أفق: السجن و الحديقة.. محمد زفزاف بين القصة والرسالة
يكتبه: صدوق نورالدين
1/
نشر الكاتب الكبير محمد زفزاف مجموعتين قصصيتين في بيروت: “الشجرة المقدسة” (دار الآداب/ 1980)، و”غجر في الغابة” (المؤسسة العربية/ 1982). مما حكاه الراحل عن الأولى، أن الناشر سهيل إدريس أخبره بمنعها في دورة من دورات معرض الرياض للكتاب، بمبرر عنوانها. و أما ما سأحكيه عن الثانية، فكوني حصلت على نسختين في فترة صدورها من مكتبة “المركز الثقافي العربي” بالأحباس، إذ حدست بأن الأستاذ قد يكون على عدم دراية بوصولها سوق المغرب. وهو ما كان. بالتالي ما دونته في “كتاب محمد زفزاف”.
إلا أن الراحل، وهو يعد نهاية التسعينيات لإصدار أعماله الكاملة في الرواية والقصة عن وزارة الثقافة، زمن الوزير الشاعر والروائي محمد الأشعري، وبإشراف القاص مصطفى المسناوي رحمه الله تعالى، هاتفني يطلب صورة من “غجر في الغابة” لاستكمال المجموعة القصصية، فما كان إلا أن وفرتها له.
كم كان سعيدا وهو يرى أعماله الكاملة تصدر، ولئن غاب ما أبدعه شعرا – وهو ما سأعود له -، إلى آرائه ومواقفه المعبر عنها في أعمدة نشرت بجريدة “العلم”، “الاتحاد”، “مغرب اليوم” و”السياسة الكويتية”.
2/
أود التوقف في هذا الأفق الذي درجت على كتابته عند قصة وردت في المجموعة الثانية. وأقصد بالتحديد “السجن والحديقة”، علما بأن قارئ التجربة السردية لزفزاف (قصة/ رواية)، يهتدي إلى كونها تتفرد بتجريبية خاصة تتمثل ليس فيما دعي ذات مرحلة بتفجير اللغة، أو الكتابة التي ماتت في زمنها مجسدة في التحديد “نص” الذي هو في الجوهر “لا تحديد”، أو أيضا الرهان على مكون الوصف وتغييب الحكاية، وكأن الوصف مكون ليس غير.
3/
ظل الكاتب الكبير محافظا على مفهوم “القصة”، في ضوء كونها حكاية تحكى وفق جمالية آسرة. من ثم نوع الصيغة بين قصة وثانية. اللافت أن معنى التنويع، القول بأن أشكال التعبير متعددة، والمبدع في فرادة تجربته يختار ما يناغم المعنى. يقول الراحل مكثفا السابق:
“كل الأفكار قيلت، غير أن تجربة الأفراد وحدها هي التي تختلف”.
إن صورة القصة في تجربة محمد زفزاف بالضبط، صورة البساطة الخادعة أو المخدعة. فالقارئ يتوهم في قراءة أولى، أن ما يتلقاه ينطبع بـ “العادية” إذا حق، فيما إعادة القراءة توقف التلقي على عمق ما يقدم على قراءته. نتذكر من القصص “تكوين”، “رسائل، أصوات، أجنحة”، “الرجال والبغال”، ” حمار الليل يضرب سكيرين”….إلى آخر النصوص، إن لم تكن كل النصوص. يرد في رأي للقاص والروائي الراحل إلياس فركوح:
” بساطة في السرد بعيدا عن التبسيط، ورؤية للأغوار دون إمعان في التصريح.”
ويضيف:
” نقرأ لمحمد زفزاف فنتلمس الفقر، والانشغالات اليومية الناتجة عن البون الشاسع بين حاجات الإنسان الأولية واستحالة توفيرها، والشرور الصغيرة والمكر الساذج جراء السعي لبلوغ غايات صغيرة أيضا، والرضوخ المقهور لشروط تصحير الروح، كأنما هي أقدار رسمت لتكون هي هي: إشارة الولادات”.
4/
تتداخل في “السجن والحديقة” صيغتان: الكتابة السردية القصصية، والصيغة الرسائلية. تتمثل الثانية في التحديد الزمني المتتابع: الأحد 13 أبريل، الاثنين 14 أبريل، 26 أبريل و7 مايو. ما يلاحظ غياب ضبط المكان والسنة، إلى الطرف المرسل إليه بالاسم العلم. وما يؤكد أننا بصدد اعتماد كتابة رسائلية، القول:
“يجب ألا تحمل رسالتي خلفيات”.
“قبل دقائق غادرت البيت، و ها أنني أعود إليك لأكتب لك”.
تتجسد الكتابة السردية القصصية في اللغة الأدبية المكثفة، والموحية التي نسج وفقها بناء إيقاعات النص، وتمزج الأدبي بالفلسفي وفق تصريف لمقروء دال عميق. على أن فضاء القصة يوازي بين المغلق (السجن) والمفتوح(الحديقة). وبالارتباط بالفضاء، وجهة النظر المتعددة، حيث يوثق الصوت النسائي صوت المرأة العاشقة بالاستدعاء والاستحضار أقوى اللحظات التي عيشت والغائب (أنت أيها الغامض). على أن الراحل محمد زفزاف نوع – وبمهارة عالية- على الضمير النسائي، إذ من خلاله تتحقق ترجمة أقوال الغائب ومواقفه، والزوج، والحديث عن الطفل عادل. وكأن الوضعية السردية تتعلق بتداخل أربع شخصيات يديرها بكفاءة الصوت النسائي. فالمعنى المنتج يزاوج بين حكايتين: حكاية الأمس بين العاشقة الرومانسية والمعتقل المادي التوجه، و الذي يوحي النص بأنه كاتب واقعي:
“لقد قلت مرة: شيء غريب. شيء غريب أن نكتب قصة رومانتيكية هي من مخلفات ماض مريض. وتساءلت عماذا تعني بالماضي. فنظرت في البعيد. وقلت من خلال لاشيء. فرتر مات ولن يبعث من جديد. و روميو مات وكان مريضا وأدولف. وأدولف هو أيضا. يجب أت تقرئي عنه ونظرت في البعيد مرة أخرى ثم ابتسمت بهدوء”.
وحكاية الحاضر، حيث يمثل الزوج الذي يناقض في اهتماماته شخصية المعتقل الغائب. إنه الصراع الخفي والمعلن بين صورة الأمس واليوم:
“هذا الصباح أجدني وحيدة. لقد انصرف وقال إنه سيعود ليتغذى ثم نمضي يوم الأحد كالعادة خارج المدينة، حيث الطبيعة التي تستهويه كثيرا”.
وأما الطفل عادل، فبمثابة الحقيقة التي تصل بين العاشقة (الزوجة) والضمير(هو/الزوج):
“وسيظل عادل الصغير هو الحقيقة الوحيدة في الحياة”.
5/
إن محمد زفزاف وتأسيسا من هذه الصيغة، يطرح تصورا عن/ ولمفهوم الكتابة. وبالتالي، الوظيفة التي يجدر أن تؤديها. والأصل أن هذا المسعى تنبني عليه كتابات الراحل السردية. ويحق التمثيل بأكثر من نص: “تكوين” (حوار في ليل متأخر)، “حكاية رجل شارب”( الملاك الأبيض)، “مشي” (بائعة الورد) ورائعته “أفواه واسعة”. وهنا أشير إلى أني سأعود لاحقا لهذه النصوص في دراسات مستقبلية.
6/
لم تعد كتابة القصة القصيرة تقليدية. ولم يعد المعنى المنتج رومانتيكيا، إذ الواقع يفرض نفسه بقوة. والملاحظ أن زفزاف ومن خلال إشارات دقيقة يوحي بالأبعاد الواقعية لتجربته. وهي الأبعاد التي يفرض/ يفترض قراءته في ضوئها:
“أعرف جيدا أنني إذا كنت أستمع إلى شوبان، فإن الشعب لا يجد ما يسد به رمقه، وكنت في إصرارك على إفهامي هذه الحقيقة قاسيا إلى حد العظمة”.
“.. وكان الشعب هو مدار حديثك في غدوك و رواحك”.
<
p style=”text-align: justify;”> يبقى القول بأن قصة “السجن والحديقة”، تتفرد بالنفس الروائي، مثلها في ذلك مثل “كيف نحلم بموسكو؟” (بائعة الورد).