فرانزكافكا.. البوهيميّ الغرائبيّ الذي ملأ الدّنيا وشَغَل القرّاء
د. محمّد محمّد خطّابي
قبل ميلان كونديرا وليبوسي مونيكوفا، بعقود، عاش الكاتب التشيكي فرانز كافكا في براغ حيث ولد في 3 يوليو 1883، والمتوفىّ على إثر مرض عُضال بـ كيرلينغ كلوستيرنيبورغ النمسا في 3 يونيو 1924. وعلى الرّغم من الجوّ السّوداوي الذي أحاط به، وبحياته، وأعماله، فإنه في الواقع حاول في فترة مّا من حياته أن يكون شخصية كافكاوية، إلاّ أنه في الأخير فشل في مسعاه. إذ منذ بداية تعامله مع الكتابة تفتّق وظهر ككاتب لغز، بوهيمي، غرائبي ،مُبهر ومُحيّر، و مُعذّب، ومُعنّى ، وغريب حيث خاض بمختلف ابداعاته غمار الواقعية والخيال الإبداعي المجنّح .
على الرّغم من العديد من التآليف، والدراسات والكتب والاطاريح التي التي كُتبت عن هذا الكاتب الذائع الصيت، وعن حياته، فإنه ليس من السّهولة واليُسر التعرّف على حقيقته وكنهه وخبايا حياته المعتمة. يشير الكاتب الألماني “غواشيم أونسيلد” الذي وضع كتاباً موفياً حول حياة هذا الكاتب السّوداوي المثير: “إنه على الرّغم من العزلة، والمرارة اللتين يتميّز بهما فرانز كافكا، فإننا واجدون شيئاً مهمّاً آخر في حياته، وهو جانب الحبّ، والقدرة على الاستحواذ على الناس، وتحقيق النجاح منذ ظهور كتابه الأول تأمّلات عام 1912.
ويروي لنا “غواشيم أونسيلد” قصة طريفة عن بداية حياة كافكا الابداعية، فيشير إلى أنه كان قد تقدّم لنيل جائزة فونتان للقصّة القصيرة عام 1915، واتفق الناشر مع حكام هذه المسابقة الأدبية على أن يعلن بأنّ اسم الفائز هو “كارل سترنهيم”، على أن يُسلّم مبلغ الجائزة لفرانز كافكا اعترافاً بقيمته الأدبية، وكان القصد من هذه العملية هو كسب اسميْن بدل اسم واحد لصالح دار النشر التي أشرفت على تنظيم هذه المسابقة. وكان فرانز كافكا قد شارك في هذه المسابقة الأدبية بقصّة قصيرة تحت عنوان: (وقّاد الآلات البخارية)، والتي ستصبح لاحقًا الفصل الأوّل لروايته أميركا.
المجد الأدبي المنشود
كان بول فاليري يقول: لكي يضمنَ الانسانُ حياته ككاتب، ينبغي أن يتوفّر لديه أمران اثنان، الأوّل بطبيعة الحال هو أن يكتب، والثاني هو قدرته على تحقيق الانتشار الواسع لما يكتبه. ولا يمكن تحقيق المجد الأدبي إلاّ بتلاحم هذين العاملين اللذين يبدوان وكأنّهما منفصلان الواحد عن الآخر. العامل الأوّل هو تحقيق الإبداع ذاته، والثاني هو ضرورة إقناع الناس بفحوى هذا الإبداع وجدواه بواسطة الكاتب نفسه، أو عن طريق هؤلاء الذين قرأوا أعماله، وأعْجِبوا بها، بذلك تتحقق الشّهرة، ويتأكد النجاح والانتشار. وكان ناشر كافكا، كورت وولف، يقول: إن الكاتب الجيّد ينبغي له أن يظهر في الوقت المناسب، وعن طريق دار النشر المناسبة، وينبغي له أن يكون مُحاطاً بالحماس الذي هو قمين به، وعلى عكس ذلك فإنّ الأمر قد يغدو مجرّد نشر مطبوع ضائع.
معاناة واندحار
لقد اعترف فرانز كافكا لصديقه وولف – كما حدث مع غير قليل من الكتاب الكبار- أنه أسعد ما يكون عندما ينصرف للكتابة، بل إن نسبة إنتاجه الأدبي رهينة بمدىَ قدرته على التأقلم مع المحيطين به، والتجمّع، والمشاركة. إنّ كافكا كان يعمل في بعض الأحيان لمدّة خمسة أشهر متتالية، ثم يدخل بعد ذلك في مرحلة من الخمول الأدبي. واتّضح أنّ غِنىَ، وعمق، وثراء إنتاجه الأدبي، شديد الصلة بمدىَ معاناته اِندحاره العاطفي أو تألقه، وأنه كلما خمدت عنده جذوة الطاقة الإبداعية، وخبا أوارُها، فإنّ علاقاته الشخصية الخاصّة مع “فليس باور” تزداد قوّةً، ومتانةً، وعنفواناً وتألقاً .
غير خافٍ على أحد أنّ كافكا نباتياً، عكس والده الذي اشتغلت عائلته طوال حياتها بالجزارة، وكان كافكا يهوى الإقامة في مراكز الطبيعيين، وكان يحبّ السباحة، والرياضة، والتجوّل في الهواء الطلق. إنّ اتصالاته وانقطاعاته عن فليس باور، التي تزوّجها عام 1919 كان لها تأثير بليغ على حياته، وعلى الرّغم من أنه كان يعرف أنه قد أصيب بداء ذات الرّئة، فإنّ مرض السلّ هذا لم يمنعه، ولم يثنه عن القيام ببعض المغامرات العاطفية الأخرى. كان كافكا خجولاً، منعزلاً، إلاّ أنه لم يكن روحانياً محضاً، كان ساخطاً ناقماً، غير أنه كان يقاوم الاستسلام. كان واثقاً من نفسه، ومن كتاباته، إلاّ أنه مع ذلك، كان يشعر بنوع من القلق ،والارتياب من مدى قبولها، واستحسانها من طرف القراء.
كان كافكا في صراعٍ دائمٍ حاد مع نفسه، ومع ذاته، ومع حياته، ومع مجتمعه، ومعاناته الإبداعية بشكل خاص. هل كان كافكا يكتب ليكون محبوباً، أو بالأحرى محبوباً جدّاً؟ أم كان يكتب بغاية تحقيق الشّهرة، والمجد، والذيوع، والانتشار؟ أم كانت الكتابة عنده نوعاً من إثبات الذات، وتأكيد هويّة مّا، أم لكبح لوم عدم الكتابة؟ هذا النوع من التطلعات هي التي طبعت وميّزت حياة كافكا.
“المسخ” إدانة صارخة للوجود!
أشهر أعمال كافكا الروائية القصة التي تحمل عنوان Die Verwandlung – التحوّل أو المسخ 1915، التي تتناول قصّة بائع يسافر ليجد نفسَه فجأةً قد تحوّل إلى كائن غير مرغوب به، وتحديداً على شكل حشرة قبيحة مُرعبة. أجمع عدد كبير من نقاد الأدب على أنّ هذه القصة تُعتبر من أكثر الأعمال الخيالية إثارةً وتأثيراً في القرن العشرين. واجه فرانز كافكا الموت ليس كموقف درامي، بل إنّه حاول استيعاب أو فهم هذا الشعور المأسوي، أو الحدث الدرامي، ولم يجد في الأدب وسيلة فقط لتحقيق ذاته، أو غايته،أو مراده، أو مأربه، بل إنّه وجد في الكتابة نوعاً من الفرار أو الخلاص، أو منفذاً، أو ملاذاً، أو إنقاذاً له من فداحة الموقف الذي يتردّى فيه كإنسان.
الحديد لا يُفلّ إلاّ بالحديد
وأمام هذا النغوص أو الغموض كان على كافكا أن يجد الإجابة بواسطة هذا الغموض بعينه، فالحديد لا يُضرَب أو لا يُفلّ إلاّ بالحديد. وهكذا فالأدب عنده هو نوع من الغموض نفسه مثلما هو الشأن لدى الألماني ريلكه، أو الفرنسي مالارميه، اللذين كانا يريان أنّ الأدب الغامض، أو الأدب الجيّد لا يمكن فهمُه أو إدراكُه أو الوصول إليه إلاّ بقدرٍ باهظٍ، ومجهود كبير من الذكاء، والفطنة، والتفكير، والمعاناة، والمكابدة. فكثير من الأعمال الأدبية العظيمة هي أعمال غير مريحة، أو غير سهلة أو مستساغة الفهم بسهولة ويُسر عند الكثيرين، والتفكّك، الذي قد تحدثه بعضها لدى قرّاء هذه الأعمال قد يكون في النهاية تركيباً أو بناءً يغدو في آخر المطاف عنصراً نابضاً من عناصر الأمل أو فسحة منه للتغلّب على عذاباته، وعلى ذاته، وهو يرى والحالة هذه أنّ ذلك لم يكن ضرباً من ضروب المداهنة أو المصانعة، وإنّما كان مجرّد شكل خاص من أشكال الإدراك أو الإقتناع مفاده بأنْ لا أحد، بين الأحياء على الأقلّ، يستطيع أن يتخلّص من ذاته.
بذرة الموت
ويؤكّد النقاد المتخصّصون في أعمال فرانز كافكا أنّ كتاباته تحمل في طيّاتها بذرة الموت، والموت عنده هو الجانب السّلبي والسّحري والقّسري للحياة. وهو لا يَسلب المرء حياته وحسب، بل يسلبه حرّيته كذلك، وهكذا تصبح الحياة غارقة في هوّات الفراغ والسوداوية، وفي متاهات التفاهة، والعبث، كما أنها تغدو غير ذات مدلول. كان الناقد الفرنسي موريس بلانشو قد قام بمراجعة متأنيّة لبعض كتابات كافكا مثل اليوميّات ومراسلاته، وكتاباته الذاتية، في محاولة منه لاستدراك عمقها، واستكناه أسرارها، واستغوار غوامضها، وتجسيم هوَسه في مناغاة العزلة، ومعانقة الآلام، وانتهىَ إلى نتيجة مفادها أنّ الكتابة عنده كانت بمثابة مكافأة عذبة ورائعة، ولكنّ كافكا سرعان ما يتساءل: مكافأة على ماذا؟ ويجيب في الآن نفسه: في الليل كان واضحاً لي أنها مكافأة على خدمة الشّيطان. ويضيف قائلاً: ربما توجد كتابة أخرى أيضاً، لكنّني لا أعرف سوى هذه..!.
باكورة أعماله تأمّلات
في خريف 1912 وبعد مرور عدّة أيام من غير أن تصله أيّة تعليقات من خطيبته فليس باور حول كتابه تأملات، كتب إليها يقول: الحقّ أنّ هذا الكتاب يبطّنه تشوّش لا يمكن التحكّم فيه، بل بالأحرى قد تجدين فيه في الكتاب نظرات ينبغي الاقتراب منها كلّيًا حتى يمكنكِ رؤية شيء. على كلّ حال إننى أقدّر عدم معرفتك بماذا ستفعلين بهذا الكتاب، إلاّ أنني مع ذلك لن أفقد الأمل، إذ أنه في لحظة حِلم، أو تسامح، أوأريحية، أو ضعف، أو تواضع من طرفك عندئذٍ سوف تشعرين أنّك تميلين لمحاولة فهمه، ولن يكون هناك أبداً أحد يعرف ماذا يفعل بكلّ هذا، إنه شيء لي، ومني، وسيظلّ واضحاً أمامي، ونصب عيني إلى الأبد. إننى لآسف كثيراً عن تضحية ناشر مبذر، وإنّ مجرّد التفكير بأنّ كلّ محاولاتي قد باءت بالفشل يسبّب لي آلاماً مُبرحة، ولكنّني أعزّي نفسي بأنّني وأنتِ في آ خر المطاف لنا قاسم مُشترك، على الرّغم من أنه لو أعجبتكِ درّاعة ولم ترقني أنا إلاّ أنه فقط لأنك ترتدينها حينئذٍ يفرحني أن أراها عليك، وهكذا فإنّ كتابي في حدّ ذاته حتى وإن لم يعجبك، فإنه يكفي أن يكون من تأليفي، عندئذٍ لا أشكّ في أنه يروقك، وهذا ما يُقال عن مثل هذه الأشياء في مثل هذه الحالات.
ومن غرائب الصّدف أن يكون هذا الكتاب من أكثر كتب كافكا الذي حقق نجاحاً منقطع النظير، ولم يكن يقصد من تأليفه حث ّ اهتمام الأوساط الأدبية به وحسب، بل كان يسعى كذلك إلى رفع الحجر عن وضعه كموظّف إداري بسيط. طبع في البداية من هذا الكتاب 800 نسخة فقط عام 1912، وظلت حتى عام 1926 دون أن تنفذ، إلاّ أنه بعد مرور عامين على وفاته 1924 لم يحقق أيُّ كتابٍ من كتب كافكا المنشورة الأخرى النجاح الذي حققه هذا الكتاب بالذات! لقد طلب ذات مرّة كافكا من صديقه الحميم المقرّب “ماكس برود” إتلاف أو إحراق مخطوطات كتبه لعدم تحقيقها في حياته النجاح الذي حققته بعد مماته، إلاّ أنّ ذلك لم يحدث، بل لقد عمل ماكس برود وفاءً لصديقة كافكا على نشر أعماله الإبداعية بعد رحيله على إثر المرض العضال الذي كان قد نهش جسمَه النحيل وسلّمه لبراثن الحِمام.
جذوة الكتابة وجمرة التلقّي
تؤكّد جميع الدراسات، والبحوث، والكتابات التي كتبت عن كافكا، وعن مختلف أعماله بما لا يرقى إليه شكّ، أو يخامره ريبة أنه عانى الكثير، وقاسى الكثير، من سلطة والده القويّ والاستبدادي، وهو ما يبرزه كافكا بصورة خاصة في كتابه الحُكم Das Urteil أو المحاكمة ، حيث يقبل الشاب حكم الموت الذي أصدره عليه والده. كلّ هذه المعاناة تلظّاها كافكا من أجل إبلاغ صوته، وكتبه، وإبداعاته، وتآليفه للقرّاء ليس في بلده وحسب، بل إنّ هذه الكتابات قد تخطّت كلّ الحدود الإقليمية التي كانت تحيط به إلى اكتساب شهرة عالمية واسعة. هذا فضلاً عن معاناته الشديدة كإنسان، وككاتب يتفاعل، وينفعل مع نفسه، ومع ذاته، ومجتمعه، وكينونته، ومع العالَم المحيط به، ولقد إعترف الكاتب الأرجنتيني الرّاحل خورخي لويس بورخيس، في أحد مقالاته عن فرانز كافكا، بأنّ هذا الكاتب هذا المُعنّى كان أستاذه، ومعلّمه في هذا المجال.
لقد صارع فرانز كافكا الحياة، وصارع الدّاء الذي كان ينهش أحشاءه. وكافح بكلّ ما أوتي من قوّة وإرادة، حتى لا يُساق أو يُقتاد إلى المُحاكمة من دون اقترافِ أيِّ ذنب أو جُنحٍ، أو جُرمٍ، أو جِنايةٍ، يُساق إلى حبل المشنقة قهراً، وقسراً، وعنوة بعد أن أُرْغِم على إرتداء ثوب العيْش دون إستشارته !، أسوةً بما قاله قبل قرون عديدة خلت خِلّه في الخلق، والعَطاء، والإبداع الشاعر الفارسي عمر الخيّام، القائل كذلك في رباعيّاته، في السياق ذاته: (لبِسْتُ ثوْبَ العُمر لم اُسْتشرْ/ وَحِرْتُ فيهِ بين شَتىّ الفِكَر..)، كافح كافكا من أجل تثبيت قيم إنتاجه الأدبي، كما أنه لم يهدأ من خوض هذه المعركة مع نفسه، ومع المجتمع، ومع أعدائه، وخصومه، لم يهدأ سوى عندما أُخبِر عام 1917 أنه يعاني من مرضٍ عُضال لا شفاء يُرجى منه.