محمد صوف قاصا وإنسانا

محمد صوف قاصا وإنسانا

المصطفى اجماهري 

   تعود معرفتي بالصديق القاص محمد صوف، بالضبط، إلى منتصف سنة 1978. كنت وقتها، في فترة الشباب والبدايات، قد نشرت مجموعتي القصصية الأولى “أمواج”، ووقعت مع شركة سوشبريس عقدا لتوزيعها. رافقني إلى مقر شركة التوزيع بحي بلفدير المرحوم الشاعر الميلودي بلحديوي. وهناك على مكتب المستخدم المكلف بالشركة لاحظنا كتابا موضوعا. كان نسخة من مجموعة قصصية بعنوان “تمزقات”. سمح لنا بتصفحها، فقرأنا عليها اسم صاحبها محمد صوف. عندها طلبنا من المستخدم عنوان المؤلف إلا أنه تلكأ، في البداية، بدعوى السر المهني. لكننا ألححنا عليه مُعبرين له عن نيتنا في التعرف على كاتبها كأديب شاب نقتسم وإياه نفس الانشغالات والطموحات. وبعد تردد ثم استئمان على عدم الوشاية به أعطانا العنوان. ولحسن الحظ لم يكن سكن محمد صوف بعيدا كثيرا عن مقر الشركة. توجهنا إلى منزله بحي روش نوار القريب. وجدنا هناك والدته رحمها الله التي أخبرتنا بأن ابنها يعمل بالبنك الهولندي بساحة 16 نونبر وسط مدينة الدار البيضاء. فكان أن اتصلنا به توا في مقر عمله. ورغم ضغط العمل، نظرا لمسؤوليته عن مصلحة الزبناء، إلا أنه رحب بلقائنا وأعطانا الوقت الكافي للتعارف. بل وقع لي نسخة من المجموعة بالإهداء التالي : “إلى الأخ اجماهري المصطفى مع يد ممدودة نحو صداقة مستمرة”.

   وتوالت لقاءاتنا ببيته كما بالمقهى. ثم أصبحنا كوكبة من الأدباء الشباب ضمت أيضا الناقد صدوق نور الدين. ثم توسعت دائرة الصداقات الشبابية لتشمل، خلال فترة، الأخ مبارك بيداقي الذي كان وقتها قد شرع في كتابة بعض النصوص الشعرية بجريدة “الميثاق الوطني”. ووقتها أيضا كانت بدأت تروج في المنابر المغربية، وقبلها العربية، عبارة “الأدباء الشباب”. هذه التسمية حملت بعض الالتباس وسوء الفهم. إنما ما كان يعنينا حينها هو التفكير في إطار للتلاقي والنقاش المنظم بين كتاب ذلك الجيل سواء أكان مقهى أو ناديا أو صحيفة. وسوف نتبادل الرأي في الفكرة حينما التأمنا في القنيطرة بمناسبة عرس الأخ الكاتب العربي بنجلون. ثم، بعد أيام، استضافنا المرحوم الشاعر الميلودي بلحديوي في شقته بحي ريفييرا بالدار البيضاء. لكن الفكرة سرعان ما تم نسيانها في معمعة انشغال كل منا بمستقبله المهني وإقرارنا بأن مرحلة الشباب في طريقها إلى الزوال، إن لم تكن قد زالت فعلا عند بعضنا. وفي جميع الأحوال، فقد ظل محمد صوف، لسنين طويلة، محور التواصل بين المجموعة، وذلك لاعتبارات ذاتية (شخصيته المنفتحة)، وأخرى موضوعية (وجود مكتبه بوسط الدار البيضاء). وبفضل محمد صوف أيضا تمكّنا، وقتها، من التلاقي مع أدباء شباب آخرين من بينهم الشاعر محمد فراح، صاحب ديوان “السيف والأكفان البيضاء”، والناقد السينمائي حميد نحلة الذي هاجر إلى فرنسا بعد ذلك، والشاعرة سعاد فتاح، صاحبة الديوان اليتيم “دعوني أقول” الصادر في بيروت، والتي كانت تشتغل بشركة توزيع الصحف سوشبريس. 

   وبالنظر إلى محدودية الحيز المخصص لكتابات الشباب في السبعينيات أو، بعبارة أوسع، أمام أولئك الذين وجدوا صعوبة في نشر أعمالهم، فقد فكر محمد صوف في خلق وسيط يؤدي هذه الوظيفة. كشف لي ذلك ضمنيا في حوار أجريته معه ونشر بأسبوعية “البيان الثقافي” بتاريخ 19 يوليوز 1979، أشار فيه إلى أن: “الحقل الأدبي في بلدنا سيزدهر لو أمكن للإنتاجات الشابة أن ترى النور على صفحات جرائد ومجلات مختصة”.. ولم تمر إلا بضعة أشهر حتى بادر محمد صوف إلى القيام بالإجراءات القانونية وإصدار جريدة “أوراق”، شهرية أدبية وفنية. ظهر العدد الأول في ماي 1980. وكان من ميزة هذه الدورية أن انفتحت على الكتاب بجميع أصنافهم كما على أهل الفن بدون تمييز ولا إقصاء. ولم تكن التجربة بالهينة. ففضلا عن التكلفة المادية لعمليات الرقن والطبع والتوزيع، كان لا بد من احترام توقيت الإصدار علما بأنه لم تكن للجريدة هيئة تحرير قارة. فقط كان هناك الناقد صدوق نور الدين من يقدم المساعدة في هذا الباب. وعليه فلم تستمر التجربة طويلا، وسرعان ما توقفتْ في يناير 1981. وفي اللقاء المصغر الذي نظمته مجلة “الطليعة الأدبية” العراقية بالدار البيضاء في غشت 1981 للحديث عن “أدب الشباب في المغرب” أشار إلى تجربة “أوراق” مصرحا بأن بعض من عزفوا عن الكتابة في الدورية فعلوا ذلك بعدما اعتبروا أن المنبر مخصص للمبتدئين. وهو ما لم يكن صحيحا.

   وعلى عكس المتوقع فقد خرج محمد صوف من تلك التجربة الصحفية بدروس عميقة حفّزته على ولوج ميدان النشر. أطلق لذلك سلسلة، حملت ذات الاسم، “منشورات أوراق”. فكان من بين إصداراته الناجحة رواية “الثعلب الذي يظهر ويختفي” للراحل محمد زفزاف سنة 1985، فضلا عن كتاب “إشكالية الخطاب النقدي العربي” لصدوق نور الدين.

   لكن الرياح ستجري بما لا تشتهيه السفن، حين أصدر الأخ صوف كتاب “طبيعة الشعر” للكاتب المصري محمد أحمد العزب، بإيعاز من الصحفي عبد السلام المفتاحي (الذي سيؤسس فيما بعد مؤسسة ندا كوم للنشر بالرباط)، إذ لم يحقق هذا الكتاب العائد المالي المأمول. ولم يكن ذلك راجعا لجانبه العلمي، بل غالبا لعزوف عموم القراء عن اقتناء المؤلفات ذات الطابع النظري الصرف. وكانت النتيجة المنتظرة أن هذا الإصدار أخلّ كثيرا بالتوازن المالي لمنشورات أوراق. حدث ذلك بالضبط حينما كانت “أوراق” بصدد برمجة إصدار رواية الكاتب القنيطري المعروف مبارك الدريبي “طيور المساء”، والتي ستطبع في وقت لاحق من طرف المنشأة العامة للنشر والتوزيع بطرابس. وكان محمد صوف قد وعد الراحل بطبع عمله هذا لولا أن العجز المالي كان بالمرصاد.

   هذه شذرات استدعيتها من ذاكرة البدايات، من زمن السبعينيات، تخص أديبا أخلص لهموم الكتابة وشجونها. أديب يحتل اليوم مكانة مرموقة في المشهد الثقافي المغربي برصيد محترم من المؤلفات يتعدى العشرين كتابا، ومساهمات متميزة في المجلات والدوريات، ومشاركات منتظمة في اللقاءات المختلفة والندوات.

* نص الشهادة الملقاة في جلسة تكريم القاص والروائي محمد صوف المنظمة بالمركب الثقافي عبد الله العروي بآزمور يوم الجمعة 24 فبراير 2023.

Visited 73 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى اجماهري

كاتب وناشر مغربي