عن الشاعر المغربي الراحل صبري أحمد صاحب ديوان ” أهداني خوخة ومات “
عبدالجبار العلمي
قال الشاعر عبدالكريم الطبال : ” ننسى نوابغنا وهم أحياء فكيف بعد الحياة ؟ “
غادر عالمنا الشاعر الصحفي الرياضي المناضل أحمد صبري يوم الجمعة 09 دجنبر 2022، بعد معاناة مع المرض دامت بضعة سنين. وقد شيعت جنازته يوم السبت 10 دجنبر 2022 ، ودفن جثمانه الطاهر بمقبرة (الرحمة) بالدار البيضاء.
كان الشاعر المتعدد المواهب أحمد صبري، يعاني حالةً صحيةً ألزمتْهُ بيتَه، وأَبْعَدتْه عن الحياة الثقافية التي كان من الفاعلينَ النَّشطين فيها في مختلف المجالات. ولطالما تفقده بعض أصدقائه وزملائه وقارئيه ، متسائلين عن غيابه عن الساحة الثقافية، إلى أن علموا بحالته ووضعيته الصحية ومدى ما تعرض له من نسيان ونكران لخدماته ونضاله ومواهبه سواء في المجال الأدبي أو الصحفي أو الرياضي . وقد علمتُ من زميله الأخ عبدالرحيم التوراني عبر بعض وسائل التواصل الاجتماعي ، وكذا من بعض معارفه المقربين، أن شاعرنا يشكو من تهاون الخلان في تفقده وعيادته في محنته الصحية. لقد أهدانا أحمد صبري أجملَ وأطيبَ الفواكه الشِّعرية. أما الكتابةُ في الرياضة بمختلف أنواعها، فالعارفون بشؤونها يعتبرونه أحسنَ محرر ومعلِّق ومحلل رياضي من الدرجة الرفيعة، هذا فضلا عن اللغة العربية المتينة التي كان يحرر بها مقالاته الرياضية. والمعروف أنه عمل في مرحلة من مراحل حياته مدرباً لفريق كرة القدم السَّعودي الذي حَظي فيها بنجاحٍ وتقدير. الشاعر المغربي الستيني صبري أحمد أصدر ديوانه “أهداني خوخة ومات ” سنة 1967، ثم أصدر بعده الكتب التالية : مجموعةً قصصيةً بعنوان ” شخوصٌ معلقةٌ من الأرجل” سنة 1976؛ ديوانَه الثاني بعنوان ” قصائدُ تهفو وتنحني” سنة 1997؛ كما قام بترجمة “ألف ليلة بيوم واحد” (Mille ans un jour) لأدمون عمران المليح بتقديم الأستاذ محمد برادة سنة 1990.
وسنحاول فيما يلي تقديم دراسة أولية حول ديوانه الأول ” أهداني خوخة ومات ” باكورة أعماله الأدبية.
يضم الديوان إحدى وستين قصيدة عُنِي الشاعرُ بوضع تاريخٍ لكلٍّ مِنْها، والمُلاحِظ أنَّها كُلُّها مؤرخةً بين 1961 و1963. وَقَد قسَّمها إلى مجموعاتٍ وَضَعَ كلَّ مجموعةٍ منها تحتَ عَناوينَ دالةً على ما تُعالجُه من قَضايا، هي كما يلي:
1 ـ “مجموعة جدار الإلحاد في وجه الأبطال” / 2 ـ “مجموعة حرية الأحرار” / 3 ـ “مجموعة ست قصائد لجزائر الثورة” / 4 ـ ” قصيدتان لفلسطين” / 5 ـ ” مجموعة عين الشمس في إفريقيا” / 6 ـ” مجموعة لازلنا لم نمت ” / 7 ـ ” مجموعة ثلاثة شعراء ماتوا” / ـ
” مجموعة : القلب، القلب، القلب، ولنمت بعد ذلك أجمعين” / 9 ـ ” مجموعة عمود الصلب مصلوب من زمن“.
وهكذا نجد أن ديوان “أهداني خوخة ومات” للشاعر المغربي أحمد صبري يضم قصائد تنتمي إلى الشعر الوطني والشعر السياسي والشعر القومي (ثورة الجزائر ـ القضية الفلسطينية ـ إفريقيا ) والشعر الذاتي .
وسنكتفي بدراسة المجموعة الأولى كنموذج لبقية قصائد المجموعات المذكورة أعلاه سواء من حيث المستوى الموضوعاتي أو المستوى الفني .
1 ـ المستوى الموضوعاتي : تضم المجموعة الأولى ست قصائد هي : “الطائِرُ الملتهبُ والدروب” ـ “القُشور” ـ “أنا وملاكُ العقائِد”ـ “السِّرْبُ المبَكر”ـ “المؤمنون ولهفة الحج”ـ انتظار”. في هذه المجموعة، نجد مجموعة من الموضوعات تهيمن على نصوصها، تتمثل فيما يلي : الثورة والغضب في ظل واقع قاهر ـ انحياز الذات الشاعرة إلى المناضلين والمقامين والمهمشين ، وإلى قيم الحرية والعدالة الاجتماعية. يقول الشَّاعر في قصيدة “الطائر الملتهب والدروب”: “أفحُّ النَّارَ / أُوَزِّعُ الحُبَّ / والقمحَ والحديدْ / في صدرِ كل درب” (ص: 6) ويقول في قصيدة “أنا ومَلاكُ العَقائِد” التي أَهداها في تَقْديمهِ القصيدةَ إلى الْمُناضِل الشَّهيد محمد بن حمو (ص: 9):
أهداني خوخة ومات
كما يموتُ
كلُّ مَنْ لمْ يُهْدِني
فواكِهاً ولو منْ ناظريهِ
منْ دُمُوعْ
نَجِدُ في المجموعة تعاطفاً صادقاً مع الْمُهَمَّشين والمحرومين والمقهورين من أبناء شعبه، كما نلمس إيمانه الراسخ بالغد الأفضل والأجمل لوطنه الحبيب. يُهدي قصيدته “القشور” إلى الذين يجوبون الدروب والأرضَ ويحملونَ في كفهمْ نجاسة اليوم “معبراً عن معاناة هذه الفئة من العمال الذين دفعتهمْ ظروفُ حياتهم الاقتصادية إلى امتهان هذه المهنة التي يمارسونها ليلاً والناس نيام في بيوتهم. جاء في أحد مقاطع القصيدة: ” الليل منعطفٌ ثقيلْ/ …/ وأينعتْ طحالب العبوسْ / وفي الجيوبِ / أنجمٌ ذبيحة” (ص: 7). أما في قصيدة “السِّرْبِ المُبكِّر”، فيقدم لها بهذا التقديم الشاعري: “راحوا مع الليل ودقتْ أرواحُهمْ أجراسَ الصباحِ المغربي” (ص: 11). إن الذات الشاعرة تضع أملها في طليعة المجتمع من المناضلين الصادقين الذين يقدمون التضحيات من أجل تقدم وتطور البلاد والعباد. نقرأ في النص:
رؤياكَ تخترقُ الزمانَ فيستفيقُ النائمون
ويقدِّمونَ لها الجراحْ
خبزاً وراحْ
إِذْ ذاكَ ينفجِرُ الصباحْ (ص: 12)
في قصيدة “المؤمنونَ ولهفةُ الحج” (ص: 13)، دعوة حارة إلى الحرية، وإدانة صريحة مرة إلى سالبيها. نكتفي بإيراد أبيات منها تؤكد نغمة النضال والبطولة والإيمان بقيم الحرية والحق والعدل:
وكما يقول الفارس المغوارْ:
“فَرَسِي تُقَدِّسُها التلالْ
فرسي تذوبُ لها الليالْ
تخشى حوافرُها قوائمَها الطوالْ
فَرَسي محافِلُها النضالْ”
2 ـ المستوى الفني:
الإيقاع: يمكن أن نقسم الإيقاع في النماذج التي اتخذناها مجالاً للدراسة إلى نوعين:
أـ الإيقاع الخارجي، وهو الوزن العروضي, واللافت لانتباه الدارس، أن الشاعر استخدم وزنين عروضيين متقاربين هما: الرجز في قصيدتين “القشور” و”أنا وملاك العقائد” ؛ والكامل في “السرب المبكر” و “المؤمنون ولهفة الحج”، وقد أسعفه الرجز بما يتوفر عليه من التنويع في التفاعيل (مُسْتَفعِلُن ـ مُتفْعِلُن ـ مُتْفاعِلان ـ فَعولْ). في تنويع الصور الشعرية، والمواقف التي تمتلئ بها القصيدتان أما الكامل، فقد أسبغ على النصين موسيقى حزينة تتناغم وجو الحزن والألم الذي يعاني منه السرب الطليعي في رحلته الشاقة إلى نور الصباح، و المؤمنون بالمبادئ والقيم النبيلة والمضحون في سبيلها. نسمع تلك الموسيقى الحزينة في أسلوب النداء “يا سرباً تصفد في الظلام” وفي ألفاظ المعجم المستعمل صوتياً ودلالياً (السقام) المتكررة مرتين / (الجراح).
ب ـ الإيقاع الداخلي: ويتمثل في التوازن الصوتي والتكرار والتدوير ونمثل لكل منها بأمثلة من النصوص: التوازن الصوتي: الدروب ـ العيون ص: 6) / في ناظري في خاطري (ص: 14) / “لأنها منابع الظلام ـ لأنها منابر ابتسام” (ص: 8) ـ نلاحظ ظاهرة التكرار في كل القصائد: “أهداني خوخة” في نص “أنا وملاك العقائد” تتكرر في أربع مقاطع مع تغيير في التركيب، وهي بمثابة لازمة القصيدة، فالشاعر يبئرها في كل مقطع (ص: 9) / أخذ يتلوى يتلوى الدالة على التأكيد” (ص : 6 ). أما القصيدة التي تهيمن عليها ظاهرة التكرار ، فهي قصيدة “انتظار”، حيث تتكرر عبارة لا زلت ولا زال عشر مرات في بداية كل بيت مع العلم أن القصيدة تتألف من ستة عشر بيتا أو سطراً شعرياً. وقد أدى إيقاع التكرار هنا وظيفة دلالية هي ما تحسه الذات الشاعرة من ضجر ورتابة. يقول: لا زلتُ أقضم كالغبي أظافري / وأظل أسجن في البلادة خاطري.
أما التدوير فنمثل له بالأسطر التالية:
“وأينعتْ طحالبُ العُبوس
وفي الجُيوبِ
أنجُمٌ ذبيحة ” (ص: 7)
وإذا كان الشاعرُ صبري أحمد يُعنى باستخدام الوزن في بعض قصائده، فإنه يتمرد عليه أحيانا كما في قصيدة “الطائر الملتهب والدروب” (ص: 5) في إطار محاولة التجديد الشعري الذي يعد هو من رواده.
ج ـ القافية: يستخدمُ الشاعرُ القافيةَ متتابعةً في بعض الأسطر الشِّعرية، ويترك لنفسه الحرية في توزيعها في إيقاع النهاية دون مراعاة لأي نظام محدد.
والحقيقة أن الشاعر صبري أحمد بدأ كتابة شعره موزوناً مقفى، وقد وقفت على قصيدة جميلة بعنوان “لحن اليأس” نشرها الشاعر في مجلة رسالة الأديب” عدد: 5 بتاريخ 1 مايو 1958 (على بحر الرمل)، تصلح للإنشاد والغناء لما تزخر به من موسيقى عذبة يقول فيها:
بيدي قيثارثيَّا
وعلى خديَ دَمعهْ
وفؤادي.. شفتيَّا
.. وأنا كليَ لوعَهْ
يُنْصتُ الحبُّ إليَّا
وأنا أسكرُ سمعهَ
بِنَحيبي المتردي
في مجاهيل السكون
قد سكبتُ اللحنَ والصمتُ يَرينْ
وشدَوتُ الآهَ والآهَ شدَتني
فسرتْ ألحاني في مسرى اللأنينِ
ومضى قلبي لليأس يغني:
“ضمَّ شدويَ يا لحدي
فهي لم تدر شجوني”
وأرى أن الشاعر لولا انهماكُه في العمل الصَّحافي والرياضي وغيره، لملأ الدنيا وشغلَالناسَ بشعر غزيرٍ جميلٍ ناضجٍ في عدة دواوين، وقد نشرَ بعد ذلك قصائدَ ناضجةـ تؤكدُّ ما ذكرناهـ في مجلاتٍ عديدةٍ مثلِ “أقلام” و”إبداع” و”آفاق” وغيرها.
ونختمُ حديثَنا عن الشَّاعر الرَّاحل أحمد صبري وديوانِه الرائد “أهداني خوخة ومات” بما كان من ردود الفعل إثر صدور هذا الديوان سنة 1967، فقد هاجَمت الشاعرة ُمالكة العاصمي المجموعةَ الشِّعرية، مركزةً على الوزن العروضي وبعضِ مفرداتِ المُعجم وبعضِ المعاني، وانتهتْ إلى حكم جِدِّ سلبي. أما الشَّاعر محمد الحبيب الفرقاني ـ رحمه الله ـ فقد اعتبرَ الديوانَ فريداً من نوعه، فقد قال عن صاحبِه “يُعدُّ شاعراً وطنياً بحقّ لأنه استطاع أن ينفردَ من بين كل الشُّعراء الشبابِ في بلادنا ليعطيَنا شِعراً ذا عطاء ناضجٍ يستحقُّ الحياةَ والخُلود، لا شعراً يذبلُ ويموتُ بمرور وقتِه”. وقد شاركتْ في هذه المعركة الأدبية أسماء لها حضورٌ وازن في الساحة الأدبية في المغرب أمثال الدكتور إبراهيم السولامي وأحمد السطاتي وإدريس الخوري، وكلهم أشادوا بالمجموعة الشعرية واعتبروها خطوة جديدةً إلى جانب خطوات مشابهة يخطوها شعراء كالمجاطي والجوماري والهواري والملياني وآخرين” (أنظر: محمد بوجبيري، موقع “كتابات “) .
<
p style=”text-align: justify;”> يبقى أن نقول: إِنَّ هذا الديوانَ الغنيَّ بالقضايا التي كانتْ وما تزال تشغلُ بالَ المفكرين والكتاب والشعراء، يحتاجُ إلى دراسة عميقة تتناولُ هذه القضايا، كما تتناول النواحي الفنية التي يزخر بها حتى لا تطوي صفحاتِه يدُ النِّسْيان.