أدب السجون اليساري وذاكرة اليسار: نرجسيات والتاريخ نَسْيٌ مَنْسِيّ (3)

المصطفى مفتاح
تذكير
كما قلت فيما سبق: امتحانٌ صعبٌ أن تحاول مساءلة إنتاج أدبي حول تلك التجربة المزدوجة أو الثنائية: تجربة الاعتقال والنضال في حركة سياسية.
لأنها تجربة مزدوجة وإن كانت مشتركة للحركة كلها أو فيما يخص كل فصيل إلا أنها أيضا خاصة. ولأن ذاكرة الفرد وإن احتفظت بنصيبها إلا أنها وبالضرورة والبديهة، تسرق أو تمسخ أو تزين وتترك قدرا من التاريخ المشترك.
والأمر أصعب أيضاً حين تختلط الذكريات وتتوهن الذاكرة.
الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في حالة اليسار وموقعها في ملف الانتهاكات بشكل عام:
حسب وجهة نظري، لعل من أبلغ التعابير عن النرجسية التي تميزت بها حركتنا الماركسية-اللينينية المغربية هي شعار “إفلاس الإصلاحية والتحريفية” ووضعنا للحركة الاتحادية والشيوعية (التحرر ثم التقدم والاشتراكية) بجانب “الرجعية” في الدرك الأسفل ومحاولتنا “المغرورة” إلى حد ما لاحتكار “الثورة” و”الثورية” و “الطليعية” والقرب “الحتمي والأوتوماتيكي” من “البروليتاريا والفلاحين الفقراء والمعدمين” في الطريق المفتوح لقيادة “الثورة الوطنية الديمقراطية الاشتراكية الحمراء الشعبية” من طرف الحزب الموعود الذي سنبنيه نحن.
وبعض الرفاق يعتبرون أن كثرة الكتابات اليسارية في إطار “أدب السجون” وندرة أو غياب كتابات عن تجربة الحركة الاتحادية مثلا مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المغربي، دليل قاطع على سمو تجربتنا السياسية والحال أن القمع والتنكيل والإعدام كان أشرس وأوسع وأعمق وأكثر وأشد وحشية على الحركات والمجموعات الني سبقتنا.
لهذا أعتبر أن وَضْعَ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تعرضت لها الحركة الماركسية-اللينينية المغربية في إطار تاريخ الانتهاكات نفسها في المغرب مهم وواجب لتأخذ الأمور مكانها الطبيعي ونعرف أحسن تاريخ بلادنا وشعبنا.
ومن المهم الإشارة إلى أن رفاقا كانوا معنا في تجربتنا أشرفوا على توثيق ما أتيح لهم من أشكال البطش في المرحلة التي سبقت أشرس الحملات التي تعرضنا لها وذلك في إطار أشغال “هيئة الإنصاف والمصالحة” التي كان يرأسها فقيدنا الأديب الرئيس ادريس بنزكري.
ترى هل ينتمي تقرير نفس الهيئة لصنف أدب السجون بشكل عام وفصوله اليسارية بالنظر إلى أن بعض المساهمين في صياغته ارتبطوا باليسار؟
ولا أعتقد أنني سأخدش نرجسية أحد أو نرجسيتنا كمجموعة إذ أنا دفعت بأن سنوات الرصاص التي عاشتها المجموعات والأفراد والعائلات التي سبقتنا إلى مصانع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب منذ السنوات الأولى بعد “انتهاء” الحماية” أفظع وأقسى وأكثر اتساعا ووحشية مما عشناه كيساريات ويساريين بعد 1970 وبكثير. وحتى بعد ذلك بالنسبة للذين عرفوا “الكوربيس” و”دار المقري” و”تازمامارت” و”قلعة مكونة” و”أكدز” و”النقط الثابثة” وما لا نعرفه من القبور وجهنم. سمعنا عن انتهاك الكرامة، سمعنا عن الطيران في الطائرات الحربية والهيليكوبتيرات وعن اغتصاب الزوجات والبنات أمام ذويهم والقتل وبقر البطون والترهيب والعقاب الجماعي لدواوير وعائلات بأكملها. تعرفنا على ما فعل “الكوم” و”العسكر موبيل” وأجهزة أخرى وعلمنا بالجيران يُجَرّونَ جَرًّا والسلاح وراءهم لسبر الأحراج والشعاب …
من الصعب وغير المفيد أن نحاول وضع سلم لدرجات الفظاعة والقسوة في الانتهاكات الجسيمة التي عرفها في أجسادهم وعرفتها في أجسادهن مواطنات منهم من عذبه الاستعمار قبل أن يسومه “مواطنوه” عذابا مغربيا “مستقلا”.
ولعل حجم الفظاعات يفسر بعض الشيء غياب أو ندرة شهادات وأدب سجون لهؤلاء النساء والرجال المغاربة!
والحديث مكان المعنيات والمعنيين صعب ومؤلم وفاجع. لهذا أعتقد أن نرجسيتنا اليسارية عليها أن تنحني إجلالا لمن سبقونا في التمرد في وقت كانت الكلفة أفدح.
وأفتخر أن بعضنا حين انبرى للدفاع عن حقوق الإنسان وبالتحديد في النضال من أجل الحقيقة والإنصاف عمل على أن يتم بعض رد الاعتبار لهذه الأجيال الرائدة في مواجهة الاستبداد وفي تحمل العذاب الشديد الذي ووجهوا به. وأذكر هنا جولات بعض الرفاق ومنهم الفقيد “ادريس بنزكري” مع آخرين في الدواوير والجبال والصحراء والواحات والمراكز لجمع وصيانة هذه الذاكرة الشعبية الوطنية وأشير للكتاب الأنيق الذي أصدره المجلس الوطني لحقوق الإنسان: “الاعتقال، التقاسم: الفضاءات والذاكرة” وأعتبره جزءا من أدب السجون المغربي!
والتقدير الموضوعي والمتوازن لتجربتنا في إطار تاريخ بلادنا بلا زيادة ولا نقصان لا يبخس بأي حال من الأحوال أهمية وشجاعة وجدة وفرادة تجربتنا وصمودها لكنها سلسلة مترابطة الحلقات في تاريخ شعبنا بأجياله، كل جيل بعطاءاته وأخطائه وخطاياه وفتوحاته ونحن جيل منها، استفدنا بوعي أو بدون وعي من الذين سبقونا ولعبوا أدوارهم في أن يسلمونا جزءا من المشعل كما سلمنا الأمانة إلى الأجيال والمجموعات والتجارب اللاحقة وها نحن نعيش كيف يناضلن ويناضلون ويقمعون ويحبسون ويعذبون ويحرمون ويناضلن ويناضلون.
بعض عناصر فرادة أدب السجون اليساري
لقد تميزت مجموعاتنا بتشكلها من أفراد ينتمون للشبيبة التعليمية ورجال التعليم والأطر بشكل كبير مقابل نسبة أكبر من الفلاحين والعمال في المجموعات التي سبقتنا بل إن الإرهاصات الأولى للحركة الماركسية اللينينية المغربية ارتبطت بالمجال الثقافي مثل مجلة “أنفاس” ونوادي ثقافية-سياسية في مراكش والدار البيضاء وفاس و العديد من الأندية السينمائية والفرق المسرحية في العديد من المدن بما فيها الصغرى والمتوسطة مما جعل عدد من المنتسبين لليسار ما أقرب للكتابة ومنهم أدباء مشهورون كعبد اللطيف اللعبي وعبد القادر الشاوي و أصحاب أقلام سياسية مثل لحبيب طالب و فنانين تشكيليين….
أضيف لذلك ولعنا واعنا منذ البداية بتأليف البيانات والأرضيات ولعلها تنتمي على الأقل للأدب اليساري وهواية صياغة التقارير وما شابهها مما سهل، حسب ما يبدو لي، الانخراط في كتابة أدب السجون وكذلك اطلاعنا على كتابات مناضلين أدباء وشعراء فلسطينيين ومصريين وسوريين وعراقيين ولعل أغلب وأشهر المبدعين العرب مروا من تجربة الالتزام اليساري.
لهذا كان طبيعيا أن تكون من القراءات الأثيرة لدينا منذ فترة السجن المدني بالدار البيضاء بعد صيف 1975 ثم المركزي بالقنيطرة بعد المحاكمة فيما يخص المنتسبين لمجموعة محاكمة 1977 مؤلفات مثل “العين ذات الجفن المعدني” ل”شريف حتاتة”[1] و”شرق المتوسط” ل”عبد الرحمان منيف”[2] و” قصائد “أحمد فؤاد نجم”[3] قبل الاعتقال ُوكذلك روايات من الأدب العالمي ك”الفراشة” [4] وغيرها من الأعمال المشابهة…
خاصية أخرى ربما تميزت بها منظمة “23 مارس” وهي أن العضوية الكاملة فيما كان يسمى “التنظيم المركزي” وكانت تمنح صاحبها كافة حقوق العضوية مبدئيا مثل التصويت والترشيح لهيئات المنظمة السرية والاطلاع على “النشرة الداخلية” ونشر الرأي الخاص فيها بما في ذلك التعليق على المواقف والآراء المنشورة. هذا الالتحاق كان مشروطا بكتابة المرشح ل”الترفيق”، كما كان يقال، تقريرا عن سيرته النضالية الشخصية وما قام به في عمله النضالي في اللجان السياسية والتنظيمات “الجماهيرية”…في تمرين ربما على الولوج اللاحق للإبداع في أدب السجون اليساري.
ومن المثير أن حصص التحقيق في مركز “درب مولاي الشريف” غالبا ما كانت تنتهي بكتابة تقرير عبارة عن اعترافات خطية تحت إشراف وتوجيه محقق مختص يحرص على أن يورط المعتقل أقصى ما يمكن وبخط يده، لكنهم لم يكونوا يثقون في ضحاياهم فيجبرونهم على التوقيع دون الاطلاع على الصيغ النهائية التي يدخلون عليها من عندهم التوضيب الأخير و “التوضيحات” التي تبدو لهم ضرورية.
وسأعود إلى جوانب أخرى من موضوع “أدب السجون اليساري” وعلاقاته مع وهن وثبات الذاكرة وأحابيلها ومع التاريخ في مقال قادم.
______________________________________________________
[1] طبيب ومناضل شيوعي مصري أصدر روايته سنة 1974
[2] أديب سعودي أصدر الرواية سنة 1975
[3] كاتب أغاني “الشيخ إمام” وهما مصريان
[4] Papillonقصة عن معسكر اعتقال ومنفى في مستعمرة فرنسية وتحكي قصة هروبه منها