عودة إلى اليوم العالمي للغة الضّاد: اللغة العربيّة بين الواقع والإدّعاء 

عودة إلى اليوم العالمي للغة الضّاد: اللغة العربيّة بين الواقع والإدّعاء 

د. محمّد محمّد خطّابي

   لقد كثرت الدراسات، وتعدّدت النقاشات في المدّة الأخيرة عن اللغة العربية، وعن مدى قدرتها على إستيعاب علوم العصر،وتخوّف فريق من عدم إمكانها مسايرة هذا العصر المتطوّر والمذهل، كما تحمّس فريق آخر فأبرز إمكانات هذه اللغة وطاقاتها الكبرى مستشهدا بتجربة الماضي، حيث بلغت لغة الضاد في نقل العلوم وترجمتها شأوا بعيدا، كثر الكلام  في هذا المجال حتى كاد أن  يصبح حديث جميع المجالس والمنتديات في مختلف البلدان العربية، فهل تعاني العربية حقا من هذا النقص..؟ وهل تعيش نوعا من العزلة لدرجة أنّها في حاجة الى  حماية ودفاع ومناقشات من هذا القبيل..؟ 

   الواقع أنّ اللغة العربية ليست في حاجة الى إرتداء درع الوقاية يحميها هجمات الكائدين، ويردّ عنها شماتة المغرضين، إذ تؤكّد كل الدلائل قديما وحديثا انّ هذه اللغة كانت وما تزال لغة حيّة مكتملة الجوانب، اللهمّ ما يريد أن يلحق بها بعض المتشكّكين من نعوت وعيوب كانت قد أثارتها زمرة من المستشرقين الحاقدين في منتصف القرن المنصرم، حيث إختلقوا موضوعات لم يكن لها وجود قبلهم، وما كانت لتعدّ مشاكل أونواقص تحول دون الخلق والتأليف والإبداع، وإنما كان الغرض من ذلك إثارة البلبلة بين أبناء هذه اللغة، وبثّ الشكوك فيما بينهم حيالها، وهم أنفسهم يعرفون جيّدا أنّها لغة تتوفّرعلى جميع مقوّمات اللغات الحيّة المتطوّرة الصالحة لكل عصر، ثمّ هم فعلوا ذلك متوخّين القضاء عليها، وإحلال محلّها لغة المستعمر الدخيل، ومن المشاكل المفتعلة التى أثيرت فى هذا المضمار: الحرف العربي ، والنحو العربي، والشكل، والعامية والفصحى.. إالخ . 

    الحرف العربي 

   أمّا بالنسبة للحرف العربي فقد تعدّدت محاولات إصلاحه وتحسينه، ولكنّها باءت بالفشل الذريع، وظلّت الغلبة للأشكال المتوارثة التي كتبت بها عشرات الآلاف من الكتب في مختلف الميادين  العلميّة والفلسفية والأدبية… وسواها، زعموا أنّ شكل الحرف العربي الراهن وتركيبه لا يتّفق مع العصر، وأنّ رصف صفحة بالخط الفرنجي يعادل في الزمن رصف صفحتين بالخط العربي لتزايد عيون الحرف العربي التي تتعدّد وتتغيّر بتغيير مواقعها فى الأوّل أو الوسط أو الأخيروهكذا… فقدّم لنا كثير من الباحثين أشكالا متباينة لخطّ جديد تشبه الى حدّ بعيد رسوم الخط الفرنجي، غير أنّ القارئ العربي يكتشف منذ الوهلة الأولى أنها فى غالبيتها أشكال غريبة عليه يمجّها ذوقه العربي السليم، بل إنها فى بعض الأحيان تكلّفه عناء شديدا في هجاء حرف واحد منها ،والحقيقة أنّ جمالية الخط العربي أو حرفه لا تبارى، فقد ثبت الآن أنه حرف مثالي في جمال تكوينه وشكله وتنوّعه والتوائه واستوائه وتعريجاته واختصاره، وإن الصفحة الواحدة من الكتاب العربي لو كتبت بالحرف اللاتيني لاحتاجت إلى صفحتين على الأقل، فالكتاب المؤلف من مائة صفحة بهذا الخط الجميل لا يمكن رصفه بأقل من مائتي صفحة بالحرف اللاتيني، ثم إن تطوّر واستعمال الحواسيب الإلكترونية المتطوّرة الحديثة تتّجه سريعا نحو أساليب جديدة مبتكرة للكتابة، ومعنى ذلك هو العدول بالتدريج عن أسلوب الرصف الحرفي واختصار القوالب،وقد توصّل بعض العلماء إلى إبتكار رسوم حديثة للحرف العربي لا تخرجه عن شكله ولا تبعده عن أصله  ومع إستعمال الكومبيوتر وإحتضانه، وانتشاره وقبوله للحرف العربي بسهولة ويسر بنجاح باهر و بنتيجة مذهلة سقطت دعوى الداعين إلى إستبداله  بالحروف اللاتينية، وبذلك يفقد خصوم  هذه اللغة هذه المعركة. 

   حقّا إنه لمن السخف أن نجد بين ظهرانينا من تسمح لهم أنفسهم الدعوة إلى إستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، متّخذين ممّا إبتدعه مصطفى أتاتورك للّغة التركية مثالا يحتذى، وكذلك بدعوى السهولة واليسر وضبط الكتابة، وإبراز حركات الحروف، وهذه الدعوى باطلة من أساسها ، تحمّس لها بعض ذوي النيّات السيّئة من خصوم هذه اللغة  عربا كانوا أم أجانب. ومن بين المفكرين الذين كانوا  قد تحمّسوا لهذه الدعوى ذوي الثقل الخاص في القرن الماضي الكاتب  سلامة موسى فى مصر الذي دافع عن هذه الفكرة، وقدّم تبريرات ومقترحات فى شأنها، يقول فى ذلك: “هذا السخط الذي يتولانا كلما فكّرنا فى حالنا الثقافية وتعطيل هذه اللغة لنا عن الرقيّ الثقافي، تزيد حدّته كلما فكّرنا وأدّى بنا التفكير إلى اليقين بأن إصلاحها مستطاع، والقلق عام ولكنّ الجبن عن الإبتكار أعمّ. ولذلك قلّما نجد الشجاعة للدّعوة إلى الإصلاح الجريئ إلا فى رجال نابهين لا يبالون بالجهلة والحمقى مثل قاسم أمين، أو أحمد أمين في الدعوة إلى إلغاء الإعراب، ومثل عبد العزيز فهمي حيث يدعو إلى الخطّ اللاتيني وهو وثبة المستقبل لو أننا عملنا به لاستطعنا أن ننقل مصر إلى مقام تركيا التى أغلق عليها هذا الخطّ أبواب ماضيها وفتح لها أبواب مستقبلها”. 

   ولقد قدّم سلامة موسى بعض المقترحات نجملها فيما يلي: “الحاجة إلى إلغاء الإعراب، وميزاته أوّلا: الاقتراب من التوحيد البشري لأنه وسيلة للقراءة والكتابة عند الذين يملكون الصناعة، أي العلم والقوّة والمستقبل. وهذا الخط تأخذ به الأمم التي ترغب فى  التجدّد كما فعلت تركيا، ومن المرجّح أن يعمّ هذا الخط العالم كله تقريبا. 

   ثانيا: حين نصطنع الخط اللاتيني يزول هذا الإنفصال النفسي الذي أحدثته هاتان الكلمتان المشؤومتان : شرق وغرب، ويضمن لنا أن نعيش العيشة العصرية، ولابد أن يجر هذا الخط فى أثره كثيرا من ضروب الإصلاح الأخرى مثل المساواة الاقتصادية بين الجنسين، و التفكير العلمي، والعقلية بل والنفسيّة العلمية أيضا، إلخ. 

   وثالثا ورابعا وخامسا: إننا عندما نكتب الخط اللاتيني نجد أن تعلّم اللغات الأروبية قد سهل أيضا،فتنفتح لنا آفاق هي الآن مغلقة. “ويختم سلامة موسى بالتساؤل التالي: وبالجملة نستطيع أن نقول إن الخط اللاتيني هو وثبة في النور نحو المستقبل، ولكن هل العناصرالتي تنتفع ببقاء الخط العربي والتقاليد ترضى بهذه الوثبة؟ 

   لا شك أن القارئ الكريم يلاحظ كم في هذه الدعوة من مغالاة، كما يتبيّن له ولا ريب أنّها لا تسنتد إلى أساس سليم تبنى عليه، وإنما هي دعوة تخريب أكثر ممّا هي دعوة بناء، فهي بالتالي كانت دعوة باطلة كغيرها من الدعوات المشبوهة  التى لا  ترمى سوى إلى تشتيت التراث العربي وتشويهه. ولقد حاق بدعوة سلامة موسى فشل ذريع كما باءت بالفشل دعوات غيره من أمثال أمين شميل، وعبد العزيز فهمي، وقبلهما الدكتور سبيتا، وويلمور، ووليم ويلكوكس، وغيرهم من المغرضين، وظلت السيطرة للحرف العربي، ثم ماذا كان سيفعل هؤلاء في كثير من الحروف العربية التى لا تجد لها رسما سوى فى النطق العربي كحروف: الحاء، والغين، والعين، والذال، والضاد، والطاء، والقاف، والثاء، والهاء.. إلخ. ثم ماذا سيكون موقفهم من التراث العربي الزاخر المكتوب بحروف عربية..؟ وهكذا وئدت هذه الدعوة في مهدها. 

        النحو العربي 

   إنّ النشء من متعلّمي اللغة العربية يشكون من صعوبة  نحوها، والحق انه ما من “نحو” في أيّ لغة من لغات الأرض إلا ويعاني أصحابها من هذه الشكوى . ولقد أصبح “نحو” اللغة الألمانية مضرب الأمثال فى الصعوبة والتعقيد، على أن قواعد اللغة العربية ليست أشدّ صعوبة من هذه اللغة أو تلك،  يقول الدكتور محمد كامل حسين عن النحو العربي: “الواقع أن قواعد اللغة العربية بسيطة جدا يمكن الإلمام بها بعد درس غير مرهق، ولا يحتاج المتعلّم بعد ذلك إلا الى المران على تطبيق هذه القواعد الشاملة فيستقيم بذلك لسانه دون عناء كبير”. إن الخطأ الفادح الذى يقع فيه واضعو مناهج التعليم كونهم يلقنون القواعد في صورتها  الجافة قبل النصوص، فى حين نجد القائمين على مناهج التعليم فى المدارس الأوربية على إختلافها يعوّدون التلميذ على التعامل مع  النصّ فى المقام الأول، فهو يقرأ ويعيد ويحفظ من غير أن يكون ذا إلمام بعلم النحو، ثم يطبّق بعد ذلك ما قرأه على القواعد فإذا أردنا الخروج بنحونا من صلابته علينا أن نكثر في المراحل الأولى من مناهج  تعليمنا من النصوص فالتعامل مع النصّ يكسب الطالب أو المتعلّم سليقة فطرية ،ويعوّده بطريقة  تلقائيةعلى أشكال الحروف وبنائها وتراكيبها وتعدّد أساليبها، فقد وجدت النصوص مذ كانت العربية، أمّا النحو “كعلم قائم مدوّن” فلم يوضع إلا فى  زمن متاخّر، أي فى القرن الأوّل الهجري على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي.  

   لقد كانت العرب إذن تنطق بالسليقة، ولا تخطئ أبدا فى كلامها من غير أن تعلم لماذا كان الفاعل مرفوعا ولا المفعول منصوبا، كما أنّ كثيرا من علماء العربية وواضعي معاجمها  المشهورة كانوا يقصدون الأعراب فى البوادي حيث العربية سليمة نقيّة غير مشوبة فيأخذون عنهم النطق الصحيح،ومعروف عن الزمخشري، والأصمعي، والكسائي ،وابن خالويه وسواهم  كانوا يؤمّون البوادي ويسجّلون المعاني المستعملة عندها. 

   إذن فالشكوى من النحو هي شكوى من قواعده الجافة الموضوعة في قوالب مملّة شأنها شأن القوانين الجامدة، اما اللغة العربية فالدليل قائم –قديما وحديثا- على أنّ المران والممارسة يكسبان دارسيها  مهارة فائقة على التركيب السليم والنطق الصحيح، وكم من متعلم أو كاتب لم يدرس القواعد ومع ذلك يستطيع أن يكتب ويؤلف نتيجة الممارسة والقراءة المتواصلة، القول المعرب إذن قوامه القراءة الكثيرة، والخوض فى النصوص، وهذا ما نرجو أن  يتمّ ويعمّم فى مناهج  تعليمنا، أي مضاعفة حصص النصوص وحسن اختيارالقواعد. وانطلاقا من النصّ ودراسته نستنتج القاعدة التى بني عليها هذا النصّ، وهذا معناه التطبيق الفعلى للدراسة النظرية. وقديما قيل: ولست بنحويّ يلوك لسانه       ولكن سليقيّ أقول فأعرب. 

   وكم من محاولات لتبسيط النحو العربي التي تقدّم بها غير قليل من الدارسين ظلت حبرا على ورق دون أن تغيّر شيئا من المشكلة القائمة، اما مسألة الشاذ في اللغة الذي يخرج عن المألوف والإستعمال يظل صورة متحفية لنطق بعض القبائل العربية القديمة لا ينبغي أن نأخذ به، فالشاذ أو الشارد أو النادر لا حكم له كما يقال. ولعلّك لا تتّفق مع القائل: خطأ مشهور، خير من صواب مهجور . 

    وتنبثق عن النحو العربي مسألة اخرى يرى فيها البعض مشكلة قائمة بذاتها  وهي مسألة “الشكل” شكل الحروف العربية تفاديا للغموض واللبس والإبهام. وهناك إتهام مشهور يوجّه لأبناء اللغة العربية، في هذا الصدد، وهو أنه حتى كبار دارسيها يحارون أو يتعثّرون فى بعض الأحيان عند قراءة نصّ من النصوص العربية مخافة الخطأ أو اللحن ومن أجل شكلها شكلا صحيحا. على حين أننا نجد القارئ الفرنسي، أو الإسباني –مثلا- حتى وإن كان دون مستوى مرحلةالثانوية العامة يقرأ النصوص فى لغته بطلاقة من غير أن يرتكب خطأ واحدا، وهذه من أخطر الإتهامات التي توجّه للغتنا، ويرى فى ذلك الباحثون رأيين اثنين، يقول الأوّل:أن اللغة العربية ليست صعبة كما يدّعون، بل إن النقص كامن فيمن لا يجيدها حقّ الإجادة، وإذا كان المرء عالما بأصولها، مطلعا على أسرارها ، دارسا لقواعدها، ملمّا بأساليبها فإنّه لا يخطئ أبدا، في حين يذهب الرأى الآخر أن العربية فعلا تشكو من هذه النقيصة ،ففيما يخصّ شكل الكلمات على الأقل. هناك كلمات يحار المرء فى قراءتها القراءة الصحيحة وقد يقرأها على غير حقيقتها ، وهناك أخرى يمكن نطقها على خمسة أو ستة أوجه، وهذه مشكلة فى حد ذاتها ، ولكن كما أسلفت آنفا فإنّه مع المران والقراءة المتعدّدة وتتبّع السياق كل ذلك يساعد على تفادى أمثال هذه الأمور التي لم تحل أبدا دون التأليف والخلق والإبداع المستمرعلى إمتداد التاريخ العربي الحافل بجليل الآثار فى كل علم. 

   بين الفصحى أم العامية 

   وفي منتصف القرن الماضي حار قوم فى إستعمال الفصحى أم العامية؟ ولقد تعدّدت الدراسات فى هذا المجال بين مؤيّد للعامية متعصّب أعمى لها بدعوى التبسيط والسهولة واليسر، وبين مستمسك بالفصحى لا يرضى بها بديلا. والحقيقة التى أثبتتها السنون أن الغلبة كانت للفصحى على الرغم من هذه الدعوات والمحاولات، فكم من كاتب نادى وتحمّس للعامية وعمل على نشرها وتعميمها في محاولة القضاء على الفصحى، والغرابة أن هؤلاء الذين كانوا متحمّسين للعامية عادوا جميعا يكتبون عربية فصحى ناصعة صافية نقيّة، وفى فترة مّا من فترات حياة أديبنا  المرحوم محمود تيمور كان قد تحوّل عن الفصحى إلى العامية بل انه كتب قصصا بها غير أنه سرعان ما عاد كاتبا عربيا مبينا، بل ومتحمّسا كبيرا للفصحى ومدافعا عن لوائها كعضو بارز فى مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ودعوات سعيد عقل  وسواه من الكتّاب إلى استعمال العامية معروفة  وسال بسببها حبر غزير. 

    هذا وقد أثير فى المغرب مؤخّراً نقاش حام حول هذا الموضوع سرعان ما خبا أواره، وخمدت ناره، حيث دعا بعضهم إلى استعمال العامية (الدارجة) بدل الفصحى فى بعض مراحل التعليم، وعزا هؤلاء عن غير بيّنة ولا علم ولا برهان المشاكل التي يتخبّط فيها التعليم فى هذا البلد وسواه إلى هذا الأمر ، ولكن هذه الدعوة الواهية سرعان ما وئدت هي الأخرى فى مهدها. 

  العربية واللغات الأخرى 

   الدّفاع عن لغة الضاد أصبحت من مكوّنات هويّات البلدان العربية، لا ينبغي أن يثنينا أو يبعدنا عن العناية، والاهتمام، والنّهوض، والدّفاع كذلك بشكل متواز عن عناصر هامّة، وأساسيّة أخرى فى المكوّنات الأساسية للهوية الوطنية فى هذه البلدان، وفى حالة البلدان المغاربية  على سبيل المثال، فإنّ  اللغات الأمازيغية الأصليّة فيها قد تعايشت مع لغة الضّاد منذ وصول أو دخول الإسلام إلى هذه الرّبوع والأصقاع، فى مجتمعات تتّسم بالعدّد والتنوّع والانفتاح، ليس على لغاتها ولهجاتها الأصلية المتوارثة، بل وحتى على اللغات الأجنبية الأخرى كالفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية، والإيطالية وسواها، وحسبي أن أشير فى هذا الصّدد إلى التعايش المتناغم الذي كان قائما بين هذه اللغات برمّتها، والذي لم يمنع أبدا فى أن يكون هناك علماء أجلاّء فى هذه اللغة أو تلك من مختلف جهات ومناطق هذه البلدان، وكان “العربيّ” فى هذا السياق يفتخر ويتباهى بإخوانه من البربرالأمازيغ، والعكس صحيح، قال قائلهم

 وأصبح الِبرّ من تكراره علماً… على الخير والنّبل والمكرمات

 البرّ (بكسر الباء) الذي يعني الخير والإحسان إذا كرّر أصبح (برّبرّ) . 

    وهذا شاعرآخر من “الرّيف” فى شمال المغرب ينشد متحسّرا على مدينته التي اندرست، اندثرت، وتلاشت بعد التعايش والازدهار الذين عرفتهما من قبل، مستعملا ثلاث لغات فى بيت واحد من الشّعر وهي : العربيّة ، والرّيفيّة، والسّودانية، فقال:   

 أثادّرث إينو ماني العلوم التي دكم….. قد إندرست حقّا وصارت إلى يركا .  

    وقيل إنّ “يركا” باللغة السّودانية تعني الله، وبذلك يكون معنى البيت:

أيا داري أين العلوم التي كانت فيك….. قد اندرست حقّا وصارت إلى الله . 

المستشرقون ولغة الضّاد 

   العالم يركض ويجري من حولنا، والحضارة تقذف إلينا بعشرات المصطلحات والمستجدّات يوميا. والاختراعات تلو الاختراعات تترى فى حياتنا المعاصرة.. ونحن ما زلنا  نناقش ونجادل فى أمور كان ينبغى تفاديها أو البتّ فيها منذ عدّة عقود، ترى كيف يرى كبار المستشرقين الثقات هذه اللغة بعد إنصرام هذه القرون الطويلة التي لم تنل من قوّتها وزخمها وعنفوانها وشبابها المتجدّد حبّة خردل..؟ إنها ما زالت كما كانت عليه منذ فجرها الأوّل لم يستعص عليها  دين ولا علم ولا أدب ولا منطق، إنّها ما زالت مشعّة نضرة حيّة نابضة خلاّقة مطواعة معطاء، لقد شهد لها بذلك غير قليل من الدّارسين والمستشرقين، واعترفوا بقصب السّبق الذي نالته على امتداد الدّهور والعصورفى هذا القبيل. يقول المستشرق الفرنسي لوي ماسّنيون فى كتابه “فلسفة اللغة العربية”: لقد برهنت العربية بأنّها كانت دائما لغةعلم، بل وقدّمت للعلم خدمات جليلة باعتراف الجميع، كما أضافت إليه إضافات يعترف لها بها العلم الحديث، فهي إذن لغة غير عاجزة البتّة عن المتابعة والمسايرة والترجمة والعطاء بنفس الرّوح والقوّة والفعالية التى طبعتها على امتداد قرون خلت، إنها لغة التأمل الداخلي والجوّانية، ولها قدرة خاصة على التجريد والنزوع إلى الكليّة والشمول والاختصار.. إنها لغة الغيب والإيحاء تعبّر بجمل مركزة عمّا لا تستطيع اللغات الأخرى التعبير عنه إلا في جمل طويلة. إنّه يضرب لذلك مثالا فيقول: للعطش خمس مراحل فى اللغة العربية، وكلّ مرحلة منه تعبّر عن مستوى معيّن من حاجة المرء إلى الماء، وهذه المراحل هي: العطش، والظمأ، والصدى، والأوّام، والهيام ، وهو آخر وأشدّ مراحل العطش، وإنسان “هائم” هو الذي إذا لم يسق ماء مات، ويقول ماسّينيون: “نحن فى اللغة الفرنسية لكي نعبّر عن هذا المعنى ينبغي لنا أن نكتب سطرا كاملا وهو “إنه يكاد أن يموت من العطش”، ولقد أصبح “الهيام” (آخر مراحل العطش وأشدّها) كناية عن العشق الشديد. وآخر مراحل الهوى والجوى والوله والصّبابة

   يرى بروكلمان أنّ معجم اللغة العربية اللغوي لا يضاهيه آخر في ثرائه. وبفضل القرآن بلغت العربية من الاتّساع انتشارا تكاد لا تعرفه أيّ من لغات الدنيا. ويرى إدوارد فان ديك: أنّ العربية من أكثر لغات الأرض ثراء من حيث ثروة معجمها و استيعاب آدابها.  

    المستشرق الهولاندي دوزي (صاحب معجم الملابس): يقول إن أرباب الفطنة والتذوّق من النصارى سحرهم رنين وموسيقى الشّعر العربي فلم يعيروا اهتماما يذكر للغة اللاتينية وصاروا يميلون للغة الضاد ويهيمون بها ممّا أثار حفيظة الرهبان.  

   يوهان فك: يؤكّد أن التراث العربي أقوى من كلّ محاولة لزحزحة العربية عن مكانتها المرموقة فى التاريخ،. جان بيريك: العربية قاومت بضراوة الاستعمار الفرنسي في المغرب، وحالت دون ذوبان الثقافة الإسلامية في لغة المستعمر الدخيل. جورج سارتون: أصبحت العربية في النّصف الثاني من القرن الثامن لغة العلم عند الخواصّ في العالم المتمدين. وهناك العشرات من أمثال هذه الشهادات التي لم تخف إعجابها الكبير بلغة الضاد يضيق المجال لسردها فى هذا المجال

   العربية إذن لغة غير عاجزة عن المتابعة والمسايرة والترجمة والعطاء بنفس الرّوح والقوّة والزخم والفعالية التى طبعتها باستمرار، وأنّ ما يدّعيه البعض من مشاكل فى هذه اللغة ليست سوى حواجز يضعها الحاقدون حجرعثرة فى مسيرتها، ويختلقها الناقمون على تراثها وحضارتها الزاخرين. 

Visited 35 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا