فالاتشي الصحفية التي وقفت بوجه “فاشية الإسلام السياسي”

رضا الأعرجي
كانت الإيطالية أوريانا فالاتشي (فلورنسا 1929- 2006) تعد الصحفية الأكثر أهمية في العالم. وقد أحدثت ثورة في الطريقة التي يمارس فيها الصحفيون مهنتهم، كما علمتهم أن عليهم دائماً الوقوف في وجه السلطة، وليس إلى جانبها أبداً.
وصفها ميلان كونديرا بأنها رائدة الصحافة الحديثة، متفوقة على همنغواي وأورويل.
كان أسلوبها في المقابلات قاسياً واستفزازياً، وكانت مزعجة لمحاوريها، لكن لم يستطع أي منهم مقاومة الرغبة في إجراء مقابلة معها.
حاورت انديرا غاندي، وعرفات، وآرثر ميلر، وكيسنجر، وفيليني، وسكورسيزي، والقذافي، والخميني… والقائمة لا تنتهي.
قالت في حوار مع صحيفة التايمز البريطانية: “كل مقابلة هي صورة لي، مزيج غريب من أفكاري، ومزاجي، وصبري، وكل هذا يوجه أسئلتي“.
وباعتبارها مراسلة حربية، قامت بتغطية الصراعات في فيتنام والهند وباكستان والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية. وخلال مذبحة تلاتيلولكو (المكسيك، 1968) أصيبت برصاصة من الجيش. ولكن هذا لم يثنها أيضاً. ولم تخف من الحكم الذي صدر بحقها بالسجن أربعة أشهر مع وقف التنفيذ بسبب رفضها الكشف أمام محكمة الأحداث عن اسم الشخص الذي أبلغها بأن عدة أشخاص كانوا متورطين في مقتل المخرج السينمائي الإيطالي بيير باولو بازوليني. كان ذلك عام 1977.
مثل العديد من الصحفيين الآخرين، عرفت ما ستكون عليها مهنتها. ومن يقرأ كتابها “حوارات مع التاريخ والسلطة” سيتأكد أنها كانت أسطورة لا جدال في ذلك. كانت حياتها مثيرة للاهتمام، ومعها تغيرت طريقة فهم الصحافة من قبل جيل من الصحفيين في أوربا وأمريكا.
لقد واجهت الأقوياء وفضحت طريقتهم في اتخاذ القرارات. فجّرت شخصية الصحفي الذي تحول إلى مكبر صوت، وأثبتت نفسها كقائدة وليس مجرد صحفية. تطالب بإجابات واضحة، وتستنكر الأكاذيب وأنصاف الحقائق.
تمثل حوارات فالاتشي إنجازاً مبتكراً في تاريخ الصحافة العالمية. وكانت تتمنى أن تكون روائية، وكان كذلك إذ صدر لها عدد من الروايات.
قد تُعجبك حواراتها وقد لا تُعجبك، لكن أهميتها في تاريخ الصحافة لا تُنكر. تغيرت الصحافة تبعاً لأسلوبها في العمل، بعدما أصبحت أكثر تخصصاً، وأكثر جرأة، وأكثر تعمقاً في طرح الأسئلة.
ابتداءً من أوريانا، تغير كل شيء في عالم الصحافة، وخاصة في فن المقابلة السياسية، بسبب طريقتها في النظر إلى السلطة. كانت لا تستطيع تحمل السلطة، فحاربها كل أنواع السلطات. ليس فقط السلطة السياسية، بل أيضاً سلطة نجوم هوليوود، على سبيل المثال، وحاولت أن تُظهر أن أولئك الذين يمارسون السلطة ليسوا أفضل من أي شخص آخر.
باعت كتبها أكثر من عشرين مليون نسخة لتثبت بذلك أنها قامت بعمل جيد، أو على الأقل، أنها كانت قادرة على التواصل مع القراء في جميع أنحاء العالم.
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، أطلقت فالاتشي العنان لكل أنواع ردود الفعل الغاضبة والعنيفة، وزرعت الدهشة على وجوه الملايين، فحتى ذلك الحين، لم يتحدث أحد بمثل هذه القوة والإدانة للإسلام، وأصبح الإسلام بالنسبة لها هو “النازية الجديدة”: “عدونا الأول ليس بن لادن، ولا الزرقاوي، بل هو القرآن، الكتاب الذي سممهم“.
لكن الخلاف بين فالاتشي والإسلام كان أقدم من ذلك بكثير. بدأ في ستينيات القرن الماضي. وبغض النظر عن انعدام حرية التعبير، ينبع هذا الخلاف من كونها امرأة متحررة، بالنظر إلى مكانة المرأة في الإسلام، ومن كونها ملحدة أيضاً، إذ تعتقد أن “الثيوقراطية الإسلامية”، كغيرها، تضع المقدس والإلهي فوق الفرد.
ولا ينبغي أن ننسى أنها، باعتبارها الأكبر بين أربع شقيقات، قضت طفولتها في إيطاليا الفاشية في عهد موسوليني. شارك والدها في المقاومة ضد الاحتلال النازي لمنطقته، وانضمت أوريانا إلى حركة المقاومة السرية “العدالة والحرية”، ونقلت الذخائر من أحد جانبي نهر أرنو إلى الجانب الآخر. لقد مثلت الفاشية بالنسبة لفالاتشي نفس الشيء الذي مثله الإسلام: القمع، والإساءة، وخنق حرية التعبير: “إن الذين أسسوا النازية في أوروبا كانوا أقلية من الناس عديمي الضمير نظروا إلى هتلر، كما ينظر الإرهابيون اليوم إلى النبي محمد”، كما كتبت في مقال.
وكان من الطبيعي أن تتعرض لانتقادات شديدة، وخاصة من جانب زملائها، ولكن ذلك لم يؤد إلا إلى تشديد خطابها، إذ أدركت أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تستطيع من خلالها مهاجمة “الفاشية الإسلامية” باعتبارها قمعاً لحرية التعبير.
هذه المرأة الضئيلة الحجم، ذات الملامح الصارمة، كانت تتمتع أيضاً بجانب “ودود ومبهج وحيوي” كما ينقل عنها. كانت تحب الطبخ وكانت شغوفة بالثقافة. لقد عشقت أوروبا بقدر ما كانت تكره انحطاطها الأخلاقي. واستقرت في الولايات المتحدة، التي كانت تكرهها بسبب سياستها الخارجية لأنها كانت تعتقد أن شخصيتها ونهجها في الصحافة أكثر توافقاً مع هذا البلد من إيطاليا.
كانت مشهورة جداً، وعانت كثيراً من شهرتها التي جعلتها تتعرض للنقد والمنافسة. وقد ظلت أول صحفية عالمية يتم نشر كتاباتها في العديد من المطبوعات، مما حولها إلى نوع من الامتياز.
عاشت في نيويورك، وهو مكان محدد للغاية في الولايات المتحدة. كانت علاقتها بهذا البلد متوترة، وكانت تقول: “إيطاليا هي أمي والولايات المتحدة هي الزوج الذي اخترته، ومثل كل الأزواج، فقد خيبت أملي“.
وعندما اكتشف الأطباء إصابتها بالسرطان، عادت إلى بلدها. “أنا لا أحب الموت، نعم، لأن الحياة جميلة، حتى عندما تكون قبيحة“.
في سن السابعة والسبعين، توفيت هذه “الملحدة المسيحية”، كما كانت تسمي نفسها، بعدما رأت الكثير من الأشياء وتركتها مكتوبة حتى يتمكن الآخرون من أن يشهدوا على التاريخ من خلال عينيها.