رولان بارت: تفاصيل حادثة دهسه وموته
سعيد بوخليط
مات رولان بارت، يوم 26 مارس 1980. بجانب المضاعفات الرئوية التي انبعثت ثانية جراء الحادثة، أصابت بارت عدوى ترتبط بالمستشفى، يلتقطها المريض عادة داخل تلك الأمكنة وقد تصبح قاتلة. ربما ،شكلت السبب المباشر لوفاته. نجتر في أغلب الأحيان حديثا مفاده، أنه مات جراء حادثة دهسه من طرف شاحنة تابعة لمحل صباغة قادمة من مدينة مونروج، وسط ممر لعبور المارة في شارع المدارس.
صحيح أيضا يوم 25 فبراير، عاد من لقاء حول مائدة وجبة غذاء أشرف عليه جاك لانغ يندرج أو ليس الأمر كذلك، في إطار التحضير للاستحقاق الرئاسي المقبل، في غضون سنة تقريبا، بحيث تطلع جاك لانغ الذي أصبح بعد ذلك وزيرا للثقافة الفرنسية، نحو إحاطة فرانسوا ميتران بمثقفين وفنانين معتَبَرين، أو أنَّ ميتران يحب هذه الأجواء فراهن على لانغ كي يواصل تنظيم لقاءات من هذا النوع.
تشير الساعة بالضبط إلى الرابعة زوالا، يطوي بارت سيرا على الأقدام شارع “المعاطف البيضاء ”، عن طريق جسر”نوتْرْ- دامْ”، يسلك شارع “القديسة جنفييف” ثم بلغ الآن شارع المدارس، ليس بعيدا عن زاوية ”شارع مونج”. يواصل تقدمه على الرصيف الأيمن، تقريبا غاية متجر”المخيَّم القديم، لوازم الرحلات”. يتأهب للعبور كي يبلغ ممر الجهة اليسرى. وجهته الأساسية، كوليج دو فرانس، ليس بهدف تقديم درس، بل معاينة التفاصيل التقنية واللوجيستيكية لمحاضرته المقبلة، التي سيتحدث في إطارها عن موضوعي “مارسيل بروست” و”التصوير”، بحيث يحتاج في سبيل ذلك إلى جهاز عرض ضوئي.
تقف عند الرصيف سيارة تحمل لوحة مسجَّلة في بلجيكا، مما أثَّر على وضوح الرؤية بالنسبة إلى بارت، يتقدم مع ذلك، ثم وقعت الحادثة. لم تكن الشاحنة مسرعة جدا، غير أن الاصطدام بدا عنيفا جدا. ارتمى بارت أرضا فاقدا للإدراك. توقفت الشاحنة، اضطربت حركة المرور، حضرت فورا إلى عين المكان فِرق الإسعاف، الشرطة (يوجد مخفر في شارع موبير). لاورقة تثبت هوية المصاب، فقط بطاقة تحيل على كوليج دو فرانس. يلزم الاستفسار عن أمره بكيفية مباشرة. أقر أحدهم بأن الأمر يتعلق تحديدا برولان بارت (قبل ذلك أكدت آراء بأن الشخص الملقى على الأرض هو ميشيل فوكو، بينما رجحت شهادات أخرى هوية روبير موزي، أستاذ في جامعة السوربون وصديق قريب من رولان بارت). أُخبر أخوه ميشيل سالزيدو وكذا أصدقاؤه يوسف باكوش وجون لوي بوت. أسرع الثلاثة صوب مستشفى ”بيتي سالبيترير” حيث نقل رولان بارت، الذي تعرض لمجموعة من الكسور لكنه متيّقظ.عدة تصدعات،ظاهريا غير ذات خطورة، مما جعلهم يغادرون المستشفى مطمئنين إلى حد ما.
خلال صبيحة يوم الحادثة، كان بارت في حالة تأهب استعدادا لتلبية دعوة الغذاء التي وجهت إليه. مثلما دأب دائما، ينزوي كل صباح داخل مكتبه للاشتغال، وسينكب هذه المرة على تدبيج مضمون محاضرة يتطلع إلى إلقائها في مدينة ميلانو بمناسبة ندوة ستجري وقائعها خلال الأسبوع الموالي. ستتطرق مداخلته إلى ”ستاندال وإيطاليا”، فاختار لها كعنوان: “نخفق دائما في الحديث عن مانحبه”. يقترن هذا التأمل بالدرس الذي أنهاه قبل ذلك في كوليج دو فرانس حول موضوع ”تحضير الرواية”مادام قد تطرق بشكل عابر، لدى ستاندال إلى المذكِّرة اليومية في الرواية. بينما أبان الأخير عن عجزه بخصوص التعبير عن عشقه لإيطاليا من خلال اليوميات، ثم استطاع في المقابل الإفصاح عن ذلك عبر صفحات روايته :”دير بارما”. يقول بارت: ”الذي حدث بين يوميات السفر وكذا روايته”دير بارما”، يكمن في الكتابة. مامعنى الكتابة؟ إنها قوة، ثمرة محتملة لاستهلال طويل، تخلَّص من الجمود العقيم للمتخيَّل العاشق ثم أضفى على مغامرته عمومية رمزية”(1). لقد رَقَن على الآلة الكاتبة الصفحة الأولى وبداية الثانية. ثم يستعد للخروج، ولايعرف حقا سبب استجابته لدعوة الغذاء تلك.
اهتماماته بالعلامات وكذا مختلف تجليات العالم، أتاح له خلال فترة سابقة تحديدا شهر دجنبر 1976، المشاركة في لقاء غذاء من هذا النوع مع فاليري جيسكار ديستان، في ضيافة عائلة إدغار ولوسي فور Faure، بهذا الخصوص انتقده بعض أصحابه، الذين رأوا في خطوته تلك ولاء لليمين. بينما، يوحي تعاطفه الخاص وكذا مايضمره محيطه بأن مشاركته طبيعية أكثر، مقابل ذلك اعترف إلى فيليب ريبيرول السفير الفرنسي في تونس، بإحساس مفاده تورطه رغما عنه في حملة ميتران.
ما أسماء ضيوف ميتران الآخرين إلى جانب رولان بارت؟ فيليب سير Serre النائب السابق عن الجبهة الشعبية، والذي رغم غيابه لأسباب خاصة خلال تلك الفترة فقد أتاح لهم فضاء منزله لتنظيم مجريات اللقاء، بدل منزل ميتران الكائن في شارع بييفر، نظرا لصغر حجم مساحته قياسا لزخم هذا النوع من الاحتفالات، ثم علاوة على ذلك، كما تكشف المعطيات الواقعية بأنَّ مفاتح يومياته تملكها دانييل ميتران أكثر من رئيس فرنسا المستقبلي. أيضا حضر بيير هنري المؤلِّف الموسيقي، والممثلة دانييل دولورم، ورولف ليبرمان مدير أوبرا باريس وكذا المؤرخيْن جاك بيرك وهيلين بارمولان، بجانب جاك لانغ وفرانسوا ميتران. ربما، تواجدت في عين المكان شخصيات أخرى لم تستعد ذاكرة معينة أسماءهم. مثلما يمكننا التوقع، بأنَّ ميتران العاشق الأكبر للميثولوجيات لم يقرأ شيئا آخر لهذا المفكر الجالس اليوم بجواره على نفس المائدة.
ميزت الوجبة أجواء مبهجة، تخللتها كلمات طيبة وصادقة حول تاريخ فرنسا ثم دعابات تثير ضحكا صادقا.لم يتحدث بارت سوى قليلا.تدق الساعة الثالثة زوالاا، يستعد الضيوف للمغادرة.
قرر بارت أن يسلك طريقه مشيا صوب كوليج دو فرانس. يمتلك حيزا من الزمان، مادام الموعد المقرر للقائه ريبيرول القادم البارحة من تونس، لن يكون سوى عند نهاية فترة الزوال، لحظتها وقعت حادثة السير.داخل مستشفى بيتي- سالبيترير، استفاق رولان بارت. يجلس أخوه وأصدقاؤه إلى سريره. تبثّ وكالة فرانس بريس أول أقصوصة خبرية، بهذا الخصوص، على الساعة الثامنة مساء وثمان وخمسين دقيقة: “رولان بارت، الجامعي، الباحث، الناقد، البالغ من العمر أربعة وستين سنة، تعرض يومه الاثنين بعد الظهيرة لحادثة على الطريق في منطقة الدائرة الخامسة، شارع المدارس. هكذا، تم نقله إلى مستشفى بيتي-سالبيترير. اتصلنا بإدارة المستشفى التي لم تقدم مع ذلك عند الساعة الثامنة ونصف أيّ معلومة حول الحالة الصحية للكاتب”. صبيحة اليوم التالي، صدر إعلان ثان عند حدود الساعة الثانية عشر وسبعة وثلاثين دقيقة، اعتُبر أكثر اطمئنانا: “لازال رولان بارت يرقد في مستشفى سالبيترير. تؤكد الإدارة بأنَّ بارت يخضع للرعاية الطبية وحالته الصحية مستقرة غاية اللحظة الراهنة. لقد أوضح ناشر أعمال الكاتب بأنَّ حالته الصحية لاتثير أيّ قلق”. حاول إذن فرانسوا وول بكيفية أو أخرى، التكتم عن حقيقة بارت، مثلما أكد روماريك سولغير-بويل أو فيليب سوليرز(2). تدهور تدريجي ومباغت لحالة المريض؟ تحدثت الروايات بهذا الشأن عن تكالب عنصرين. بداية أبدى الأطباء اطمئنانا ثم لم يضعوا في اعتبارهم كفاية فظاعة الحالة الرئوية لمريضهم. ذلك أن قصوره الرئوي أدى إلى إدخال أنبوب بلاستيكي، ثم تطور الأمر إلى ثقب على مستوى القصبة الهوائية مما أضعف حالته الصحية بامتياز.
قدَّم سوليرز في روايته ”النساء” تأويلا مأساويا لمشهد نتائج الحادثة، أظهر بارت أو ”ويرث”، اسمه المستعار في الرواية، تحت رحمة معدات الإنعاش، جراء تأثير قوة دهسه: ”أسلاك متشابكة. أنابيب. أزرار. ومضات حمراء. صفراء”(3 ). بالنسبة لأشخاص كثيرين معاصرين، يظل الفزع حيال قسوة الواقعة في صراع مع شعور بالضرورة. فمنذ وفاة أمه، دشن بارت تدريجيا عهد انزلاقه:” التقيتُ ويرث عند نهاية حياته، تحديدا قبل وقوع الحادثة… مرت سنتان على وفاة أمه، عشقه الكبير بل الوحيد…هكذا تماهى أكثر فأكثر خلف تعقيدات علاقاته بالفتيان، شكَّل الوضع الجديد منحدرا بالنسبة إليه، ثم فجأة اتخذ الأمر وتيرة سريعة، مستأثرا كليا بتفكيره، رغم تمسكه بحلم تحقيق القطيعة، والتزهد، وبلورة حياة مغايرة ، وكتب جديدة ، وتدشين انطلاقة مختلفة”(4).
يقدم بارت انطباعا مفاده أنه لايمكنه أبدا،ولن يستطيع قط التفاعل إيجابا مع مختلف الالتماسات التي وجِّهت إليه. حتى الأصدقاء أو الأقارب الذين أحرجهم هذا الموضوع، أي شغف بارت بالفتيان، ركزوا على الإرهاق الذي انتابه جراء ضغط الطلبات، الرسائل، الاتصالات الهاتفية: “لم يكن يعرف جوابا بالرفض. وبقدر ماكانت الأمور تضجره،أحس بحتمية مايقوم به”. يلخص ببساطة ميشيل سالزيدو. الفرضية اللاحقة التي تؤكد بأن بارت استسلم للموت رويدا رويدا منذ الرحيل المهول لأمه، صاغها البعض كالتالي: ”سواء تجلى ذلك نتيجة إفراط نفسي، أو حكاية ضرورية كي يجعل الوجود مكسوَّا جدا. يُحتمل كفاية أيضا، أن تعبه رسخه حزن تبلورت معه جلّ سمات الاكتئاب. لكن بارت لايعتقد حتما بفكرة وجود سماء حيث بوسعه الالتقاء ثانية بأمه. خلال تلك اللحظة، لم يستسلم إراديا للموت، حتى ولو أن نظراته، مثل التي كانت تخترق صديقه إيريك مارتي، تسمح بمرور إحباط من هذا القبيل: ”كما لو كان أسيرا للموت”(5).
ليس لأنه لم يعكس ظاهريا على مستوى الإشارات الخارجية، صراعه العنيد مع المرض وكذا الموت، فقد تخلى عن المتنفَّس المحتمل الذي توفره. مثلما أكد ميشيل فوكو أثناء حديثه مع ماثيو ليندون بخصوص موت بارت، فإننا لاندرك المجهود اللازم للصمود داخل المستشفى: ”يمثل الاستسلام للموت الحالة المحايدة للاستشفاء”(6). ينبغي الصراع من أجل البقاء: “وقد أضاف، إلى ركيزة تأويله، بأننا على العكس نتخيل شيخوخة طويلة وسعيدة بالنسبة إلى بارت، على منوال حكيم صيني”.
أن يختار بارت إراديا الانقياد خلف رحيله، يبقى مع ذلك الانطباع الذي خلفه لدى جوليا كريستيفا، بحيث أوضحت اعتقادها في هذا الإطار ضمن صفحات روايتها المعنونة بـ ”الساموراي”، من خلال تسليط الضوء على بطلتها ”أولغا” واستعارت لرولان بارت اسم أرمون بريال. لازالت جوليا كريستيفا تؤمن غاية اليوم بنفس القناعة.
جمعت الاثنان علاقة قوية جدا، كان بارت يضمر نحو كريستيفا إعجابا تاما، ولم يكشف لها عن ذلك قط. ترأس لجنة مناقشة أطروحتها، كما رافقها إلى الصين سنة.1974 تستحضر ثانية صوته. ويبدو بأنَّ عينيه تتحدث عن التخلي وتوحي أفعاله بالوداع: “لاشيء أكثر إقناعا من رفض الحياة حينما يتم التعبير عن ذلك بدون هيستيريا: لا التماس للحب،فقط رفضا ناضجا، بل ولا فلسفيا، لكن رفضا حيوانيا وقطعيا للوجود. نشعر بالضعف حين التمسك بالإثارة المسماة ”حياة” التي يتخلى عنها الشخص المحتضِر بقدر من اللامبالاة. تعشق أولغا جدا أرمان، بحيث لاتفهم قط ما الذي يرغمه نحو الرحيل بهذه الصرامة العذبة والقطعية، لكنه سينتزعها نحوه فيما يتعلق باستسلامه وتمسكه بعجزه. عموما، تخبره بأنها تحبه وتدين له بأول عمل لها في باريس، تعلمت على يديه القراءة، وسيذهبان معا إلى اليابان مثلا أو الهند، أو أقصى المحيط الأطلسي، فذلك رائع بالنسبة لجهاز الرئة، وكذا ريح الجزيرة، وسيمكث أرمان وسط الحديقة بين أحضان نبات إبرة الراعي”(7).
انعدام الهواء، الاستنشاق في خضم الموت، وضع أشار إليه ديبيس روش بين سطور رسالته الجميلة جدا: ”إلى رولان بارت حول رحيل الفراشات”: “أول شيء أرغب في قوله، أنكَ سقطتَ على وجهكَ فتسبَّب ذلك في إصابته بجرح؛ لقد حكى لي صديق مشترك زياراته إلى المستشفى وأخبرني بأنه امتعض من تصرفكَ حيال الأنابيب التي بواسطتها لازالت الحياة تسري نحوكَ، كأنكَ تود القول ”أوقفوا مفعول تلك الأنابيب، فلا فائدة ترجى منها”(8). كما الشأن مع فرانكو فورتيني خلال الظرفية ذاتها، فقد استعاد تفكير دينيس روش موت باولو بازوليني، وقد توخى بارت قبل ذلك كتابة رواية عن الموضوع: ”رواية المختصين في تطبيق العدالة. فكرة بدأها بنوع من القتل الشعائري(التخلص من العنف بكيفية نهائية) ”البحث عن قاتل بازوليني (إنه حر طليق فيما أعتقد)”.
لايمكن بالنسبة لدينيس روش عدم التفكير في البعد البازوليني للموت، ينغمس بنا: “داخل وميض داكن لجنس عانق الموت أخيرا”. لقد أعاد وصل ذلك بفن التصوير، لنتذكر بأنَّ كتاب بارت ”الغرفة المضيئة” احتوى فقط على صور أطياف التُقطت من الأمام؛ يعيد ربطها بظهور- اختفاء الفراشات، ذات ليلة خلال شهر يوليو في إقليم توسكانا: ضوء-فاتر ، ضوء- فاتر، ضوء-فاتر.
يستحضر بارت من خلال النص الذي رقنه على الآلة الكاتبة صبيحة موعد الحادثة، حلما يقظا تجلى لديه سابقا، قبل شهر بالضبط، عند الرصيف الرمادي، المتَّسِخ والمعتَّم، لمحطة القطار في ميلانو. يشير الموعد إلى 27يناير، بمناسبة تسليم جائزة مايكل أنجلو أنطونيوني. أتى دومينيك نوغيز للقاء بارت في محطة القطار ثم اصطحبه إلى فندق كارلتون: “ديكور جديد ومعقَّم للقصر الأمريكي، الشاسع والفارغ: تاتي Tati + أنطونيوني…بل يقطن أنطونيو هناك”(9) .
يتحدث في يومياته عن ”عاشق المدن الحقيقي”- مدن ليلية- مثلما بحث آنفا على تعقُّب وكذا تقييم الخطوات التي تجعله يهيئ- من يدري؟- الهروب الذي باشره للتو، ويقتضي أن نتركه وحيدا.بقي بارت عند حلمه بخصوص السفر الكبير. إبان لحظة تغييره لمسار سفره قصد الوصول إلى مدينة بولونيا، لاحظ مرور قطار يتجه نحو أقصى الجنوب تحديدا منطقة ”بوليا”. انساب تأمله، عبر كل قاطرة، نحو التركيز على مضمون عبارة: ”قطار ميلان- ليتشي”، فكتب التالي: “أن تمتطي هذا القطار وتسافر طيلة الليل، ثم تجد نفسكَ صباحا بين نور، وعذوبة، وهدوء مدينة بعيدة”(10).
ليست هذه الصورة المحيلة على رحيل استثنائي وما يوجد في نهاية النفق، مجرد تخيُّل لمصرع بارت. بل تجسد الصورة أيضا انتقالا من الرمادي صوب النور، الذي بوسعه توضيح الانتقال من حياة قاتمة ومنبطحة نحو حياة ثانية مختلفة، حياة جديدة وحياة- إنتاج. إنها تعبئ وجهة حركة معاكسة لحياة الفراشات، مما يستعيد حديث دينيس روش عن فن التصوير إبان رثائه للصديق الفقيد، قطيعة في إطار جملة وحيدة، وجواب صغير للاستمرارية تتجنب اللجوء إلى الفجوة العظيمة المتمثلة في الموت؛ الصور : ”مثل رزاز لُعاب الذاكرة، غارة هوائية خفيفة تسبق كل واحد منا ضمن مجرى جملته اللانهائية، أبعد من موت الآخرين (بالعودة إلى موت بازوليني، غاية موتكَ الخاص، ثم موت باوند ،انتهاء بموتي، تحدد بكيفية متأخرة تاريخ إشارة ثانية إلى قبره)، غارة خفيفة رطبة تُستعاد دائما وفق إطار لم يكتمل لسيمياء وجوه معشوقة، وجه أمام وجه، مهووسة بثغر فمها فتبثُّ وفق صور عدة تبلّلها نحو الأخرى، متورطة في ذاتها باستمرار بين طيات رطوبة أكثر عمومية يجسدها القبر”(11). نسقط على الواجهة الأمامية، فنلتقط من أمام صور موضوعات، غير أنه يصعب علينا رؤية الموت حقا وجها لوجه.
توفي بارت يوم 26 مارس 1980، داخل مستشفى بيتي- سالبيترير عند حدود الساعة الواحدة زوالا وأربعين دقيقة، قريبا جدا من محطة ”أوستارليتز” لقطار المترو. رفض الأطباء تعليل وفاته بحادثة الدهس، لكن نتيجة مضاعفات حالته الرئوية: ”لدى شخص عانى أصلا من حالة قصور رئوية حادة”، مما يفسر قرار النيابة العامة الباريسية يوم17 ابريل بعدم متابعة سائق الشاحنة. لم يعد بارت أبدا قادرا على التنفس. توقف نبض قلبه. ثم أسلم روحه.
وُضع جسده داخل تابوت. بعد مرور يومين، عاينه مئات الأصدقاء، والطلبة، والشخصيات، خلال احتفال سريع جرت مراسيمه وسط ساحة المشرحة: “صُدمت المجموعة التي كنتُ ضمنها، يروي إيطالو كالفينو، والتي شكَّل جانبا كبيرا منها شباب (ضَمَّ بعضا من المشهورين، تعرفت على جمجمة فوكو الصلعاء). كُتبت عبارة عند مدخل الجناح، لاتشير هذه المرة إلى إشارة التسمية الجامعية ”مدرج”، لكن ”قاعة التحقق من الهويات”(12). بل ولم نتطلع حينها إلى التقليد اللائكي للطقس الديني الذي يركز على قراءة نصوص أو التعبير عن تقدير رائع ومؤثر نحو الفقيد.
يتأمل البعض جسد بارت وقد بدا ضئيلا جدا. بينما تناول البعض كلمة مقتضبة، كما الحال مع ميشيل شودكيفيز (13)، الذي تولى عقب فترة بول فلامون مسؤولية إدارة منشورات سوي منذ سنة 1979 .
تواجدت لحظة تأبين بارت أسماء ك : ميشيل وراشيل سالزيدو، فيليب ريبيرول، فيليب سوليرز، إيطالو كالفينو، ميشيل فوكو، ألغيرداس غريماس، جوليا كريستيفا، فرانسوا وول، سيفيرو ساردي، أندريه تيشيني، الذي اقترح على بارت دورا سينمائيا(صغيرا) حول شخصية ويليام تاكيراي في فيلم”الأخوات برونتي”الصادر سنة (1978)، فيوليت موران، ثم أصدقاء بارت المنتمين إلى شارع نيكولا- أويل،الواقع تحديدا قبالة محطة أوستيرليتز.
بعد ذلك، أسرع بعضهم هؤلاء، نحو القطار المتجه صوب قرية أورت، قصد معاينة مراسيم دفن بارت. ينطبق الأمر على إيريك مارتي الذي تحدث عن هذا السفر الغريب تعبيرا من طرف أعضاء المجموعة المسافرة عن حبها لرولان بارت.يقول: ” أتذكر، بأنه خلال ذلك اليوم، تهاطلت أمطار غزيرة وقوية كما هبت ريح جليدية غمرتنا، فحوصر حشدنا الصغير المحبَط، ثم المشهد الأبدي فيما يتعلق بالتابوت الذي أنزلناه وسط الحفرة”(14).
تناسلت التقديرات، ظهر العديد منها على صفحات جريدة ”لوموند”
أيام قليلة بعد وفاة رولان بارت، كتبت سوزان سونتاغ نصا رائعا جدا، ورد ضمن إحدى أعداد صفحات مجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس”، ناقش علاقة الكاتب بالبهجة والاكتئاب، وكذا القراءة باعتبارها صيغة للسعادة. بارت، الذي يتمرد عمره عن كل تخمين مضبوط، ويرافق غالبا أشخاصا يصغرونه سنَّا، دون قصد منه كي يبدو شابّا، أبدى فعلا ”تناغما مع حياة كشفت أحداثها عن سلسلة انزلاقات”. لقد أظهر جسده معرفة بما تعنيه دلالة الاستراحة. أبرزت شخصيته باستمرار، جانبا متواريا شيئا ما، وتنمّ عن حزن ”يجعل اليوم موته المبكر أكثر حدَّة ومفجعا”(15).
مثلما ستفعل جوليا كريستيفا، بعد انقضاء فترة معينة، استحضر جون رودو، بين صفحات المجلة الفرنسية الجديدة، صوت بارت، إيقاع جملته، طريقة تهيئه للأبيض والسواد،عشقه للموسيقى مثلما تكشف عنه ذرة صوته. تحدث كذلك، عن طريقة تدخينه سجائر كوبية من الحجم الصغير. استحضر خاصة ارتجاجات نحو الحياة والعمل: ”لم يتجه اهتمامه كي يغدو معروفا؛ بل أن يحدث ذلك بفضل ما يتوخى التعريف به. يبقى الأكثر خطورة ضمن نصوصه، الطريقة التي بواسطتها تهتزُّ نظرية نتيجة ما يكشف عنه وضع سياق معاش: يبحث صوت عن جسده، قبل انزلاقه متأخرا نحو الأنا الفاعلة بين طيات مؤلفاته الأخيرة. إذا كتبتَ بهدف أن تصير معشوقا، وجب أن تكون تلك الكتابة صورة عنكَ؛ تتضمن أثرا عن هذا الافتقاد وكذا الحيز الفارغ حيث تأخذ مع ذلك دعوة الآخر مبدأها”(16).
رولان بارت أو الغموض: أين كان فترة حضوره؟ ما الوجهة التي يتحول إليها إبان غيابه؟ تكشف الموت عن جوانب مطلقة للفراغ أو افتقاد الآخرين لاتتستر عليه قط الحياة المنتقاة والمتجلية. وفق أيِّ طريقة يستمر دائما تردد صدى هذا الصوت المتطلِّع نحو جسد؟ توافق العديد من الأشخاص، لاسيما كالفينو، على نفس تمرين تكريم بارت وكذا استعراض كتابه ”الغرفة المضيئة”. تشكِّل الموت تثبيتا للوجه، من هنا رفض التقاط الصور. أضحى الكتاب نصا تنبؤيا، سمته التطلع نحو الموت.
قد يبدو هذا التأويل عَرَضيا شيئا ما، وغير قابل للتصديق، لكنه مع ذلك يقدم إشارة عن جانب من الحقيقة لعب في إطارها مضمون كتاب الغرفة المضيئة دورا. تضاعفت العزلة الداخلية خلال سياق تلك الفترة بانعزال اجتماعي، وكذا شعور بالابتعاد.
لم يمر دون تكلفة، النجاح الهائل الذي حققه عمله الآخر “شذرات خطاب عاشق”، وكذا شعبية دروسه داخل كوليج دو فرانس. هكذا، ابتعدت عنه جماعة من المثقفين بحيث اعتبروا تطور سرده السير- ذاتي، وكذا نزوعه نحو الرواية، التصوير الفوتوغرافي، مجرد تسويات واختيارات اجتماعية. أيضا، كابد جفاء بل احتقار جانب من النقد غير الجامعي.
إنَّ كتاب ميشيل بورنيي وباتريك رامبو (17): “رولان بارت دون صعوبة”، قد أضفى بخصوصه عناء.
سنة 1977، ساهم الإعلان الصارخ لدرسه المعنون بـ”اللغة فاشية” في الإساءة إلى صورته لدى الفلاسفة وأصحاب النظريات المناضلين بحيث عاتبوا عليه استسلامه لحوريات بحر الموضة وشجبوا تماما لامبالاته، أو ربما تميُّزه ببساطة شديدة. حظي أساسا كتابه الغرفة المضيئة، بترحيب تباينت مستوياته، تضمنت صفحاته كثيرا من ذات بارت، وبمثابة قبر صمَّمه لأجل أمه يحتمل أن يضمّهما معا .
لم تُتناول بعد جديا تصوراته بخصوص التصوير الفوتوغرافي، ووضع ذلك عموما ضمن إطاره النظري، مثلما لم نجرؤ على تناول مباشرة للتصور وفق تجليه الأكثر حميمة. مؤلمة اللامبالاة كجواب على عرض من هذا القبيل.تكبح عند كل كاتب الرغبة في العيش.رغم استمرار أغلبهم على قيد الحياة، فإنهم يعيشون تحت كنف صدمتهم تلك.
ماسبب موت رولان بارت؟ السؤال كما نرى،لازال مطروحا رغم تجلي بداهة التشخيص الإكلينيكي. لقد آثر جاك ديريدا التركيز على تعددية ”موت رولان بارت”: “تضمن الموت اسمه، بيد أنه تبعثر سريعا. كي يوحي من خلال ذلك على تركيب عجيب يجيب الكثيرين باسم واحد ”(18).
استطرد ديريدا في موضع آخر، حول هذا التعدد بتفصيل: “ميتات رولان بارت : إنها ميتات، تجلت في موت بعض ذويه، جعل الموت يسكنه، يحدِّد لديه أمكنة أو حالات جسيمة، قبورا اتخذت وجهة لها داخل فضائه الداخلي (حتما أمه في البداية والنهاية). أيضا ميتاته، وقد تمثَّلها بصيغة الجمع…، أحالت على انطلاقة فكر موصول بالموت. كاتب حيّ، دَبَّج بنفسه الإعلان عن موت رولان بارت. أخيرا أشارت ميتاته، إلى نصوصه حول الموت، جلّ ماكتبه بهذا الخصوص وفق إلحاح معين انصب إذا أردنا على انزياح تيمة الموت وتحوُّلها. هكذا تبلورت كليا حركة فعل معين حول الموت من الرواية إلى التصوير الفوتوغرافي، الدرجة الصفر في الكتابة (1953) ، غاية الغرفة المضيئة (1980) (19).
يكمن حتما عند البداية هذا الموت في خضم سيرورة الحياة ويجعل مسألة الانتماء إلى الراهن قضية عويصة. أو ضمن إطار فارق زماني، مثلما يوحي ديريدا، الذي يخبرنا بأنه تعرف خاصة على بارت، وجها لوجه، إبان سفر داخل القطار المتوجِّه إلى مدينة ليل Lille . ثم جنبا إلى جنب، قبل أن يفصل بينهما الممر داخل طائرة تقصد مدينة بالتيمور.
أيضا، أتاح هذا الانتماء اللامتجانس، إمكانية استعادة نفس المعطى مع بروست، حسب أسطورة بعض الصور الفوتوغرافية أو فقرات درسه الأخير: “لست معاصرا متخيِّلا لحضوري الذاتي: معاصرا للغاته، تطلعاته الطوباوية، أنساقه (بمعنى تخيلاته)، باختصار ماتعلق بأسطورته أو فلسفته، لكن ليس تاريخه، حيث لا أسكن سوى انعكاسه الراقص: استيهاميا”(20). يكتسح شيء من الموت حياته ويحفزه على الكتابة. هكذا، انطوت آخر لحظات درسه، عن شيء من احتضار العمل.
يوم 23 فبراير 1980، اقتنع بارت بأن يجعل خاتمة درسه غير متزامنة مع إصدار، فعلي لعمل واصل الاشتغال عليه صحبة طلبته: ”فيما يخصني، للأسف، لايتعلق الأمر بـ: إخراج عمل من تحت قبعتي، وحتما بكل بداهة ليست هذه بالرواية التي حاولت تحليل تحضيرها” (21). ثم اعترف فيما بعد، بين طيات ملاحظاته المكتوبة سنة 1979، بأنَّ رغبته نحو العالم تغيرت بعمق جراء وفاة أمه، ولم يعد متأكدا بجدوى مبادرته إلى الكتابة.
يروي لنا جورج ريلار بأنه اصطحب بارت خلال وقت سابق صوب وجهة البوليتيكنيك كي يقدم مداخلة في إطار درس يشرف عليه أنطوان كومبانيون. إبان سيرهما معا في شارع سيرفوندوني، وجه إلى بارت سؤالا نمطيا، مثلما يجري الأمر بين أستاذين:
”ما موضوع درسكَ خلال السنة المقبلة؟
- سأكشف عن صور لأمي ثم أتوارى”
سنة قبل ذلك يوم 15 يناير 1979، جاء عنوان عموده الصحفي في مجلة ”نوفيل أوبسرفاتور”،كما يلي”عاديا ومتفردا”:
“ارتطمت سيارة مجنونة بحائط، عند الطريق الشرقي: عادي (للحسرة). سواء عِلَّة الحادثة أو الركاب الخمسة، هم شباب، صاروا أمواتا أو تقريبا، يصعب التحقق من هويتهم : وضع فريد. يتعلق هذا التفرد بموت رائع، إن تجرأ قولي، بعد فشله مرتين الأمر الذي بوسعه تهدئة فظاعة أن تموت: معرفة من وبخصوص ماذا؟. يطوي كل شيء،ليس عدما، بل الأسوأ من ذلك: التفاهة. بالتالي، ندرك نوع الانسداد الشرس الذي يحيطه المجتمع بالموت: سجلات، وقائع، تاريخ، كل مابوسعه تسمية وشرح، وكذا الإمساك بالذكرى والدلالة.جحيم أكثر سخاء من جحيم دانتي، حيث يستدعى الأموات بأسمائهم وتأويلهم حسب ما اقترفوه من أخطاء”.
لايحتاج الموت قط إلى عمود صحفي بل يستدعي سردا
هكذا، تعتبر الموت بمثابة الحادثة الوحيدة التي تصمد أمام السيرة الذاتية. إنها تبرر فعل السيرة الذاتية مادام أنه حقا آخر من ينبغي له التكفل بها. إذا كان تعبير ”لقد ولدتُ”، ليس سيرة ذاتية سوى في مرتبة ثانية، لأن وجودنا يشهد على ذلك، وتتوفر أوراق هوية، ويروى لنا حدوث ذلك وكيفيته، لكنه مع ذلك بوسعنا القول”أنا ولدت”، “ولدت في”،”ولدت بين أحضان”،”ولدت من طرف”. لكن يستحيل قول”توفيت في”، ”توفيت من”، ”توفيت جراء”. يلزم أن يجيبه شخص ثان بدلا عنا.
عبارة ”قد ولدتُ” سيرة ذاتية فقط بطريقة منحرفة أو تشغل موقع الوساطة، بينما يعكس مضمون ”أنا ميت”، المدى المستحيل لكل تعبير لأنَّ الموت لايتم التعبير عنها بصيغة المتكلم المفرد.
كان بارت مفتونا نحو جل الخيالات التي بوسعها إحباط استحالة قول”أنا ميت”: من ثمة هوسه بحكاية إدغار بو،”حقيقة وضعية السيد فالديمار”،حيث تصدح أخيرا الشخصية المحورية بعبارة: ”لقد مت”: ”إيحاء كلمة (أنا مت) ذات ثراء لاينضب. بالتأكيد، يوجد العديد من السرديات الأسطورية حيث يتكلم الموت : لكن من أجل قول: ”أنا حي”.
تكمن هنا، ندرة فعلية للنحو السردي، كشفت عنه استحالة جملة: أنا ميت”(22).فيما يتعلق بحالة هذا الموت تحت التنويم،فالصوت الذي يتم الإصغاء إليه هو الصوت الباطني، العميق، صوت الآخر”(23). تتجلى هنا، بالتأكيد، معقولية (أو جنون) السيرة ذاتية، عبر رعاية من طرف الأخر، ضمير الغائب، سرد الموت.
هذا ما أثار أيضا اهتمام بارت نحو شاتوبريان تحديدا عمله”حياة رانسي”: أن يشتغل، الكاتب وشخصيته على ماوراء الحياة، الأول نظرا لإحساسه على امتداد شيخوخته الطويلة، بتخلي الحياة عنه؛ مقابل تخلى الثاني إراديا عن الحياة: “بوسع الذي تنازل إراديا عن العالم، الاندماج بليونة مع الذي تخلى عنه العالم: الحلم الذي بدونه تستحيل الكتابة، يلغي كل تمييز بين الأصوات الفعالة والمنفعلة : يجسِّد المتخلِّي وكذا المتخلى عنه نفس الشخص، ربما شاتوبريان هو ذاته شخصية رانسي(24).
حالة الموت هذه دون عدم، لانمتلك خلالها سوى الزمن، تبلورت باكرا ، من خلال اتجاهين اختبرهما بارت شابا جدا: يقدِّم الضجر والذكرى إلى الوجود نسقا كاملا من التمثلات. تحمي معاناة الموت التي تصارعها الكتابة بلا كلل. هكذا، جاء عنوان شذرة إحدى يومياته في مقاطعة أورت (URT) سنة 1977، كالتالي: “لايموت المُتَخَيَّل قط”.
يحضر الأدب هنا كي يحمينا من الموت الفعلي: ”داخل كل شخص (أو شخصية) تاريخي (عاش فعليا)، فلا أتبيَّن على الفور سوى هذا الأمر: إنه ميت،لامسه الموت فعليا، بدت لي دائما قسوة وضع من هذا القبيل (شعور خافت يصعب الإفصاح عنه، اضطراب أمام الموت). على العكس، استهلكت دائما بنشوة شخصا خياليا، تحديدا لأنه لم يحيا فعليا ذلك الوضع، بالتالي يستحيل بالنسبة إليه الموت فعليا. لايلزم خاصة القول بأنه أبدي، مادامت الأبدية تظل سجينة النموذج، بل يشكِّل نقيضا للموت، لايهزم دلالتها، تمزقها؛ يستحسن القول: لم تلامسه الموت”(25).
أحيانا، يحدث التمزق، مع الأدب. إنها لحظات يتيح خلالها موت شخص التعبير عن الحب الأكثر توقدا الذي يمكنه الجمع بين شخصين : موت الأمير بولكونسكي حينما تكلم مع ابنته ماري في رواية ”الحرب والسلم”؛ موت الجدَّة بالنسبة إلى السارد في رواية”البحث عن الزمن الضائع”: “فجأة يتزامن الأدب مطلقا (لأن الأمر يتعلق به) مع استئصال عاطفي، “صرخة”(26). يجعل من الرثاء، الذي يُشجب غالبا، قوة قراءة، يخبرنا عن الحقيقة التي يواسيها عارية.
يقود الموت وجهة الكتابة ويبرر سرد الحياة. يبدأ الماضي ثم يبدأ ثانية، يستدعي أشكالا وبيانات جديدة. لذلك، حينما يموت شخص، نشرع في الحكي عن حياته. الموت تلخيص إجمالي وشامل. لهذا السبب بدأت الحياة عبر سردها. إذا انفصلت الموت عن الحياة، وتعارضها حتما،فإنها تتماثل معها في نفس الوقت باعتبارها سردا. يعكس الاثنان ماتبقى عن أحدهما،هذا الباقي إضافة وغير قابل قط للتعويض في نفس الوقت: “جل الذين عشقوا الموت،يصمدون أمام الجرح المفتوح من خلال اختفائه، بالمحافظة عليه قائما وحيّا. تأخذ الذكرى إذن مكان زمن حاضر كليا؛ يمتزج الماضي المنفصل والمستقبل المستحيل في إطار زخم استمرارية حيث أنا، التي تتذكر،تتبلور داخل وعبر تكاليف المفقود” (27) .
هذه الكلمات لجوليا كريستيفا، التي ارتبط أيضا،سياق استلهامها بفترة تأبين رولان بارت،تخبرنا بمدى عدم ملاءمة سرد الحياة: لايمثل واجبا للذاكرة بل عائقا أمام البقاء نفسه. يشغل حيز المكان الذي أبقاه الاختفاء شاغرا. تبعا لمستويات عدة، فإن وضع حد أمام كل سيرة ذاتية يجد نفسه مرة أخرى قد طورته كتابات رولان بارت. لقد كبح مسعى السيرة الذاتية لأسباب تبناها شخصيا، ثم أخرى متوقفة بالتأكيد عليه، لكنها فرضت مقتضياتها تقريبا بالرغم منه. لايندرج موت كاتب معين ضمن حياته.
نموت جراء امتلاكنا لجسد في حين نكتب قصد تعليق الجسد والتخلص من ضغطه، وتخفيض منسوب الانزعاج الناجم عنه. أشار ميشيل شنايدر في كتابه ”أموات متخيَّلون” :”يلزم إذن قراءة الكتب التي خلَّفها الكتّاب : هنا يحكى عن موتهم . الكاتب شخص ينساب موته طيلة حياته،وفق جمل طويلة وكلمات صغيرة”(28) . ليس حقا موت كاتب، بتتمة منطقية لوجوده. لاينبغي خلطه بـ ”موت المؤلِّف”.يمنح موت الكاتب إمكانية لحياة الكاتب وكذا اختبار علامات الموت التي يرتِّبها عمله.
لاتستقيم في هذا السياق الإحالة على الموت/ النوم ” يتجنب خلاله الثابت كل تحوّل”، أو الموت/ الشمس،الذي تكمن خاصيته الموحية في: ”إبراز معنى الوجود”،حسب التمييز الذي انطوى عليه كتاب” ميشليه”(29). بل يكمن الموت عند منطلق كل دخول جديد.
هوامش:
مرجع المقالة:
Tiphaine Samoyault :Roland Barthes ;édition du seuil 2015.pp :13-30.
(1)”نخفق باستمرار في الحديث عن مانحبه”، مجلة”تيل كيل”،خريف 1980
(2) حسب سوليرز، تجنب فرانسوا وول وكذا باقي الناشرين الآخرين المسؤولين عن دار النشر”سوي”، قول الحقيقة بخصوص حالة رولان بارت،تفاديا لإمكانيات نسج خيوط علاقة طرحها فعلا اهتمام الصحفيين، بين وجبة الغذاء بدعوة من ميتران ثم حادثة السير.تأويل بوسعه تلويث الحملة الانتخابية الرئاسية المقبلة.(حوار مع فيليب سوليرز يوم3 شتنبر 2013) .
(3) فيليب سوليرز، النساء، غاليمار 1983،ص133
(4) نفسه ص.126
5)) إيريك مارتي : رولان بارت، مهنة الكاتب. منشورات سوي. 2006،ص.102
(6)ماثيو ليندون :ماذا تعني أن تحب،2011 ،ص 242 .
(7)جوليا كريستيفا : الساموراي، غاليمار ،1990 ،ص405 . من المثير جدا أن نقرأ اليوم توازي تقاطع السرد بين موت رولان بارت بين روايتي سوليرز وكذا كريستيفا. الأسماء المستعارة غير متشابهة، لكن ”ويرث”(Werth) وبريهال (Bréhal) ،صورتان مثيرتان عن نفس الشخص، ثمرة للود وكذا طبيعة شخصيتي الكاتبين صاحبي المقطعين.أكثر عمومية فيما يتعلق بفيليب سوليرز، وأكثر هشاشة وجاذبية بالنسبة لكريستيفا.
(8)دينيس روش : ”رسالة إلى رولان بارت بخصوص تلاشي الفراشات” ،1982 ،ص 157 .
(9)دومينيك نوغيز : ”رولان بارت في مدينة بولونيا شهر يناير 1980″(فقرات من اليوميات).لم تنشر سابقا. ودِّيا، أطلعني عليها الكاتب.
(10)”نفشل باستمرار في الحديث عن مانحبه” ص 91
(11)دينيس روش :تلاشي الفراشات ،ص 164
(12) إيطالو كالفينو :”إلى ذكرى رولان بارت”،الآلة الأدبية ،سوي ،1984، ص.245
(13) مدير مجلات البحث والتاريخ. مستعرب اعتنق الإسلام،أستاذ مدرسة الدراسات العليا،حيث درس التصوف الإسلامي، يشرف داخل دار النشر سوي على سلسلة”عالم صغير”. اشتهر بكونه قارئا ملحاحا إلى أبعد حد وصاحب مشروع حيوي.
(14) إيريك مارتي : رولان بارت، مهنة الكتابة، ص 105 .
(15) سوزان سونتاغ،”أذكر رولان بارت”،مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس،15 ماي 1980، ترجمة روبير لوي.1985
(16) رولان بارت : المجلة الفرنسية الجديدة،العدد 329 يونيو 1980،ص 103 105 .
(17)ميشيل أنطوان بورنيي و باتريك رامبو : رولان بارت دون صعوبة، بالان،1978 .
(18)جاك ديريدا : ”ميتات رولان بارت”، مجلة الشعرية، العدد 47 ،شتنبر 1981
(19) نفسه ص 290- 291
(20) الأعمال الكاملة ص 638
(21) إعداد الرواية،ص 377
(22) ”التحليل النصي لقصة إدغار بو”،في السيميوطيقا السردية والنصية. لاروس 1973
(23) يستحضر بارت في مداخلة له في مدينة ستراسبورغ سنة 1972،ضمن اشتغالات فريق الأبحاث حول نظريات العلامة وكذا نص فيليب لاكو-لابارت وجاك لوك نانسي : وُضِع أيضا كابوس الموت الذي يتكلم في علاقة مع اللوحات الفنية لبيرنار ريكيشو، وكذا لذة النص.
(24) شاتوبريان : حياة رانسي، تقديم1965 .
(25) ذخيرة رولان بارت،”تداول” جريدة أورت،13 يوليوز1977
(26) “منذ وقت طويل، ذهبت إلى السرير في ساعة مبكرة” محاضرة في كوليج دو فرانس ، 19 أكتوبر 1978،ص 468
(27)جوليا كريستيفا : “صوت بارت”مجلة تواصل العدد 36 ،1982،ص 119-123
(28) ميشيل شنايدر : أموات متخيَّلون، غراسي،2003،ص 17