والحصار. وفعلًا، انهارت الحكومة، ولم تنهر “حماس”، بل صمدت وحصلت على تعاطف شعبي كبير، بسبب عدم تمكينها من الحكم، وخصوصًا بفضل عمليات المقاومة المسلحة.
ومن ثم جرى التوقيع على اتفاق مكة في العام 2007، وشكلت حكومة وحدة وطنية برئاسة هنية، التي نص برنامجها مثل برنامج حكومة “حماس” على “احترام” الاتفاقيات والالتزامات المترتبة على اتفاق أوسلو، ولم تصمد سوى ثلاثة أشهر؛ حيث لم تلتزم الأجهزة الأمنية والوزارات بأوامر الحكومة؛ ما أدى إلى انقلاب “حماس” على السلطة وسيطرتها عليها في قطاع غزة، وهذا أسوأ قرار اتخذته “حماس”، ولا يبرره أن دولة الاحتلال صادرت نتائج الانتخابات باعتقال النواب والوزراء ومقاطعة الحكومة، وفرض أو تعميق الحصار على قطاع غزة، وفصله عن الضفة، أو أنها حصلت على الأغلبية؛ أي الشرعية، ولا القول إن “حماس” تغدت بـ “فتح” قبل أن تتعشى بها، فالانقلاب انقلاب، سواء إذا نُفذ من خارج السلطة، أو من داخلها، ومن قبل فصيل منتخب أو غير منتخب.
إن كون “حماس” منتخبة ولم تمكّن من الحكم، فهذا يخفف من وقع الانقلاب، ولا يلغي كونه كذلك. من حق “حماس” أن تحكم، ولكن من الحكمة ألا تحكم؛ لأنها غير جاهزة للحكم، والأهم؛ لأن الظروف والمعطيات واللاعبين المتحكمين باللعبة لن يمكنوها من الحكم. وهنا، أتذكر الزيارة الأولى لي إلى قطاع غزة بعد الانقلاب؛ حيث سألني الضابط القسامي المسؤول عن الحاجز، وهو تعرف إلي: هل برأيك أن من الصحيح أن تحكم “حماس”؟ فقلت له: لا؛ لأن السلطة ستكون عبئًا على “حماس” وبالتالي على المقاومة، وهكذا كان، وفاجئنا وقال: أنا أوافقك الرأي.
“حماس” ما بين البُعدَيْن الإخواني والوطني في ظل صعود الإسلام السياسي وهبوطه
استفادت “حماس” من صعود الإسلام السياسي وما سمي “الربيع العربي”؛ حيث تمكّنت في فترته من تحسين علاقتها مع النظام في مصر، خصوصًا عشية وغداة حكم الرئيس محمد مرسي. وفي هذه الفترة، تم توقيع اتفاق القاهرة في أيار 2011، الذي كان أشمل اتفاق جرى توقيعه، ونصّ على تشكيل إطار قيادي مؤقت لمنظمة التحرير بصلاحيات واسعة محددة، بمشاركة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وعقد الإطار القيادي اجتماعَيْن إلى أن تم التخلص منه، لدرجة عدم اعتراف عزام الأحمد بوجود هذا النص في الاتفاق، بالتوازي مع هبوط الإخوان المسلمين وسقوطهم في مصر.
وفي فترة صعود الإخوان، تعمّق البعد الإخواني في “حماس”، كما ظهر بتلاوة قسم الإخوان من قبل عشرات الآلاف من الجماهير، وبحضور قادة “حماس”، وعلى رأسهم خالد مشعل الذي زار القطاع للمرة الأولى، وفي فترة الهبوط تقدم البعد الوطني على حساب البعد الإخواني، كما ظهر ذلك جليًا في الوثيقة السياسية التي أقرتها “حماس”، وأعلنت فيها عن عدم وجود علاقة تنظيمية مع الإخوان المسلمين، وعن تبني برنامج إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، بوصفه برنامج الحد الوطني الأدنى المشترك، وعلى الرغم من تبني “حماس” له، فإنها لا تذكره إلا عندما يتم تذكيرها به.
لقد وقعت حركتا فتح وحماس في فخ الانقسام والفصل السياسي والجغرافي والمؤسسي بين الضفة والقطاع، وهذا يقدم أفضل هدية للاحتلال، مع أن “حماس” تتحمل المسؤولية الأولى عن وقوعه، ولكنها لا تتحمل المسؤولية الأولى عن استمراره؛ حيث أبدت مرونة، وقدمت بعض التنازلات من أجل إنهاء الانقسام، ولكنها لم تصل إلى تقديم كل المطلوب منها؛ حيث تنازلت عن رئاسة الحكومة وعن تشكيل حكومة وحدة وطنية، ووافقت على أن يكون محمود عباس هو رئيس الحكومة أو من يعين رئيس الحكومة؛ أي “تنازلت عن الحكومة ولم تتنازل عن الحكم”، كما صرح هنية في تصريح شهير.
انتخابات أم وفاق وطني؟
أما الآن فحركة حماس تطالب بإجراء الانتخابات؛ أي الاحتكام إلى الشعب، أو التوافق الوطني على ترتيب الحصص والمشاركة في السلطة والمنظمة، مع أنها تعرف أن المطالبة بالانتخابات ليس عمليًا ولا حلًا ولا في متناول اليد ولا جديًا؛ لأن من بيده مفاتيح الانتخابات لن يُقدم عليها إلا إذا ضمن نتائجها، وجُرّبت الانتخابات وكانت منصة للانقلاب والانقسام، فالاحتلال يقف بالمرصاد لمنع أي انتخابات حرة ونزيهة من شأنها تمكين “حماس” من الفوز مجددًا، أو تقوية الفلسطينيين وتوحيدهم، كما أن “حماس” ليست متحمسة للانتخابات؛ لأنها تدرك أن فوزها في الانتخابات لن يُمكّنها في كل الظروف من حكم الضفة التي تقع تحت السيادة الإسرائيلية بالكامل.
أما مطالبة حماس بالتوافق الوطني، فهي أيضًا ليست حلًا؛ لأنها تدرك أو مفترض أن تدرك أن خصمها المتمثل في الرئيس وحركة فتح يريد الاحتفاظ بالانفراد بقيادة السلطة والمنظمة، وفي أحسن الأحوال يمكن أن يوافق على إلحاقها بقيادته، وإلّا فليبقَ الانقسام على أمل أن تنهار “حماس” تحت وطأة الحصار والعدوان، وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه، واحتفاظ كل طرف بما لديه؛ أي بقاء الانقسام وتعمقه، واحتفاظ “حماس” بالسيطرة على قطاع غزة، واحتفاظ الرئيس و”فتح” بالسيطرة على المنظمة والسلطة في الضفة، مع مراعاة أن السلطة، خصوصًا في الضفة، بلا سلطة، وهي أقل من سلطة حكم ذاتي محدود.
المطلوب رؤية جديدة
تأسيسًا على ما سبق، فإنّ “حماس” مطالبة بتقديم رؤية وخطة وبديل قادر على كسر الوضع الراهن وتغييره، وعدم الاكتفاء بالمطالبة بالانتخابات أو التوافق الوطني، بل النضال لتحشيد القوى والأفراد وبلورة جبهة وطنية عريضة ومراكمة الضغط السياسي والشعبي لإحداث التغيير المطلوب؛ من أجل إعادة إحياء المشروع والوطني، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، مع الحرص على عدم المساس بشرعية المنظمة ووحدانية تمثيلها، وهذا يتطلب:
أولًا: طرح برنامج وطني واقعي يجسد القواسم المشتركة قادر على الإقلاع بعيدًا عن التهدئة المؤقتة أو الهدنة طويلة الأمد، مقابل التسهيلات الاقتصادية والاحتفاظ بالسلطة في القطاع؛ الأمر الذي جعل المقاومة في خدمة السلطة أكثر ما هي في خدمة إستراتيجية التحرير.
ثانيًا: تعميق البعد الوطني والاستعداد للشراكة عند “حماس”، مع احتفاظها بالبعد الفكري الديني.
ثالثًا: الاستعداد لفظيًا وعمليًا للتخلي عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، مقابل شراكة كاملة في السلطة والمنظمة، وهذه نقطة في منتهى الأهمية.
رابعًا: الاستعداد لدمج كتائب القسام وبقية الأجنحة العسكرية في جيش وطني خاضع لقيادة وطنية موحدة وإستراتيجية واحدة، ويمكن البدء بتشكيل مرجعية عليا للمقاومة المنصوص عليها في وثيقة الأسرى وثيقة الوفاق الوطني.
خامسًا: تقديم نموذج حكم رشيد في القطاع ينهي تحكّم “حماس” وتفردها، حتى قبل إنهاء الانقسام، ويقدم نموذجًا بالمشاركة والشفافية والمساءلة والمحاسبة الوطنية، وليس عبر اللجنة الإدارية التي تتحكم فيها “حماس”، ولا من خلال أعضاء كتلة “حماس” في المجلس التشريعي فقط، واحترام حقوق الإنسان وحرياته، ومكافحة الفساد والهدر والتضخم والمحسوبية والفئوية والفصائلية، وتجسيد قيم المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص والإنتاجية والكفاءة، وإجراء انتخابات على كل المستويات وفي كل القطاعات بشكل دوري ومنتظم، وخصوصًا انتخابات الهيئات المحلية.
تذبذب الموقف من القيادة الرسمية
من دون فعل ما سبق، سيبقى الوضع في أحسن الأحوال على حاله، وهو ليس جيدًا على الإطلاق، لا لحماس ولا لفتح ولا للكل الفلسطيني، فقطاع غزة منفصل عن الضفة الغربية، وهو أكبر وأطول سجن في التاريخ، وهو على الرغم من صموده ومقاومته وتوفر الأمن الداخلي فيه لا يملك أفقًا حقيقيًا خارج المشروع الوطني، وكذلك خارج الوحدة الوطنية التي يجب دفع كل الأثمان من أجلها.
لا يمكن أن يبقى موقف “حماس” متذبذبًا بين تخوين القيادة الرسمية ومطالبتها بتقديم الحل، وتجديد شرعيتها تارة أخرى بالاتفاقيات التي توقعها معها من دون تنفيذ؛ ما يشكل نوعًا من التساوق مع القيادة في كذبة الادعاء بصدق البحث عن الوحدة الوطنية؛ وبين التهدئة شبه الدائمة وتعميق الانقسام وتحوله رويدًا رويدًا إلى انفصال، والمواجهة العسكرية غير المتكافئة التي تفرض على “حماس” وشعبنا في معظم الحالات، وتدفع وشعبنا ثمنًا باهظًا. فالمبادرة إلى العدوان غالبًا بيد كيان الاحتلال، وفي المرات التي تبادر إليها “حماس” يتم ذلك لتخفيف شروط الحصار، أكثر ما هو تجسيدًا لإستراتيجية التحرير، ما عدا معركة سيف القدس التي جسدت وحدة القضية والأرض والشعب ووحدة الساحات، ولكنها كانت حتى الآن استثناء، وليست إستراتيجية جديدة، بدليل ما حصل طوال هذا العام من مساس بمكانة الأقصى ومن توسيع كبير بالمستوطنات وحملات هدم المنازل والاقتحامات والاعتقالات التي وصلت هذا العام إلى معدلات غير مسبوقة وارتقاء أكثر من 217 شهيدًا، 52 منهم من قطاع غزة، والباقي من الضفة والداخل، ولم تتجسد وحدة الساحات على الرغم من استهداف الجهاد الإسلامي ورده على العدوان منفردًا، ولا يمكن أن تكون وتتجسد ما لم يتغير الوضع جذريًا وتتحقق الوحدة.
ليس المطلوب أن تتجسد وحدة الساحات بشكل فئوي دفاعًا عن فصيل أو قطاع خاص لفصيل، وإنما أن تكون جزءًا من إستراتيجية وطنية موحدة، تدرك على المدى المنظور أن وحدة الساحات لا يمكن أن تكون فقط إطلاق الصواريخ في ظل الاختلال الفادح في موازين القوى المستمر، على الرغم من مراكمة القوة لدى فصائل المقاومة، فلا نريد خوض المعارك قبل أوانها نتيجة تصور خاطئ أن هناك توازنًا في القوة والردع. فيجب أن تستخدم صواريخ المقاومة ضمن أجندة المقاومة، ولخدمة البرنامج الوطني، وليس ضمن توقيت الاحتلال، أو دفاعًا عن فصيل، وكذلك في حالات تحدث فيها أحداث كبرى، مثل: تغيير مكانة الأقصى، أو الضم، أو التهجير، أو ارتكاب مجازر كبيرة.
وأخيرًا، هناك نقطة لا بد من حسمها، وتتعلق بإمكانية سماح الاحتلال طائعًا – كما يبدو أن “حماس” تتخيله أو أقسامًا منها – في ظل توازن القوى القائم حاليًا، بقيام دولة فلسطينية في قطاع غزة، فهذا الأمر خاطئ، فلا مجال لقبول إسرائيلي بدولة فلسطينية ذات سيادة، لا في الضفة وغزة، ولا في غزة وحدها، ولا ومليون لا في الضفة المستهدفة بالضم والتهويد والتهجير والعدوان وتغيير مكانة الأقصى، بل إن استكمال تحرير القطاع المحتل وتحرير الضفة وكل فلسطين، لا يمكن أن يحدث في ظل المعطيات المحلية والعربية والدولية الراهنة، إلا بعد تغيير جوهري حاسم في ميزان القوى، وهذا بحاجة إلى وقت ونضال وتضحيات، وخلق حقائق جديدة على الأرض كل يوم، ولا مكان هنا للأوهام والرهانات الخاسرة، ولا لانتظار تحقق النبوءات والغيبيات واندلاع حروب إقليمية وعالمية تؤدي إلى زوال إسرائيل هذا العام أو قريبًا.
يعيش قطاع غزة حاليًا ضمن مسارين، إما مواجهة عسكرية غير متكافئة، أو هدوء تام من دون حتى مسيرات شعبية ووحدات الإشغال الليلي … إلخ، ولا شيء غير ذلك. إن وحدة الساحات الحقيقية تتجلى بأروع صورة فقط، عندما تتحقق الوحدة في الرؤية والبرنامج والمؤسسات والقيادة، ووحدة النضال والعمل السياسي والكفاحي بكل أشكالهما ضمن إستراتيجية واحدة وتحت قيادة واحدة.