دموعٌ معلّقة ورحيلٌ لن ينتهي.. قراءة في ديوان “قماش من أثير” لحكمت حسن
ياسر مروّة – بيروت
“أستند إلى ظلك، يتمهّل كنسيم ٍ تعِبَ من دربه،
أتكىء، امتداد لا صدى يؤاسيه في أقاصي الأرض وأرنو إليه”
ولدت حكمت حسن (شباط- فبراير 1967) من “تراب” (23 مرة من الكتاب الرابع الجديد “قماش من أثير”) وهواء الجبل العالي لبنان في قرية “البنية” (قضاء عالية) ومازالت تعيش فيها مع عائلتها المناضلة، كانت متعلقة جداً بالطبيعة الساحرة في طفولتها ومع أمكنتها الآخاذة عند ذاكرة الهضاب وانحدارات الجبل وهمسات النبع الزرقاء، وأول تجاربها الكتابية كانت في القرية حيث جلستْ على صخرة ملساء ودونت أول نصاً من نصوصها للريح الخفيفة مخافة أن تأتي إليها العاصفة المجنونة، عندما ركضتْ وتخبئت ومن ثمّ لجئتْ إلى مكان أمين طلباً للحماية وللدفء وللتحفيز على إنطلاقة أوسع. وكما في عالم الشعر الواسع الفضفاض، كانت الشاعرة حكمت حسن كتبت وتكتب ومازالت تبحث عن مفردات الشعر الحديث وتبحث عن أسئلة المعاني والأفكار غير السائدة، وتضع لها الديوان الرابع بعنوان”قماش من أثير” الصادر عن دار نلسن 2022، وقد تم توقيعها في معرض بيروت الدولي للكتاب الماضي، 188 صفحة وصفحة من النصوص القصيرة المشبعة بالإشارات والمعاني الجذلة “الحزينة”(21 مرة من الكتاب) واكتحلت “الأشجار”(23 مرة) المتعانقة مع جذورها المترابطة من الألفاظ المنمقة وبالأسرار المتشابكة الحقيقية والوهمية حيث تشرق الشمس الحارقة في “حياة”(34 مرة) الشاعرة التي تمر بها ببطء شديد، وتتراصف “الغيوم”(27 مرة) البيضاء كما النصوص المتلاحقة التي كانت “أصوات”(32 مرة) العصافير المغرّدة تسمع الألحان الموسيقى المحفورة المتمايلة وصفير “الرياح”(29 مرة) وضجيج “العواصف”(16 مرة)، كما يقول النص (السماء ما زالت تعبث) “طقس من الجنون/ الطبيعة أثر من شمس وقمر/ أيدينا أزاحت وجه الحزن/ مفاصل صخرة حنونة/ مررنا، بقينا، صرنا/
فهكذا خاطبت الشاعرة جمهوراً للشعر وللمتذوقين الكثيرين في تدوين السيّر والحكايات والحيوات المتلاحقة من خلال سيرورة تاريخها وامتدادها وصيرورتها بالمفاهيم الوجودية في طبقات “السماء”(37 مرة) التي تبعث من جديد، وتنهمر”الدموع”(29 مرة) من العيون التي تنزل بها أنهار القداسة وتطلع إبتهالاً: “أكتب دائماً” منحى الحياة الشعرية اليومية التأريخية، كما تعمل مُرشدة ومُربية في حقل التعليمي، والتي حصلتْ على مجازة في علم النفس/الجامعة اللبنانية.
فقد كانت باكورة أعمالها الشعرية في كتابها الأول بعنوان:”خاتم” سنة 2016، وأهدتها الى أمها التي خاطت معها الحكايات بصبر حيث لا حاجة للكلام، وحضنها وحده يكمل مشاعرها ويتركها راضية مفعمة بالأمل، وأما قصائدها تمر صاعدة نحو الفضاء التأملي، تحلّق للعشاق أسرارهم المنتقاة من قاموس العشق التي رسمت ريشتها على أبواب الليل صدى الرياح. فكتابها الثاني سمّته “مسمار” أصدرته سنة 2018، أهدته إلى من حفر بزندهِ في جبل الحياة مكاناّ لأولاده الستة، فخاطبت الشاعرة لأبيها، كلماتها التي تضمّ كل أخوتها وأخواتها التي تحاول أن تؤدي وظيفتها الانفعالية بتفانٍ قادرة على نقل صورها من الدماغ والقلب إلى النصوص المعبرة والبوح والهمس والكلام الشفاف! حكمت حسن في شعرها الآسر الموّجع، كما يقول البحتري “لمْحٌ تكفي إشارتُه”
ذلك اللمحُ يجملها تحسُّ وجع كلماتها لكثرة ما حملتها من أحاسيس ومشاعر وتربية وأصالة وسلوكيات سبب إصرارها على إطلاق كلمة “مسمار”عنواناً لمجموعتها تلك.
أما الكتاب الثالث وعنوانه:”ذئبة” سنة 2019، أرادت أن تهدي الشاعرة إلى زوجها وابنتيها جود ورغد وأن تكتشف أسرار الحياة الصعبة، وأن تتمثل حياتها في حياتهم في رحلة الذات، واتخذت الكتابة اليومية معنى في شعرها “ذئبة” أمر شاق وعسير محفوفة بالرؤى والأبعاد الوجودية، إذ لا يحتاج القارئ إلى عناء حتى يطالع التحولات الأسلوبية والتقنية في تحقيق المزاوجة في تجاربها، ونقتطف من (نص: ذئبة، ص44) فتقول:”قضمتُ أشرعة حبي/ نهشتُ حوافها/ أقسمتُ على وهمِ الأسوار/ رحتُ أطوف بها/ عبرتُ رسائل الكون/ عمري يقاس بعددِ الشروق المسمى.”
“قماش من أثير” الكتاب الرابع الجديد سنة 2022، ويضمّ النصوص المختلفة التي عددها 157 نصاً، ولا يتجاوزالنص الصفحة الواحدة معظمها، وسرعان ما يُبيّن للنص، السرعة الفائقة في التفسير في ظهور المتن وردّها للنهاية، ويكفي أن تنعم
النظر إلى عدد المرات التي استخدمتْها الشاعرة من كلمات وكلمات متكررة، كما تقصدُ في إهدائها بمعنى انه:
“حيث نظرتُ إلى الكون مراراً وتكراراً” وتكشف قصائدها عن النزعة لنقديّ الخوف والقلق، والتغلب عليهما أحياناً ونظرية التأمل والخيال التي تساعدهما على الحلول أحياناّ، وتكشف أيضاّ معاني وعناصر الطبيعة البسيطة والوجودية العميقة والعاطفية الأمومية وفضاءات المتجددة والآفاق البعيدة وتدوين الشاعرة للتواريخ بصمات أخيرة للتوكيد على نهاية البداية.
فمنذ أن زرعتِ الحب(20 مرة) والعشق(20 مرة) وقلبها(19 مرة) يتوجع من أيامها القاسية، وبكائها الذي يتعاظم ويتفاقم والقمر(17 مرة) المنتظر الذي يدمع/ يتأوه/ يسبح وسط النجوم الفضية والأزهار(17 مرة) الملونة بكل أشكالها مع عطرها، حين تأتي الأمواج التي تتعرى بها بعيداً عن البحر الهائج المتخيل “في أعماقها شيفرة مؤرقة وأسئلة”، وفوضى الخريف وأوراقها المتساقطة ورقة تلو ورقة، لا نظام لها وتلك أعمار الليالي الأجوف مثل العتمات التي سجنت كل “قصائد الأوقات(13 مرة) الغريقة وتلتهم نيرانه وتمتنع عن استقبال الاثار” ويصمت الصمت(21 مرة) المطبق مخافة من الأشياء المنسيّة لمشهد الكون الأثير. ولكن “سأنثر في الهواء دروباً لنا ويبلغ النهر ذروته وينسكب السلام”. تحاول الشاعرة أن تتسلّق الضّوء بصوتها، تُعبّر زفراتها والمطر يتساقط إيقاعاً دون أن تصلَ إلى درجة مخففة، ولكنها تكتشف أنّ إيقاعاتها الترددية ونبرتها وبكائها وصراخها لن يكون إلا صوتاً قوياً هداراً صداحاً، فوجدتْها أجمل صوتًا فوق أوراقها وثنايا نصوصها بين لمستها وهمستها وخشخشة أوراقها، ووجدت لها في باحات السّرد وساحات الخيال، قالت:” لا أقارن بين صوتي وصوتي، بل أقارن بيني وبيني إذا غنيت فمي بأصابعي” وكتبتْ بقلمها وفلسفتها لحنها السحريّ وجُملها الموسيقية الجزلة الحزينة التي لا أمكنة تفتقد إليها، لتكون فيها غير عوالمها المبنية المتراصة السعيدة، كما تقول الشاعرة أخيراً عن نصّ مؤثر من نصوصها الجديدة بعنوان:”جناحا الحياة (ص:31):
ردم الزمان عِتاب/
عجز الهواء عن الهجرة/
دأب يداي عند الوداع/
الالتصاق كلّ/
سيجمعنا/.
Visited 18 times, 1 visit(s) today