زمن اللحية و”الشَّعْكُوكَة”: زفزاف الهيبِّي والخوري البوليفاري وشكري الميت الحليق

زمن اللحية و”الشَّعْكُوكَة”: زفزاف الهيبِّي والخوري البوليفاري وشكري الميت الحليق

عبد الرحيم التوراني

(…)

          اقترنت صورة الكاتب محمد زفزاف وصديقه الكاتب إدريس الخوري بلحيتهما. نادرا من شاهد صورا للكاتبين من دون لحية، حدث ذلك في سنوات تعود لفترة شبابهما. وتظهر صورة نادرة بالأسود والأبيض الكاتبين تجمعهما مع ثالثهما محمد شكري، ولا أحد منهم ملتح، جالسين على رصيف مقهى في طنجة يشربون “الليمونادة”.

 سيحافظ محمد شكري على حلاقة ذقنه، كجزء من أناقته الشمالية، ولم يترك لزغب لحيته أن يطول إلا في السنوات الأخيرة، حين نشرت له صور يظهر فيها بلحية وخطها الشيب. لكنه عاد لحلقها.

وقد مات على سرير المستشفى العسكري في الرباط، ذات مساء من شتاء 2003، بعد أن حلق ذقنه ورش وجهه بماء الكولونيا من ماركة مشهورة كان معروفا باستعمالها، اسمها sauvage، أي “المتوحش”.

أما محمد زفزاف فقد اعتمد في فترة من بداية السبعينيات شاربا طويلا بلا لحية، كما يظهر في صورة له نشرت في يومية “المحرر” عام 1974، قبل أن يعتاد على لحية أطرت وجهه النحيل، وزادته وسامة وجاذبية.

إدريس الخوري سبق زفزاف في “لبس” اللحية مع اعتمار  “الشعكوكة”، ترك لحيته من دون تشذيب. ويبدو في صور قديمة له ضاحكا مثل ثائر من جنود سيمون بوليفار في أمريكا اللاتينية.

من غيفارا إلى كاهن بوذي

      كانت اللحية في الستينيات المنصرمة من القرن الماضي تُحيل على اليسار وعلى الثورة والتمرد.. لحية تشي غيفارا ورفيقه فيديل كاسترو مثالا.

كما حضر أعضاء “البيتلز” بلحاهم، وهم أكثر الفرق الغنائية تأثيرا في تاريخ الموسيقى العالمية.. رينغو ستار، وجون لينون، وجورج هاريسون.. في حين ظل رابعهم بول ماكرتني حليق الذقن. وبعد رحيل الثلاثة ظل هو الباقي على قيد الحياة من “أولاد ليفربول الأربعة” حتى اليوم.

كان زفزاف يشذب لحيته بين حين وآخر، يقف أمام مرآة الحمام في بيته وبيده مقص صغير خاص بشعر اللحية، أو ينزل عند الحلاق السي بوشعيب صاحب “صالون الرياضيين” الذي كان يقع ببداية زنقة ليستيريل (ابن منير حاليا) من جهة شارع ابراهيم الروداني، الزنقة التي سكن بها في المعاريف.

 مع السنوات تبدلت لحية زفزاف، من لحية هِيبِّي وثائر يساري متمرد، إلى لحية مثقف ملتزم، وأقرب إلى فنان بوهيمي.. ثم إلى لحية فيلسوف، كما سماه أحد الجيران في تلك السنوات، عندما سألني عنه مرة في المعاريف، دون أن يسميه، لما استفسرته فهمت أنه يقصد محمد زفزاف.

في آخر الأمر وصل زفزاف إلى لحية تشبه لحى الكهان البوذيين ورهبان  “سقف العالم” التيبت، وقد تحول إلى الإكثار من ترديد عبارة: “الله كبير“…

الوجه الأخير لزفزاف: 

غلاف كتاب "صديقي زفزاف.. الغيلم والطاووس"
غلاف كتاب “صديقي زفزاف.. الغيلم والطاووس”

آخر مرة التقيت فيها محمد زفزاف، كانت بزنقة جورا في المعاريف، قبل سفره الأخير إلى فرنسا للعلاج على نفقة القصر الملكي. كنت أجلس على رصيف مقهى “لافرامبوازي” مع صديقي المرحوم الشاعر باللغتين العربية والفرنسية، الجمركي أحمد زكي أبو أيوب.. حين رأيت صاحب “المرأة والوردة” قادما من بعيد، كان برفقته يمسك بيده صديقنا الأستاذ عبد الرزاق الطريبق، شقيق الشاعر الاستقلالي حسن الطريبق، وكان  عبد الرزاق جارا لنا في الحي، قبل أن يتقاعد ويعود إلى مدينته العرائش في الشمال.

لا زلتُ حتى اللحظة، رغم السنوات الطويلة التي تفرقنا عن رحيل “الكاتب الكبير”، كما كان يلقبه صديقاه محمد شكري وإدريس الخوري، كلما استرجعت وجه زفزاف الأخير يشدني ألم وحزن عليه. أذكر يومها تبادلنا آخر الكلمات، أنهانا زفزاف بدعوته لي أن أزوره في بيته:

– تعال في المساء إلى الدار، ستجدني.. ليس لي من مكان آخر أكون فيه…

لكني لم أزره… بسبب الوجه الذي أنكرته. وقد ذكرت هذا في كتاب: “صديقي زفزاف.. الغيلم والطاووس”. تساءلت حينها ماذا يفعل زفزاف بخروجه على الناس في الشارع بنصف وجه، لقد أكل السرطان فكه الأيسر. وبقيت بضعة شعيرات على الفك الآخر. منظر مفزع ومرعب ومخيف حقًّا..

كان يخرج إلى الشارع كأن لا شيء به…

هل نعتبر هذا صبرا وعزيمة وقوة شخصية (؟!)..

لم أشاهد مثيلا لتصرف زفزاف إلا لدى “الوازو”، صديقي الكاتب والشاعر باللغة الفرنسية محمد خير الدين، عندما زرته في مستشفى مولاي عبد الله للأورام وأمراض السرطان في الرباط (1994)، رافقني في تلك الزيارة بسيارته الصديق الدكتور قاسم الحسيني أستاذ الأدب الأندلسي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط.

لقد تعامل محمد خير الدين مع السرطان، مثل تعامل من به زكام خفيف. لم يبك، كما رأيت صديقي العربي باطما (ناس الغيوان) يجهش أمامي بالدمع الحار، لما اضطر للتعايش مع سرطان الرئة أكثر من عامين قبل رحيله، وقد تساقط شعر العربي باطما كله نتيجة خضوعه للعلاج الكيماوي، وظل شاربه الكث وحده نابتا على وجهه الذي نحل. من بين أفراد مجموعة “ناس الغيوان” كان علال يعلى الوحيد الملتحي من أعضاء المجموعة بعد رحيل المؤسس “بوجميع”، صاحب الصوت النادر ، واللحية المميزة أيضا.

(مقتطف من نص طويل)

Visited 25 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن