الهايكو: بنياته وتقنياته

الهايكو: بنياته وتقنياته

  لحسن أحمامة

     في السنوات القليلة الأخيرة، اجتذب شعر الهايكو بعض الشعراء المغاربة، مثلما اجتذبت القصة القصيرة جدا بعض القصاصين من قبل. ربما يؤول ذلك إلى جمال هذا النوع من الشعر و طبيعة كتابته، و إن كانت كتابته تحفها مجموعة من الصعوبات، ذلك أن الهايكو ليس بتلك البساطة التي قد يستسهلها البعض- خصوصا في التباسه بالومضة و الشذرة-، رغم أن كان هناك من أدرك طبيعة هذا النوع من الشعر و صعوبته. و لئن وجد مع اليابانيين القدامى، إذ أن أصله وجد في الأغنية اليابانية (واكا) و هي أقدم شكل شعري مكون من 31 مقطعا صوتيا في خمسة أسطر، فإن هناك من يشكك في أصله غير الواضح. قد يكون التبادل الثقافي هو الذي أدى به إلى الهجرة إلى دول أخرى: الولايات المتحدة الأميركية و بريطانيا على سبيل الحصر. لا ريب أن هذه الهجرة تكمن في فهم طبيعته، و جمالياته، و نوع قوته، و هي قوة تشبه في بعض النواحي قوة الرسم.

      بدءا، ليس هدفنا من هذه الدراسة الوقوف عند كل تفاصيل هذا النوع من الكتابة الشعرية، بقدر ما نسعى إلى الإشارة إلى بعض الخصائص التي تميزه عن باقي الأشكال الشعرية، علما بأن من تخصصوا فيه في المغرب، إما بالكتابة و الترجمة معا (نور الدين ضرار) أو كتبوا فقط (إدريس علوش، سامح دوريش من بين آخرين)، غير أنهم لم يتناولوا طبيعة تشكلاته، والقضايا التي يطرحها سواء في علاقته مع الطبيعة- بشكل خاص في الهايكو الكلاسيكي- أم في أهدافه و مقاصده. نعني بذلك المكونات التي تؤسس لشعريته، وكذا الطرائق التي يتوسلها الشاعر الهايكي.

     هي ورقة نعتبرها أرضية لفتح نقاش موسع حول هذا الوافد الجديد- الأمر يصدق أيضا على القصة القصيرة جدا التي لم يتناولها إلا قلة قليلة من النقاد المغاربة، منهم على حد علمنا الناقد الأدبي حميد لحميداني – وما مدى أهميته راهنا، وأي إضافة يحملها إلى المشهد الإبداعي بالمغرب، خصوصا بعد أن تم إصدار بعض المجاميع في هذا الصدد، وتم التغاضي عنها أو إن كتب عنها، فلا يعدو  ذلك أن يكون من باب المجاملة التي فرضتها الصداقة، إضافة إلى بعض الحوارات أو اللقاءات العابرة. وإذ نعتبره وافدا جديدا، فربما لا يزال في مرحلة التأسيس أو التأصيل له وفق تصور مغربي- في تقديرنا الشخصي-، ولهذا ظل حتى الآن مهملا في البحث الأكاديمي، ولم تتم محاولة تكريسه كشكل من الأشكال الأدبية التي تدعمها مؤسسة الأدب، وكأحد أنوع التعبيرات. والواقع أن كل ما هو جديد في مجال الفكر والأدب لا يلاقي دائما في البدء إلا بعض الممانعة أو التهيب، إلى أن يحتضنه الدرس الأكاديمي من خلال بحوث و ندوات أكاديمية تشجع على الإنتاج فيه و الكتابة عنه. وإلا سيبقى موضة، أو ميلا لكتابة مغايرة تزول بزوال أهلها.      

       الهايكو أكثر من شكل شعري. إنه طريقة لقراءة نص العالم من خلال الاستجابة إلى الطبيعة بما فيها الطبيعة البشرية. وهو كتابة لها علاقة بالطبيعة، ومن أجل الدفاع عنها والمحافظة عليها. بهذا يمكن المجازفة بالقول إنه يندرج في ما يسمى بالأدب الأخضر Green literature))، أو الكتابة الأيكولوجية التي تحتفي بالطبيعة، بوصفها مصدر الحياة، وعليها تتوقف هذه الحياة بجميع أشكالها ومكوناتها. وباعتبار أن الإنسان ند للطبيعة يؤثر فيها مثلما تؤثر فيه. ولئن اختلف الهايكو من ناحية كتابته، فإن له قرابة جوهرية مع فلاسفة النزعة المتعالية. نرى إلى ذلك في  شعر إمرسن، و ولتمان.   

        الهايكو شكل شعري يستخدم اللغة المجازية (imagistic) واللغة الواضحة. وما يميز هذه اللغة كونها لغة مجسدة، ومشتركة، وطبيعية. بهذا يبتعد عن الكلمات التي تصدر أحكاما مثل: روعة، وساحرة، و كذا الكلمات المجردة. ورغم أنه يكتب بصيغة الحاضر، فثمة استثناءات في هذا الصدد. غير أن ما يجسد لحظة الدهشة ويقويها هي صيغة الزمن الحاضر. جوهر التجربة هو أن الهايكو يعبر عما يحدث ويحاول القبض على هذه اللحظة و يجمدها مثل صورة شمسية؛ إنها اللحظة التي لا يرغب القارئ في نسيانها. ما يهم هو هذه اللحظة، وليس المقاطع الصوتية. في هذا الإطار، يشبه الهايكو الرسمَ في حدسه الآني/ حدس اللحظة، ذلك أن أي أثر فني يمكن الاستمتاع به عبر فعل الإدراك الآني بدون جهد أو تفكير واع. بهذا يشترك مع الرسم في تمثيله للموضوع وحده، دونما تعليق، ودونما تقديمه بالكامل. لأن شاعر الهايكو إذا حركنا من خلال عرض الأشياء بدل توصيفها، فإنه يقوم بذلك بتقديم الخاصيات التي تكمن فيها القوى الانفعالية للأشياء أو المشاهد. من هذه الخاصيات يأتي مدلول الهايكو وأهميته، من حيث أنه لا يقدم لنا المعنى بل يمنحنا الأشياء الملموسة التي لها معنى، لكونه خبرها.

       في بنيته، يتألف الهايكو من 17 موري أو أكثر، أي 17 ضربة صوتية مكتوبة في سطر واحد. كما أنه يفتقد للإيقاع. فهدف شاعر الهايكو هو أن يبين ولا يقول. ، رغم أن هناك اختلافا. أما الهايكو الإنجليزي فيكتب في ثلاثة أسطر أو أقل، وغالبا ما يكون في أقل من 17 مقطع صوتي. وهذه السطور الثلاثة مؤلفة من خلال مجاورة صورتين معا. وفي الغالب من صورتين مركبتين بهدف خلق الانسجام، والتباين، والانفعال، والعمق. قد تظهر إحدى الصورتين في سطر، فيما قد توصف الثانية في السطرين الآخرين أو العكس. لكن لا ينبغي أن تكون هناك وقفة عند نهاية السطر الأول أو السطر الثاني، وليس في الاثنين. ولئن كان من الضروري استعمال أدوات الترقيم، فيمكن لشاعر الهايكو أن يضع فاصلة أو خطا فاصلا، أو نقط الحذف (…).

       ولما كان الهايكو كتابة تنزاح عن التجريد وتلتمس التجسيد، فقد اعتمد على الحواس الخمس: الشم، والذوق، والسمع، والبصر، واللمس، من أجل تحقيق لحظة الدهشة هذه. من هنا يجد القارئ نفسه في مشاركة صوفية مع الشاعر بجميع حواسه وأحاسيسه.

         إذا كان لكل كتابة تقنياتها التي تميزها عن باقي الأشكال الأدبية، فللهايكو تقنياته التي تجعل منه كتابة إبداعية قائمة بذاتها وتحدده كنوع أدبي له مكوناته الخاصة به، وآليات اشتغاله التي تجعله شكلا فنيا. يمكن حصر هذه التقنيات في 7 تقنيات: المقارنة، والتباين، و الترابط، و الغموض، وتضييق البؤرة، و الرسم التخطيطي، والتركيز على الحواس.  

المقارنة:

      سماء مليئة بالنجوم

ما مدى احتمال

                                          لقاء والديك                        (روبيرت ماينون)

المقارنة بين السماء المفعمة بالنجوم و لقاء الوالدين.

التباين:

شعر متجلد

تماما في مكانه

                                                قميصه الفوضوي                        ( أنجيلا لوك)

التباين بين الشَّعر في مكانه تماما والقميص الذي يعلن فكرة الفوضى التامة.

الترابط:

      سلالم موسيقية لا نهاية لها

                                                      على ناي الجار

                          كي أمي للملابس                   (مورثي هوارد)

تذكر السلالم الموسيقية الشاعرة بعمل أمها الروتيني في كي الملابس، حيث تربط بين الكدح السلالم الموسيقية وكدح العمل الروتيني للأم.

الغموض: (Yugen)

أصيل الصيف…

أول قطرات المطر

                                                 على قدمي العاريتين               (ستاندفورد م. فوريستر)

تضييق البؤرة:

في المرج

    شفتا البقرة

                                            مبللتان بالعشب                (بيني هارتر)

في البدء، تكون عدسة الشاعر كبيرة، و تضيق تدريجيا إلى أن تتركز في السطر الأخير.

الرسم التخطيطي:

في الحافلة

              مراهقة تسحب مرآة

                                             و تعدل عبوسها              ( جورج سويدي)

 في هذه التقنية، لا يقابل الشاعر بين الصور أو يقارن بينها، أو يقيم ترابطا بينها. وإذ يقوم بذلك فإنه يثور على قواعد الهايكو ويقرر أن يكتب فقط عما التقطته عينه.

التركيز على الحواس:

تذوق معدني

            الجدول البارد يندلق

                                   من يدي                       ( جيني زانغ)

      ليس القصد من إيراد هذه النصوص هو التأويل، وإنما طبيعة الكتابة التي يتميز بها فن/ شعر الهايكو. تلك الطبيعة التي تحدده وتميزه عن باقي الأشكال الشعرية الأخرى. ولئن كانت قوته تكمن في اللحظة الآنية/ المباشرة للتلقي من قبل القارئ، فإنها أيضا تتجلى في كثافته- في كثافة النص الهايكي- مما يجعله منفتحا على تعدد القراءات والتأوبلات. ولعل هذا ما يدفع إلى القول إن الهايكو مثل الكتابة الصوفية حيث العبارة تضيق، والرؤيا تتسع. هذا التمييز يتكشف عنه في فعلي الإيجاز والتكثيف. إذ أن الشاعر يرسم الخطوط العريضة ومن يتعين عليه أن يتمم أو يكمل هو القارئ. في ذلك يشترك الهايكو إلى حد ما مع تصور إزرا باوند في قوله: “أن نمنح صورة واحدة في الحياة أفضل من إنتاج كتاب ضخم”. ذلك أن الميل إلى تصوير حياة الإنسان في ارتباطها بالطبيعة يعني أن الشاعر الهايكي مهتم بالأحاسيس البشرية أكثر من الآداب أو الأخلاق أو السياسي.  ولأن الهايكو محدود في الطول، فعليه أن يحقق تأثيره من خلال الإحساس بتماسكه وانسجامه في الداخل. هذا الاحساس بالتماسك والانسجام الدالان على فلسفة الزان، تحفزهما الرغبة في إدراك كل لحظة في الطبيعة والحياة: أي الحدس بأن لا شيء وحيد، ولا شيء خارج عن المعتاد. إن تماسك الإحساس في الهايكو يزيد في حدته تعبير الحواس عند الشاعر.

        في الموقف الجمالي للهايكو، لا يهتم الشاعر بمعرفة الموضوع/الشيء، ولا بقيمته، و إنما بالموضوع من أجل الموضوع. إنه الفن من أجل الفن. فالشاعر أو المتلقي لا يعي جمال الشيء أو التأثير الذي يخلفه. موقف مثل هذا إنما هو موقف جمالي. بذلك فهذا الموقف هو الاستعداد للتجربة من أجل التجربة. إذ عندما يكون المرء مهتما ومنخرطا في الموضوع من أجل الموضوع، يتشكل الموقف الهايكي. وبذلك يمكن القول إن الموقف الهايكي حالة استعداد لتجربة جمالية، وبدون هذا الموقف يستحيل الحصول على تجربة جمالية. غير أن العلاقة بين الموقف والتجربة ليست علاقة سببية. عندما ينظر شخص ذو موقف هايكي  إلى موضوع ما، فلا يتعين عليه بالضرورة أن يعيش تجربة جمالية. من ثمة يمكن نعتها بحالة الاستعداد، أو بقابلية الانفعال. واللحظة الهايكية إنما هي نوع من  اللحظة الجمالية، تلك اللحظة التي تصبح فيها الكلماتُ التي تخلق التجربة والتجربة نفسها واحدةً.  من هنا فهذه اللحظة مناهضة للزمن وميزتها أبدية، لأن في هذا يشكل وضع الإنسان و محيطه كلا موحدا. هكذا، يجب النظر إلى الهايكو  في سياق الطبيعة وليس في سياق المجتمع. يقول ماتسوو باشو: “في صوت الضفدع الذي يقفز من الضفة المكسوة بالأعشاب البرية، ثمة هايكاي يُسمَع. ثمة ما يُرى، وما يُسمَع. حيثما يكون هوكو كما شعر به الشاعر، توجد حقيقة شعرية”. يحيل باشو هنا على النص الهايكي الذي يشكل منظورا جديدا، أو انقلابا في كتابة الهايكو، حيث أن الإغراء الذي كان له أثر قوي على الشاعر تمثل في لغز و تعذر التفسير اللذين يحفان نظام الكون:

البركة القديمة:

ضفدع نط في

صوت الماء.

       ولما كان الموقف الهايكي و التجربة الجمالية غير منفصلين مع أنهما يتعايشان. فإن هذا الموقف لا يتسبب بالضرورة في أن تكون التجربة جمالية. إذ خلال التجربة لا يعي الملاحظ كونه منفصلا عما يراه أو يسمعه، أو عما يختبره. في تأمله و تجربته، يصبح منغمرا في الموضوع. بمعنى التحام الذات و الموضوع في شخص واحد. ويكون الوعي موحدا بالكامل. إنه تفاعل بين المخلوق الحي وأحد مظاهر العالم الذي يعيش فيه. ما يتم التعبير عنه في الهايكو هو المظهر الصغير جدا للظاهرة. ومع ذلك فما يختبره الشاعر هو الحقيقة المخفية خلف ما يعبر عنه، وهو ما يقال إنه الإحساس الكوني المنبثق من اتحاد الشاعر مع الطبيعة.

     إن الهايكو، بناء على سبق ذكره، ليس إبداعا شعريا بدون خلفية فلسفية أو تصور جمالي. وإنما طبيعة المجتمع الياباني هي التي جسدت مرجعيته- رغم غموض أصله الحقيقي كما سلف الذكر- وآليات تشكلاته. ذلك أن طبيعة كل مجتمع في جميع تجلياته هي أساس كل إنتاج ثقافي يعكس تصورات أفراده لحياتهم ورؤيتهم للعالم. غير أن ذلك لا يعني استحالة إبداعه في مجتمع آخر، ولكن استنباته وفق شروط مغايرة قد يمكن من تقديم نصوص لها جدتها و أصالتها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة: النصوص الواردة في هذه الدراسة من ترجمتنا عن الإنجليزية.

المراجع:

1/ Hakutani, Yoshinobu, Haiku and Modernist Poetics, Palagrave macmillan, 2009.

2/ Yasuda, Kenneth, Japanese Haiku : Its essential Nature and History, Tuttle Publishing, Tokyo, 1957.

Visited 49 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة