عزلة المحتضرين: قضايا سوسيولوجيا حول الشيخوخة والموت
إسماعيل الراجي
يواصل عالم الاجتماع المغربي محمد مرجان _الرئيس الجمعية المغربية لعلم الاجتماع_ مسيرته الإنتاجية في إعداد الأبحاث، والدراسات، مما جعل اسهامه الابستيمي في عالم الكتابة والتأليف والترجمة، زاد فكريا، ومساهما أصيلا، في إغناء المكتبة العربية والمغربية على وجه الخصوص، بكتابات تمتح من تخصصه في سوسيولوجيا المجال والإنثربولوجيا، وقضايا المدينة والتحضر والثقافة في المجال.
لقد تم يوم الجمعة 02 فبراير/شباط 2023، بمدينة المضيق في شمال المغرب، تقديم ترجمة مؤلف لعالم الاجتماع الألماني المعاصر (1990-1897)، تحت عنوان: “عزلة المحتضرين: قضايا سوسيولوجيا حول الشيخوخة والموت”، منشورات الخيام، المضيق-المغرب (2023).
من المعلوم يعد نوربير إلياس على رأس علماء الاجتماع المعاصرين، الذي تركوا، تراثا سوسيولوجيا وفكريا، في عدة قضايا ومسائل سوسيولوجية على رأسها المسألة الحضرية والثقافية…وغيرها من الاهتمامات التي شغلت المفكرين والعلماء. وكما هو معروف، يعد إلياس _الذي تشعبت إنتاجاته بين أعمال سوسيولوجيا وإنثربولوجيا_ من الرواد السوسيولوجيين، الذين قاموا بحفريات سوسيوتاريخية في المجتمع الغربي، وفي ظاهرة الحداثة، والتحولات المجالية التي عرفها المجتمع -الغربي إبان زمن الحداثة.
فمن بين المواضيع التي شكلت تيمة أساسية في سوسيولوجيا نوربير إلياس؛ الحداثة، الحضارة، التحضر، الصراع، التنمية، الفرد، المجتمع، الزمن، الموت، الشيخوخة، الرياضة، وغيرها، من الموضوعات، والظواهر في المجال الغربي-وفي السوسيولوجيا عموما. حاور من خلالها إلياس مجموعة من دهاقنة الفكر السوسيولوجي؛ كماكس فيبر، وكارل ماركس..وغيرهم.
ها هو عمل من أعمال إلياس التي تغوص في عمق العلاقات الاجتماعية، يقدمه الدكتور محمد مرجان للقارئ العربي، تحت ترجمة “عزلة المحتضرين: قضايا سوسيولوجيا حول الشيخوخة والموت”، ترجمة، جاءت في سياق التفاعل مع صدى جائحة كورنا، التي، ألمت وخيمت بشدة في سنة 2020_2021، حيث خيم الموت، وأرخى بضلاله على المجتمعات.
يقول الدكتور عن اختيار ترجمة هذا المؤلف: “إذا اعتبرنا أن كل ترجمة هي في النهاية استجابة لضغط حدث، أو اعجاب بفكرة، أو واقع معين فإن ما حدد هذا الاختيار، هو طبيعة الجائحة التي ألقت بثقلها التراجيدي على كل مكونات المجتمع. إضافة للهلع والخوف من الموت الذي استبد بالبشر، واتخذ طابعا تراجيدا عم كل الفئات والطبقات والمجموعات، بصرف النظر عن انتمائها ولونها وجغرافيتها. وعلى الرغم من توقع الانسان لمرضه وموته كأمر طبيعي وعادي في صيرورة الحياة، إلا أن الموت بهذا الشكل الجماعي تجاوز عتبات التوقع، وأصبح الموت فوق خوفنا وهلعنا. هذا الاستنتاج هو الدافع الرئيس لهذه الترجمة التي تعيد طرح سؤال الموت والاحتضار والشيخوخة في الاطار الإنساني والمتكامل والعميق الذي يعيد لكل مرحلة من مراحل التطور البشري ألقاها وأفضليتها، حتى لو كانت تنذر بالرحيل النهائي”
في متن هذا المؤلف، يكشف إلياس النقاب عن التحولات التي لحقت ظاهرة الموت، والشيخوخة، وبعض الطقوس المحيطة بحالة احتضار الفرد في مجتمع الحداثة-بالغرب؛ حيث على سبيل المثال يؤكد إلياس، على أن الطقوس المحيطة بالاحتضار والموت في زمن الحداثة، ليست هي التي كانت في ما قبل الحداثة؛ فمن أرضية أن “الموت ظاهر اجتماعية شاملة”، إذ كان في المجتمع الغربي ما قبل مجتمع الحداثة، خصائص سوسيوثقافية، كانت تجعل ذوي الشيخوخة والمحتضرين في قلب العلاقات الاسرية والاجتماعية، والتفاعل والتواصل..إلخ. أي كان هناك حضورا قويا، للأسرة والمحيط الاجتماعي، للأنس والمواساة والتآزر، والعيادة للمحتضر، والتي كانت بمثابة جسر بين عالم الاحياء وذوي الشيخوخة، والمحتضرين. وكان هذا المسار، يعبر عن التضامن، والرفقة في درب الحياة التي تمتد من المهد إلى اللحد بين أفراد المجتمع، إذ كان الانسان يحتضر، وهو وسط أفراد أسرته، وعائلته..، أي الفرد في محارة المجتمع، وفي حضرة الاحتضار تلك، كانت تتم عملية التواصل بين المحتضر وأفراد أسرته، يتحدثون للمحتضر بشكل خاص، يعبر عن إيقاع اللحظة التي يختلط فيها الإحساس الحزن ، بالحب، والفراق والخوف ورهبة وقداسة وحضرة الموت، ومن اللافت في لحظة ما قبل الاحتضار، فعل التوصية والنصح التي تعد من سيرة علاقة المحتضر بذويه. فحسب إلياس، كان الموت جزء من الحياة، بمعنى، غير مغيب في الحياة العادية، حيث الصلة والتواصل مع المحتضر والطقوس المعمول بها تبقى الأصل في التعامل، إلى أن يفارق المحتضر الحياة.
بينما في مجتمع الحداثة، أضحت تغيرات كثيرة، حيث تم تغيير “أشكال التنشئة الاجتماعية اتجاه الموت” وأصبح الانسان يحتضر ويموت وحيدا، برغم من كونه لديه أسرة وعائلة. بل يكاد العمر الثالث من حياة المرء_الشيخوخة_ يعيشه في عزلة، فرضتها الإتجاه الحديث لإيقاع الحياة في المجتمع الغربي.
ومن ملامح وسيمات الحياة في مجتمع الحديث، أصبح الحديث عن الحياة هو ما يميز الحياة التي قمع فيها الموت عن الاستحضار، وتقهقرت تقاليد الاجتماعية والعادة التقليدية، التي كانت تؤثث مشهد العلاقات الاجتماعية والاسرية، التي كانت تلزم عيادة المحتضر والوقف بجانبه في خضم سكرة الموت.
قصارى القول، في “عزلة المحتضرين: قضايا سوسيولوجيا حول الشيخوخة والموت” سيجد القارئ العربي، رصدا لحالة التحول والتغير الذي مست العلاقات الاجتماعية، اتجاه ذوي الشيخوخة، والمحتضرين، كما سيقف القارئ على قضايا الموت والشيخوخة من خلال مقاربة سوسيولوجية، جعلت المجال الغربي مجالا لدراستها. فهذا المجال بحمولته التاريخية والثقافية، عرف جملة من التحولات والتغيرات التي إنعكست على الفرد والمجتمع معا.
وأخيرا، نشير إلى بعض الأعمال التي قام بإصدارها عالم الاجتماع محمد مرجان:
– مسار الانتربولوجيا الاستعمارية بالمغرب (اسبانيا نموذجا)، مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، ط1، المغرب (2021).
– الرحلة والمعرفة الكولونيالية: المغرب بعيون الرحالة الإسبان خلال القرن التاسع عشر الميلادي، أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط(2016)
– مقاربة سوسيولوجية لآليات التفسير الاجتماعي بشمال المغرب، منشورات جميعة تطوان أسمير، الرباط، ط1(2004)