آفاق الربيع العربي وتراجع الثورة المضادة

آفاق الربيع العربي وتراجع الثورة المضادة
د. هشام العلوي
 
   كنت سأشارك في ندوة من تنظيم مجلة “لوموند ديبلوماتيك” يوم السبت 21 يناير 2023 في تونس، غير أن سلطات هذا البلد منعتني من الدخول، وألقيت مداخلتي عن بعد.
لقد كانت ندوة رفيعة المستوى ومداخلات قيمة للمشاركين.
أنتهز الفرصة وأشكر الأشقاء التونسيين من مثقفين وهيئات ونشطاء حقوقيين وسياسيين
وإعلاميين الذين تضامنوا معي.
هذا نص مداخلتي:
 
   كنت أرغب أن أكون من ضمن الحاضرين للمشاركة في هذه الندوة القيمة حول راهنية الربيع العربي وآفاقه، غير أن الظروف القاهرة التي تعرفونها حالت دون حضوري، ولهذا أشارك عن بعد .
عموما، هذه مناسبة خاصة بالنسبة لي لسببين، وهما: بادئ ذي بدء، لدي الكثير من الحب والتعلق العميق بتونس كثقافة وحضارة، لقد زرت هذا البلد منذ أن كنت طفلاً. وقد تعرف والدي الأمير مولاي عبد الله رحمه الله على المرحوم الرئيس حبيب بورقيبة جيدًا، واعتبره بمثابة الأب في الواقع، ومن خلال دراستي، فقد أعجبت بدوري ببعض الجوانب التنويرية من تفكيره وقراراته.
   كان بورقيبة هادئ الكلام، لكنه كان عميقًا في حد ذاته. لم يكن ديمقراطيًا ليبراليًا، لكنه كان صاحب شخصية تصالحية. لقد جعل من تونس دولة رائدة في العالم العربي من نواحٍ عديدة، مثل الحقوق الكبيرة التي حصلت عليها المرأة ثم الهوية المدنية التي شكلت متنفسا للتونسيين. لم يجعل من تونس دولة ديمقراطية، بل دولة تعمل بشكل جيد وخالية نسبيًا من المحسوبية، هذا الداء الذي شوه الكثير من الدول العربية الأخرى. ربما لم تكن العدالة مثالية في عهد بورقيبة، غير أنه ساد نوع من الشعور الملموس بالمساواة.
   خلال الربيع العربي، كانت الدولة التونسية التي بنيت من خلال هذه المميزات مثالا على انتقال ديمقراطي سلمي في منطقتنا. لقد شهدت تونس ثورة لكنها أدت إلى نتيجة مهمة عنوانها التحول. لم يتم تسجيل انتقام إبان ثورة الياسمين، بل كان هناك تطلع عميق لمزيد من الحرية والكرامة. وبصفتي من دعاة الديمقراطية، اعتبرت هذا الحدث الكبير بمثابة إيقاظ حاسم للمنطقة برمتها. وبالتالي، درست هذا التقدم الديمقراطي بشغف فكري عميق. خلال تلك الفترة الدراسية، طورت علاقات مثمرة مع العديد من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الذين قادوا هذه الانتفاضة في تونس، وما زلت ممتنًا لهم إلى يومنا هذا. إنه لشرف كبير أن نحافظ على هذه العلاقات اليوم.
   ثانيًا، هذه المناسبة خاصة بالنسبة لي بسبب التعلق الشديد بلوموند ديبلوماتيك. إنها صحيفة ذات شهرة عالمية تجسد المعنى الحقيقي للصحافة الجادة والتحليلية. في الوقت ذاته، فإنها تتميز أيضًا بالفهم العميق والتعاطف مع الفئات الفقيرة والضعيفة. إنها تعطي صوتًا لمن لا صوت لهم. وبقدر ما قد يبدو الأمر غريبًا ومفارقة، فغالبًا ما وجدت نفسي مع هذه الفئة الأخيرة. على مدى ثلاثة عقود، منحتني لوموند ديبلوماتيك الفرصة للمشاركة في المناقشات وعرض أفكاري بطرق كانت مستحيلة في منابر أخرى، نظرًا لظروفي الاستثنائية نظرا لانتمائي الى المؤسسة الملكية المغربية. ولكل هذه الأسباب، طالما اعتبرت نفسي جزءا من مجتمع لوموند ديبلوماتيك. وبما أننا الآن في ضيافة النسخة العربية الموقرة، آمل أن تنضموا أيضًا إلى مجتمعنا.
   والآن، أريد أن أتطرق بشكل أوسع إلى فكرة ناقشتها في مقالتي الأخيرة في Le Monde Diplomatique، وهي الثورة المضادة. أريد أن أضع هذا الموضوع في سياق دولي أوسع، ثم أركز على الوضع في تونس.
فلنسأل أنفسنا أولا: ماذا يعني مصطلح «الثورة المضادة»، على خلفية التاريخ ومميزات منطقتنا؟ أعتقد أنني كنت من أوائل من استخدموا هذا المصطلح في سياق الربيع العربي، لكن الأمر يستحق تقييم ما يعنيه هذا المصطلح المعقد. ويشير التعريف الخالص لمصطلح «الثورة المضادة» إلى نوع محدد جدا من القوة السياسية. على وجه التحديد، يشير إلى أولئك الذين يسعون إلى اتجاه معاكس للثورة التي تسعى إلى تغيير الهياكل الاقتصادية والسياسية القديمة. “معارضو الثورة” هم أولئك الذين يرفضون هذه الثورة، وفي المقابل، يرغبون في الحفاظ على نظام الامتيازات واستمرارية السلطة القديمة. إنه الأمر يشبه الفيزياء إلى حد ما، حيث يتبع كل فعل رد فعل معاكس.
   يمثل الربيع العربي تحولًا ثوريًا. في هذا السياق، انبثقت الثورة المضادة من نخب النظام القديم وغيرها من بقايا النظام الاستبدادي الذي هيمن لأجيال. خلقت “الثورة المضادة” قوى سياسية عارضت الفوضى وعمدت الى تعطيل الانتفاضات، وكانت محافظة بشكل غير معلن وليست محافظة بشكل صاخب. في البداية، يمكن تصنيف هذه القوى بسهولة ضمن ما يعرف بإسم «حزب النظام»، وهو مصطلح استخدمته في كتاباتي، كما أنه مأخوذ من الربيع الأوروبي في منتصف القرن التاسع عشر. لقد استفادت هذه القوى من الإرهاق العام ومن الاضطرابات السياسية والاضطرابات الاقتصادية، وأعطت وعودا باستعادة الشعور بالحياة الطبيعية.
   انضاف دافع آخر للثورة المضادة متأخرًا، منذ نهاية عام 2012 واستمر طوال عام 2013. كان هذا عنصرا خارجيا. أعني بالخارجي أنه لم يكن هناك الكثير من العوامل الغربية، ولكن هناك ميزة إقليمية للمقاومة المضادة للثورة للربيع العربي. أدرك الأوروبيون ، وخاصة الفرنسيون، أنه لم يعد هناك “استثناء عربي”، أو فكرة أن المجتمعات العربية غير راغبة في اعتناق الديمقراطية. أظهرت الانتفاضات أن ضغوط المواطنين العرب من أجل التغيير كانت هائلة. يجب ألا ننسى زلات الحكومة الفرنسية في المراحل الأولى من الاحتجاجات هنا في تونس. فقد عرضت وزيرة الخارجية الفرنسية، ميشيل أليوت ماري، مشاركة خبرات وموارد قوات الأمن الفرنسية مع الحكومة التونسية، من أجل المساعدة في قمع الاحتجاجات واستعادة النظام.
   لكن سرعان ما أدرك الغرب أن الانتفاضات العربية لم تكن حلقات احتجاج معزولة. وبدلا من ذلك، فقد شكلت موجة تاريخية من التعبئة الشعبية التي جسدت قطيعة ثورية ضد الأنظمة الاستبدادية. أدركت الحكومات الغربية أنها لا يمكن أن تكون في       الجانب الخاسر من التاريخ، مثلما كانت عليه خلال الثورة الإيرانية قبل 30 عامًا.
   يمكننا أن نلمس إدراك الغرب بهذا التطور من خلال التغيير الذي طرأ على السياسة الأمريكية تجاه مصر خلال عام 2011-2012 . في البدء، سعت الولايات المتحدة للعب مع كلا الطرفين. أقرت إدارة أوباما بأن الاحتجاجات الثورية بها مظالم ومطالب حقيقية، لكنها حافظت أيضًا على علاقات وثيقة مع الرئيس حسني مبارك. وتدريجيا، تغير موقف الولايات المتحدة بعدما أرهقت الاحتجاجات البلاد، وواجه مبارك ضغوطًا هائلة للتنحي عن السلطة. وسحبت الولايات المتحدة الدعم عن مبارك، وأعلنت تأييدها لانتقال سلمي ومستقر.
   ومع ذلك، استمرت المقاومة الغربية للتغيير السياسي في العالم العربي في الظهور. لم يتعلق الأمر بمعارضة التحولات من الاستبداد في حد ذاتها، بل كان خوفًا أكثر تحديدًا من وصول الحكومات الإسلامية إلى السلطة من خلال الانتخابات. كان هذا نوع نسخة جديدة من الإسلاموفوبيا ببصمات الاستشراق. كانت الحكومات الأوروبية، مثل فرنسا ، تخشى بشدة من تداعيات حكم الدول العربية من قبل أنظمة دينية يقودها الإسلاميون. فهي لديها جاليات إسلامية كبيرة تمثل تحديًا لهويتها وثقافتها الوطنية. وغذّى الاستشراق هذه الأطروحة القائلة بأن مثل هؤلاء الناس -المسلمون- غير مهيئين للديمقراطية. إلى حد ما، كان هناك تحول: في حين كان من المفترض في الماضي أن يكون العرب من أنصار الاستبداد، إلا أنهم يفضلون الآن الديمقراطية، غير أنهم ما زالوا يفتقرون إلى الوسائل الاجتماعية والثقافية لبناء الديمقراطية عمليا.
   كان للدافع الإقليمي للثورة المضادة معاني مختلفة وتم احتضانه والترويج له من قبل جهات فاعلة مختلفة في العالم العربي. لم تكن الثورة المضادة حركة موحدة بقدر ما كانت تقاربًا للمصالح السياسية. في الخليج مثلا، كشفت الحملة المضادة للثورة خوفًا عميقًا من الديمقراطية الليبرالية والمشاركة الشعبية. حاولت معظم دول الخليج مواجهة أي اضطرابات داخلية بالرهان على مزيد من إنفاق مواردها المالية الكبيرة لاسترضاء الرأي العام. وما أطلق عليه اسم “المحور المضاد للثورة”، ونتحدث هنا عن الرياض وأبو ظبي ،فقد أنفق هذا المحور بسخاء وكلفة كبرى الكثير من الموارد المالية للتدخل في دول عربية أخرى. لقد أقدم هذا المحور على هذا العمل اعتقادا منه بأن الربيع العربي يهدد مصالح هذه الأنظمة واستقرارها.
وهكذا، تبلورت طبوغرافية سياسية إقليمية جديدة، تتمظهر في ثلاثة أنماط. أولاً، سعت الحملة المعادية للربيع العربي إلى فصل فلسطين عن السياسة الإقليمية، وبالتالي التمهيد لما سيصبح لاحقا بالتطبيع مع إسرائيل الذي تجسده اليوم اتفاقيات أبراهام. وأقدمت على ذلك، وعيا منها بأن قضية فلسطين، مثلها مثل القضايا الجماهيرية الأخرى، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالإحساس الجماعي بالعدالة الذي يشعر به الجمهور العربي.
   ثانيًا، ربطت الثورة المضادة الإسلام السني، الذي جسدته جماعة الإخوان المسلمين، بالتهديد الوهمي المتمثل في التوسع الشيعي. لذلك أدخلت عنصراً طائفيًا في الخطاب الإقليمي. وأخيرًا، نشرت الموجة المضادة للثورة أشكالًا جديدة من المراقبة العابرة للحدود الوطنية بالتجسس الرقمي في جميع أنحاء المنطقة، في محاولة لترهيب وإسكات جميع أشكال المعارضة.
   في مصر، نفّذت المؤسسة العسكرية الثورة المضادة ضد التحول الديمقراطي. لقد أظهر الجيش خوفًا عميقًا من فقدان ما نسميه الدولة البريتورية، والخوف من التضحية بالمصالح العسكرية التي حكمت البلاد لفترة طويلة من أجل الحرية الديمقراطية. لذلك كان الرد المفضل هو عملية قسرية للغاية، وكما رأينا في يوليو 2013، وضع الجيش حدا للانتقال الديمقراطي وقمع الاحتجاجات واستعاد السلطة بالقوة.
   في منطقتنا المغاربية، كان مسار الثورة المضادة للربيع العربي مختلفا. في الجزائر ، لم تكن هناك ثورة مضادة لأنه لم يكن هناك تحول نحو الديمقراطية، على الأقل حتى الآن. كان التفكير السائد هو أن الحرب الأهلية في التسعينيات كانت مؤلمة لدرجة أنها خنقت كل مظاهر الحياة السياسية. وبقيت ذكرى ذلك الصراع الأليم تطارد الجزائر. كما دعمت عائدات ريع النفط والغاز مؤسسات السلطة التي هيمنت على المجتمع الجزائري. لقد بدأنا الآن فقط، نلمس ونرى بصيص التغيير. أعاد النظام العسكري صياغة نفسه خلف واجهة مدنية كرد فعل على التعبئة الشعبية، وقاوم الدعوات للإصلاح الديمقراطي.
   في المغرب، الوضع مختلف. فقد سعت النخبة القديمة والمخزن إلى الحفاظ على نظام السلطة القديم. إنهم سعوا إلى توجيه التطورات السياسية إلى الحدوث من خلال الدورات، بحيث لا تتطور النضالات السياسية من خلال تغيير مفاجئ مثل الصفائح التكتونية بل من خلال تقلبات آلة الرقاص (البندول) التي تشمل الدولة والمجتمع. لذلك، كان الرد المغربي المضاد للتغيير هو إعادة ضبط النظام بإصلاحات محدودة وسيطرة مشددة. يمكننا تسمية هذه الاستراتيجية بأنها استراتيجية الامتصاص والتوجيه بمفهوم التحريف من أجل استمرار التحكم.
   وشهد المغرب هذه الاستراتيجية منذ الاستقلال، في أواخر الخمسينات، من القرن الماضي ، مر الملك محمد الخامس بلحظة مضادة ة للثورة عندما أنهى تقاسم السلطة مع الحركة الوطنية، وبالخصوص مع حكومة عبد الله إبراهيم. جاءت لحظة الملك الحسن الثاني عندما قام باستيعاب تجربة التناوب السياسي بقيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في التسعينيات. والحلقة الثالثة من الثورة المضادة مع الملك محمد السادس تتجلى في احتواء حزب العدالة والتنمية الإسلامي. لا يوجد عنف في هذه التحركات، لأن عملية التحييد هي جزء من مجموعة الأدوات المتاحة في إطار السيرورة الملكية. كل هذه الحلقات تنتهي بإرهاق الخصم واستنفاذ قواه. ومع ذلك، لكي نكون واضحين، فإن جميع الأطراف تتشارك المسؤولية عن هذه النتيجة، وهي في النهاية بمثابة شأن عائلي داخلي.
   أخيرًا، رأينا الثورة المضادة تظهر هنا في تونس، في صيغة شعبوية أدت إلى تراجع الديمقراطية. هذا يمثل تحديًا خطيرًا، سواء من حيث نوعية التهديد الشعبوي أو صحة ومسار الديمقراطية التونسية. كان هذا هو البلد الوحيد في العالم العربي الذي شهد انفراجا ديمقراطيا خلال الربيع العربي. غير أنه بدأ يسجل تراجعا بسبب الاستياء الشعبي من ممارسات غير مناسبة للحكومات المنتخبة المتعاقبة على مدى العقد الماضي، وهو استياء بلغ ذروته الآن بصعود الحكومة الحالية. أعطت هذه الإحباطات تفويضًا مفتوحًا للشخصيات السياسية التي تتبنى الشعبوية.
   خطر الشعبوية التي تواجه تونس والدول الأخرى اليوم مختلفا. الشعبوية هي أيديولوجية تمجد نوعًا معينًا من السلطة. إنها عمودية البناء متجسدة في شخصية معينة، فهي تتمحور حول القادة الكاريزماتيين الذين يدعون أنهم يجسدون إرادة الجماهير. شعبوية تركز على النخبة وتغازل المجتمع بوعود استعادة أمجاد الماضي.
   الأهم من هذا كله، أن الشعبوية ترفض الديمقراطية التمثيلية وتسعى إلى استبدالها بنظام عمودي للتشاور. إنها تستغل آليات الديمقراطية، مثل الحملات الانتخابية والانتخابات، وبمجرد الوصول الى السلطة، يرفض الشعبويون الخضوع للمساءلة. وهم ينكرون بهذا تمتع أي مؤسسة أخرى سواء تشريعية أو قضائية بصلاحية محاسبتهم سياسيا. وفي الوقت ذاته، يؤمنون أنهم إذا خسروا الانتخابات، فإن السبب في هزيمتهم هو المؤامرات الأجنبية أو المؤامرات المحلية. تعتمد الشعبوية في جوهرها على استراتيجية التفرقة بمعنى إحداث الانقسام، ثم التشهير. يدعي الشعبويون الفضيلة من جهة، بينما يشوهون صورة منافسيهم من جهة أخرى، ويجبرون المواطنين على اختيار معسكر وينكرون أي إمكانية للتوافق. نظرا لمجمل هذه الأسباب، ما كان من الممكن أن تنتعش الشعبوية إلا في تونس فقط. إذ لا يمكن للقادة في أي دولة أخرى من العالم العربي أن يكونوا شعبويين، لأنهم أنفسهم جزء من طبقة النخب. هذا النوع من السلطوية لا يعتبر رجوعا إلى الوراء بقدر ما أنه يمضي قدما في استبداد بحلة جديدة. توجد الكثير من الأمثلة لم يحدث فيها ظهور الشعبوية إلا بعد أن تجاوز بلد عتبة الديمقراطية الانتخابية، مثل المجر والفلبين والبرازيل.
   في جميع أنحاء عالمنا العربي، ترتب عن مختلف صيغ الثورة المضادة فترة فاصلة مثل استراحة بعد الربيع العربي. قد تكون فترة مستقرة، لكنها ليست مستمرة بالضرورة. قد يفسح هذا الفاصل الاستبدادي المجال لمرحلة أخرى من التعبئة الشعبية، لأن المشاكل القديمة التي تتجلى في الحرمان السياسي والاقتصادي لا تزال قائمة وتتراكم. بينما تستمر الحكومات بدون إجابات لتلبية هذه المطالب.
   وعليه، فإن عملية تجديد المطالب الديمقراطية في العالم العربي ستواجه تحدياتها الخاصة للتغلب عليها. واليوم، هذه التحديات تبقى منفصلة عن تجربتنا مع المقاومة الثورية المضادة، إذ لا يمكن معالجتها بمعزل عن السياق العالمي. أولاً، لم يعد بإمكان المجتمعات العربية النظر إلى الغرب كنموذج للتنمية السياسية، وذلك بسبب الصعود القبيح للشعبوية. أنا لا أقول بهذا انطلاقا من مركزية المنظور الغربي. بدلاً من ذلك، هذه هي الطريقة التي يعمل وفقها الانتشار العالمي. تاريخيا، انتقلت الممارسات والقيم الديمقراطية من الديمقراطيات إلى الدول غير الديمقراطية. وعلى سبيل المثال، انتقلت الممارسات الديمقراطية مثل إجراء الانتخابات وإنشاء الأحزاب السياسية من الغرب الى دول مثل إسبانيا والبرتغال واليونان، ومن هذه المنطقة الى أمريكا اللاتينية. وفي مثال آخر بارز، مباشرة بعد نهاية الحرب الباردة، انتقلت هذه الممارسات الديمقراطية إلى دول أوروبا الشرقية.
   وتشهد عدد من مناطق العالم المعركة بين الديمقراطية والشعبوية وعلى رأسها الصين. إذ تحولت الدولة الصينية الى نموذج للأنظمة الشمولية الجديدة، فقد جمعت على مدار العقود الأخيرة بين السيطرة السياسية المطلقة والوعود الاقتصادية بشأن النمو الرأسمالي. وغالبًا ما يشير القادة الشعبويون من جميع أنحاء العالم إلى مثال الصين الاستبدادي وغير الشعبوي كنموذج بديل للغرب. إنهم يعتقدون أن بإمكانهم إعادة إنتاج النموذج الصيني في السيطرة والنجاح الاقتصادي.
غير أن الصين تعثرت خلال السنوات الأخيرة. فقد أدارت بطريقة غير موفقة كوفيد 19 وكذلك التعامل مع أشكال المعارضة السياسية، علاوة على الانكماش الاقتصادي، كلها عوامل أساءت إلى صورتها. إن سوء إدارة جائحة كورونا فيروس ليس عرضيا، فهو يعكس في العمق غياب أو الافتقار إلى الشفافية والمساءلة، وهي من ميزات النظام الاستبدادي الصيني.
سيكشف لنا العقد القادم ما إذا كان ما يسمى بالنموذج الصيني سينجح أم لا، ولكنه وقع حادث دال للغاية مؤخرا. لقد استحوذ الرئيس الصيني ، شي جين بينغ على سلط واسعة وأصبح يتمتع بقوة كبيرة، مما أدى إلى تعطيل التوازن الداخلي الذي لطالما ميز عمل الحزب الشيوعي الصيني سنوات طويلة. هذا وحده يكشف حدود النموذج الصيني، وقد نرى فيه لاحقا على أنه كان أشبه بفترة “بريجنيف” على الطريقة الصينية.
   والمعركة الثانية هي أوكرانيا، التي كشفت محدودية القوة الروسية. يعكس كل من قرار غزو أوكرانيا وسلوك القوات الروسية في البلاد حكومة قائمة على الشخص. على الرغم من أن الرئيس فلاديمير بوتين لا يعد سياسيا شعبويًا، إلا أنه يمثل أيضًا نموذجًا للسياسيين الشعبويين لبعض الأسباب. بصفته زعيم دولة قوية، فهو يرفض القيم الغربية. لقد أفرغ النظام الديمقراطية الروسية، واستبدلها بنظام استبدادي. لقد دمّر المعارضة الداخلية واضطهد المنشقين، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في الخارج. هذه الدولة الاستبدادية لا تستحضر فقط مجد ماضيها القيصري، ولكن أيضًا رمزية المسيحية في عدائها لغرب يعتبره في انحطاط.
   مع ذلك، كشفت الإخفاقات الروسية في أوكرانيا عن نقاط ضعف هذا النمط من الحكم. يبرز محدودية القوة الروسية أكثر بكثير مما كان يتصور، خاصة وأن جيشها اضطر إلى التعبئة بطريقة غير مسبوقة لمجرد الحفاظ على مكاسب صغيرة. مثل الصين، خفّ بريق روسيا. وهذا له تداعيات عالمية بالنظر إلى أن روسيا كانت تسعى للنجاح من خلال انتهاك القانون الدولي ولعب دور ما يسمى “الاستثناء”. تشير الأحداث الجارية إلى عدم وجود استثناء روسي من هذا القبيل.
   ومع ذلك، فإن أكبر معركة لتحديد صحة الديمقراطية العالمية تخوض اليوم في الولايات المتحدة. هنا، نشأ الخطر الشعبوي صراحة. يمكننا أن نرجع أصوله إلى حرب العراق عام 2003، التي خلقت إحساسًا بخيبة الأمل من وعد الديمقراطية. أعظم قوة في العالم لم تفشل فقط في إحلال السلام والاستقرار في العراق، ولكن الحرب كلفت تريليونات الدولارات وأودت بحياة عدد لا يحصى من الأرواح. ثم كشفت الأزمة الاقتصادية العالمية التي اندلعت عام 2008 عن تفاوتات عميقة. وتطلب التعافي من تلك الأزمة تحويل العبء المالي إلى عاتق المواطنين والعمال العاديين ، وهذا خلق شعور بالغربة والإحباط.
   وشكلت شبكات التواصل الاجتماعي أيضًا قوة محركة للشعبوية في الولايات المتحدة. لقد جرى تقديم هذه الشبكات في السنوات الأولى على أنها تجربة رائعة لدعم حرية التعبير والإبداع. لكنه بمرور الوقت، تحولت إلى أدوات أكثر قتامة. وبينما مكّنت الحكومات في منطقتنا من ممارسة مراقبة لصيقة للمجتمع، فقد ولّدت في الغرب مشاكل أسوأ. لقد أعطت صوتًا للكراهية غير المنضبطة، وساهمت في تفاقم الانقسامات الثقافية في المجتمع الأمريكي، وتضخيم الاستقطاب الأيديولوجي. لقد أنشأت ما يسمى “غرف الصدى” حيث يتواصل الناس فقط مع الآخرين الذين يشاركونهم أفكارهم، مما يزيد من نشر المعلومات المضللة.
   
قد تكون صورة ‏‏‏٩‏ أشخاص‏ و‏أشخاص يقفون‏‏
 
 في هذا السياق، تملأ الشعبوية الفراغ. يتعلق الأمر بأحد أقدم أنواع النداءات السياسية التي يوجهها الحكام للجماهير. في الواقع، لقد انتبه السياسي الروماني الكلاسيكي شيشرون لهذا الانحراف في نقده لقيصر روما. وما يميز الوقت الراهن ويجعله استثنائيا هو أنه الآن يجري دمج الإديولوجية الشعبوية مع التضليل الإعلامي في شبكات التواصل الاجتماعي، مما ترتب عنه منصة مضرة للديمقراطية. ويستفيد اليمين أساسا من هذه المنصات، الذي عكس الشعبوية اليسارية، يزدهر عندما يتاجر في    النزعة القومية ويدعي امتلاك الحقيقة، ويتحول الأجانب والمهاجرون الى أعداء.
   ليس من قبيل الصدفة أن الطريقة الأكثر فعالية التي استخدمها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للتواصل مع أتباعه كانت تويتر. إذ أصبح تويتر والشبكات الاجتماعية الأخرى أدوات رئيسية في عملية الترويج للخطاب والأيديولوجية الشعبوية. وطالما لن تمنح شبكات التواصل الاجتماعي الأولوية للمضمون على حساب نموذج الأعمال التجارية التي تحتمي وراء حرية التعبير ، ستزداد المشكلة سوءًا. مع استمرار الجدل حول هذه النماذج في الولايات المتحدة، يتركز الخلاف الرئيسي حول ما إذا كان يجب التعامل مع المعلومات الموجودة على وسائل التواصل الاجتماعي بنوع من التدقيق أو ما إذا كان يجب أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي غير منظمة وغير مقيدة تمامًا باسم حرية التعبير.
   تاريخيا، الشعبوية تأخذ مسارها. وفي نهاية المطاف، ينتهي بنا الأمر بوجود شعبويين بدون شعب. وهنا يكمن الخطر. إذا حاول الحكام المستبدون الاستمرار في السلطة على الرغم من فقدان الدعم الشعبي، فإنهم يصبحون سلاطين. ومع تراجع الدعم، يحبس القادة أنفسهم في فقاعاتهم الشخصية ويلجأون إلى القمع العنيف للسيطرة على المجتمع. ومع ذلك، فإن الاستراتيجية الرابحة للقفز على هذه المشاكل اليوم هي عدم الانخراط في نقاشات مجانية لا فائدة وراءها حول الصالح المتأصل للديمقراطية. إن القيام بذلك، يجعل عمليا التشكيك في قيمة السياسة الديمقراطية قائما. بدلاً من ذلك، يعني استحضار الأفكار واللغة التي يمكن أن تتجاوز الانقسامات الأيديولوجية: أن تكون عمليًة واستراتيجية. ومن الأمثلة على ذلك الانتخابات. إن توفير معلومات موثوقة، في الوقت الحقيقي، عن قضايا مثل التسجيل والمشاركة والشفافية يمكن أن يؤثر على الناس وله تأثير كبير على التصور الشعبي. واستحضار آخر وهو احترام حقوق الإنسان. إن مراقبة حقوق الإنسان يثير انشغالات عالمية يرحب بها جميع الناس. مثلا، خروقات حقوق الإنسان في المكسيك والبرازيل حاليا تقترب من مستوى حقبة الدكتاتورية. باختصار، يتعلق الأمر بنضال ذكي واستراتيجي. بينما التعلم من الماضي أمر ضروري، ولكنه لا يمكن الاقتصار على ممارسة النقد الذاتي، غير أن مكافحة التهديدات الشعبوية يتطلب أن نستخدم خيالنا ونفكر بشكل خلاق.
   مع استمرار هذه النضالات في جميع أنحاء العالم، يجب أن نستحضر أن هناك عاملاً آخر أكثر أهمية يحدد مستقبل الديمقراطية العربية. هذا العامل هو تونس وتطورها السياسي المستمر. اللحظة الحالية فرصة تاريخية. في السابق، لم تكن تونس تعتبر دولة قوية من شأنها أن تؤثر على التوازن بين معظم الدول العربية الأخرى. كان عدد سكانها واقتصادها صغيرين، وكانت دبلوماسيتها تميل إلى دعم الإجماع العربي.
   لكن تونس الآن هي في طليعة العالم العربي ويمكنها أن تجعل الكفة تميل إلى الديمقراطية على وجه التحديد لأنها في قلب المعركة ضد التراجع الاستبدادي. تزعمت عملية التحول الديمقراطي من خلال انتخابات ما بعد الثورة وحكومة ائتلافية بعد الربيع العربي. وتتوفر على مجتمع مدني متنوع وحركات اجتماعية قوية ومواطن مصر على أن يكون له صوتا. ولذلك فإن لتونس ثقلا غير متناسب في القيام بقلب الاتجاهات المضادة للثورة التي طغت على منطقتنا منذ الربيع العربي. إذا بقيت الديمقراطية في تونس، قصة النجاح الفريدة للربيع العربي، فستكون قد تعززت بشكل كبير في الداخل وفي جميع أنحاء منطقتنا، وفي الواقع في العالم.
Visited 55 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة