عبد الله العروي والفلسفة!

عبد الله العروي والفلسفة!

حسن زهير      

   تطرح علاقة المفكر المغربي عبد الله العروي بالفلسفة وضعا سجاليا مع “أهل الفلسفة”: أصحاب التخصص الأكاديمي، ذلك أن هذه العلاقة ارتبطت لديه بحدثين أساسيين ساهما في تحديد موقفه منها: الحدث الأول هو أن بدايته الفكرية نشأت داخل بيئة تدعو إلى الارتباط بالسياسة والمجتمع بحكم حضور الاستعمار والموقف الوطني منه. يقول في هذا الصدد: “كنت أميل إلى التجريد، فلم أنفلت منه إلا بمعانقة التاريخ عندما قررت، في لحظة ما، الاندماج الكلي في المجموعة البشرية التي أنتمي إليها و أربط مآلي بمآلها”[1].

   أما الحدث الثاني هو أن دراسته الجامعية بدأت في إطار العلوم السياسية، التي تهتم بآراء الفلاسفة في القضايا الاجتماعية والسياسية دون الأخذ بعين الاعتبار أسسها الميتافزيقية والمعرفية، متأثرا بكتابات “ج.ج. شوفاليي”، التي كانت تكتفي بتلخص أفكار الفلاسفة الكبار من أفلاطون إلى ماركس، مرورا بهوبس وروسو، في المسائل السياسية والاجتماعية فقط. هذا الأمر أدى به، في النهاية، إلى اختزال مفهوم الفلسفة في الميتافيزيقا، في حين ظلت الجوانب الاجتماعية والسياسية هي التي توجه تعامله مع إنتاجات الفلاسفة، وهو ما يفرص علينا طرح السؤال التالي: إلى أي حد شكل هذا الهاجس، السياسي والاجتماعي، عائقا أمام العروي وجعله، بالتالي، غير مؤهل للخوض في إشكالات الفلاسفة وقضاياهم عملا بمبدأ التخصص، العزيز على قلبه من جهة، وبالنظر إلى كونه مؤرخا في الأصل من جهة أخرى؟

   محاولة منا لتقديم إجابة أولية عن هذا السؤال، يمكننا القول إنه إذا نظرنا إلى الفلسفة بوصفها بحثا ومعرفة تتأسس على “طمس الزمان في اللازمان”، أي رفض التطور والتاريخ بدعوى أن التفكير الفلسفي لا زماني، أي أن الفلاسفة كلهم معاصرون: أفلاطون، ابن رشد، ديكارت، كانط والآخرون.. كلهم مازالوا أحياء يتساكنون في ذهن كل شخص حي، دون حاجة إلى تصور أن ديكارت، مثلا، جاء قبل كانط، فقد نسير من الأول إلى الثاني أو العكس، لأن الإثنان متساكنان في ذهن الفيلسوف. إذا كان الأمر كذلك فإن هذا سيؤدي إلى الحكم على التاريخانية بالتفاهة، وبالتالي يمكن، في هذه الحالة، التشكيك بسهولة في أهلية العروي للخوض في قضايا الفلسفة وإشكالاتها. يقول  عن نفسه في هذا الصدد: “درجتُ على مطالعة كتب الفلسفة، لكن على غير عادة المتخصصين. منذ البدء رفضت الخضوع لدستور المهنة. قرأت جمهورية  أفلاطون قبل طيماوس ، سياسة أرسطو قبل ما بعد الطبيعة، السياسة والدين لسبينوزا قبل الأخلاق، فلسفة الحق لهيجل قبل الفينومينولوجيا.. ماركس قبل برجسون.. إلخ. هل سلوكي هذا النهج الشاذ جعلني غير مؤهل لفهم مقاصد الفلاسفة؟ هذا بدون شك ما يقوله المتعصبون، لولا أن الحكم قابل للانعكاس”[2] .

   لكن، بالمقابل، يمكننا اعتبار العروي  مؤهلا لمناقشة القضايا الفلسفية إذا ربطنا الفلسفة بالتاريخ واعتبرنا السابق يؤطر ضرورة اللاحق. هنا نجده يساجل الفلاسفة عندما يخوضون هم في السياسة والمجتمع، أي يتناولون ما يراه هو خارج اختصاصهم، وفي هذه الحالة لابد من استحضار الزمن، والمقصود هنا “زمان” المؤرخ أي رفض “طمسه في اللازمان”، كما يحلو للفيلسوف أن يفعل. إذا استحضرنا الزمان إذن، أي التطور التاريخي وربطناه بالفلسفة، فإننا نصبح ملزمين، حسب العروي، بالإنصات إلى ما تقوله الأبحاث التاريخية والأركيولوجية واللغوية حول اكتشافات ملاحم الهند والفرس، والتي إن أخذناها في الاعتبار يتضح أن هناك “فكرا سابقا على الفكر”، أي سابق على سقراط و الفلاسفة الطبيعيين، فكر ميثولوجي، ينتمي إلى الحقبة التي سبقت “المرحلة الهلنستية” والمقدرة بألف سنة. هنا يطرح السؤال: ماذا كان قبل الإغريق، ويوجد ضمنيا في فلسفتهم؟ وهو سؤال يزعج الفلاسفة التقليديين، لأن أول من طرح السؤال هم اللغويون ودارسوا الأساطير، الذين تنبهوا لقرابة اليونانية بالآرامية القديمة والسانسكريتية. هذه المرحلة السابقة تمازجت فيه الفلسفة وتداخلت مع كل أنواع التفكير والتعبير المنتشرة على طول البحر الأبيض المتوسط، من فلسفة طبيعية وفلسفة إلهية وتيوصوفيا وثيولوجيا.

   يلاحظ العروي، الذي يستحضر الزمان باعتباره تاريخانيا – على العكس من الفيلسوف الميتافزيقي الذي يطمسه في “اللازمان”- أن هذا الفكر السابق ترك بصماته الواضحة في التفكير الفلسفي، فهو يتعامل مع نفس الموضوعات أو الإشكالات أو المباحث من قبيل: “هل الفضاء فراغ أم امتلاء؟ وهل الزمن هو الحركة أم غيرها؟ وهل الصورة عين المادة أم غيرها؟ وهل الكون مخلوق أم لا؟ وهل الزمن والامتداد محدودان أم لا ؟.. إلخ.”[3].

   هذه الاسئلة وغيرها يقول العروي: “ضمّنتها الميثولوجيا، أبرزتها الفلسفة، أحيَتها الثيولوجيا، ونقول اليوم إنها، في حدود ما يُعقل منها، موكولة إلى العمل التجريبي”[4]. ويضيف في مكان آخر: “إن المسائل التي صورتها الميثولوجيا وحللتها الفلسفة وركبتها الثيولوجيا يستقل بها اليوم العلم الموضوعي”[5].

   إذن فالفلسفة نشأت في حضن الميثولوجيا ولم تتنكر لها، كما أن الثيولوجيا تولّدت عن الميتافيزيقا ولم تنفصل عنها، ولا  عن الميثولوجيا. فما الذي يميز إذن الفلسفة عن هذا الفكر السابق تاريخيا وعن أنماط التفكير الأخرى؟

   يجيبنا العروي: إن التمييز يوجد على مستوى المنهج، الميثولوجيا لها منهج، حاول ليفي ستروس وآخرون استنباطه، ويمكن القول، في ذات السياق، أن أنماط التفكير الأخرى اللاحقة من فلسفة  وثيولوجيا وعلم لهما أيضا مناهجهما الخاصة، لكن ما يسجله العروي هو أن هذه المناهج الأربعة تلاقحت وتساكنت، فيما بينها، خلال المرحلة الهلنستية، وها هي اليوم تتلاقح في عصرنا وتتساكن ضداً على تصور “أوغست كونت”، في قانونه حول المراحل الثلاث، القانون الذي يعتبر أن الفكر البشري بدأ ثيولوجيا ثم تحول ميتافيزيقيا وأصبح علميا موضوعيا. يقول العروي في هذا الصدد: “نعيش اليوم عهدا هلنستيا جديداً حيث تتداخل المناهج الأربعة”[6]، الميثولوجيا، الفلسفة، الثيولوجيا والعلم، وبالتالي فمن يتفلسف اليوم يحمل معه آثار الميثولوجيا والثيولوجيا.

    عندما نستحضر، إذن، التاريخ والتتابع الزمني يمكننا نلاحظ مع العروي أمرين إثنين: الأول هو التماثل بين المفاهيم والتصورات والمواقف داخل نمطي التفكير الفلسفي والثيولوجي، لكن في حالة العكس، أي عندما نلغي التسلسل الزمني، كأن نقول إن الفلسفة الحديثة إحياء للفلسفة القديمة، والعلم الحديث تولّد عن التأمل اليوناني القديم، متجاوزين “زمنية” العصر الوسيط بكامله، فإن هذا الأمر له ثمن باهظ حسب العروي. يقول في هذا الصدد: “إن الثمن الذي نؤديه على التنكر للسياقات التاريخية باهظ، إذ يجعلنا نتعامى عن التماثل بين الفلسفة وعلم الكلام”[7]. إذا كانت الفلسفة تتساءل: “لماذا الوجود وليس العدم؟”، فإن الثيولوجيا تقرر: “الأمر إما ممكن وإما ضروري”، وهنا يتساءل العروي: “هل هناك تعادل أم لا بين الصيغتين؟”، ويجيب بالقول: “لو كان النظام الجامعي غير ما نعرف، لو كان أكثر انفتاحا على الغير، أكثر تقبلا للجديد، لو فتح باب المنافسة للجميع  لتساوت الحظوظ وظهرت بوضوح المماثلات التي نشير إليه”[8].

   الأمر الثاني هو التساؤل عن مدى امتلاك الفلسفة والثيولوجيا لبنية “ضمنية” واحدة. يقول العروي: “ندرك اليوم أن الفيلسوف المحترف، الذي لا يكف عن الحديث عن وجود بنية ضمنية، إنما يعني في واقع الأمر الانسجام الالهي”[9]، وبالتالي لم يعد بالإمكان، في نظره، إثبات الآراء الفلسفية إثباتا قطعيا مثلها في ذلك مثل الثيولوجيا. يقول في هذا الصدد: “لم يعد في الكون ما يُثبت إثباتا قطعيا مزاعم الفيلسوف و دعاوى المتكلم. هذا ما رسب في خاطري منذ أن بدأت أطالع كتب الفريقين.. مشددا على المسائل والأدلة، متغافلا عن النتائج والخلاصات”[10]، لأن العروي لا يعتقد أن بمقدور أي إنسان كان النجاح في إلزام الحقيقة المطلقة كي تتجلى أمامه، كل ما يمكن أن ينكشف أمامنا هو حقيقة نسبية مشتركة، متوافق حولها، تمكننا من العيش المشترك، لأننا نتكلم عن الحياة في المجتمع، وهذه الحقيقة، الموضوعية لا المطلقة، هي، بكل واقعية وتواضع، أقصى ما يمكن للإنسان تحقيقه، ولهذا السبب لم يرفع لا راية الفلسفة ولا الثيولوجيا، بل اكتفى بالتاريخانية، لأنه يعتبر أن ليس بالإمكان، في زمننا هذا وفي مكاننا هذا، أن نعطي جوابا فلسفيا، كل ما يمكننا قوله هو أننا نحاول أن نقف موقفا فلسفيا من قضية ما، وهو بالضرورة موقف تاريخاني، إلا إذا اختار الانسان أن ينفصل عن الزمان والمكان، وهذا الانفصال هو الذي جعله يقول: “لا فيلسوف ولا متكلم ولا شاعر، أبدا، على رأس الدولة، كلما وأينما حصل ذلك عمّت الفوضى والخراب”[11]. ولا داعي للتذكير أن هذا الأمر لا علاقة له بضرورة وأهمية التكوين الفلسفي، الذي يرى العروي أنه من “العبث إنكار حاجتنا وحاجة كل مثقف إليه”[12].

 ____________________

[1] : عبد الله العروي، ” السنة والإصلاح”، المركز الثقافي العربية، الطبعة الأولى.2008، ص.6.

[2] : عبد الله العروي، م.س.ص.13.

[3] : عبد الله العروي، م.س.ص.33.

[4] : عبد الله العروي، م.س.ص.33.

[5] : عبد الله العروي، ” نقد المفاهيم”، المركز الثقافي للكتاب، الطبعة الأولى، 2018. ص.20.

[6] : عبد الله العروي، “السنة والإصلاح”، م س. ص.18.

[7] : عبد الله العروي، م.س.ص.28.

[8] : عبد الله العروي، م.س.ص. ص.30

[9] :حوار مع عبد الله العروي، مجلة “إيكونوميا”، العدد: 4، أكتوبر 2008، ص. 121-134

[10] : عبد الله العروي، م س. ص.31.

[11] : عبد الله العروي، م.س.ص. ص.7.

[12] : بنسالم حميش، “معهم حيث هم”، بيت الحكمة، 1988، ص.26.

Visited 16 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

حسن زهير

باحث وكاتب مغربي