“الجسَد في الثّقافة العربيّة”.. إشكاليّات الجَسَد والرُّوح والمُقدّس والمُدنّس
د. محمّد محمّد خطابي
الكاتبة اللبنانية سهير شعلان أبو زيد في بحثها :”الجسد في الثّقافة العربيّة أو الجسد في كتابات الشاعريْن السوري أدونيس والمغربي محمد بنّيس” وهو (مقتطف من رسالة ماستر بعنوان الفينومينولوجيا في ثنائيّة الرّوح والجسد – أدونيس وبنّيس نموذجان) تتحفنا في عرضها الموفي الرّزين، الخالي من المحاباة، والمصانعة، والمجاملة، والإطراء، والمديح، الحافل بالغِنى والثّراء، فضلاً عن تميّزه بالشجاعة، والجرأة، والحصافة، والفصاحة، والصّراحة في معالجة هذا الموضوع الشائك.
تقول الكاتبة في مستهلّ معالجتها لهذا الموضوع المثير: “يثير مفهوم الجسد في الكثير من الحضارات الإنسانيّة الكثيرمن الأسئلة والإشكاليّات التي يمكن أن تعنى بقراءة الواقع الاجتماعيّ، والسّياسيّ، والاقتصاديّ، والثقافيّ لتلك الحضارات. فلطاما كان “الجسد معطىً اجتماعيًّا، ومكان استثمار، سواء أكان جسد الطّبيعة، أو جسد المجتمع، أو جسد الفرد (…) هذا الجسد، الذّي وقعت محاصرته، وحسبان حركته في المكان والزّمان، بخطوط الطّول والعرض، والاستدارة والوزن والكتلة، بغية مراقبته وإخضاعه، إنّه موقع المعرفة والرّغبة والمصلحة. فلا بدّ أن يكون محلّ نزاع وصراع”.
وتأكيداً، وإحقاقاً، ومصداقاً لبعض النظريات، أو المقاييس، أو المعايير النقدية ، أقول إنّ الناقد الفرنسي “ستيفان مَالاَرْمِيه” كان يرى: “أنّ أعظم أنواع الإبداع هو الذي لا يرقى إليه الفهمُ سوى بضربٍ باهظٍ من الذّكاء، والصّبر، والتبصّر، والمثابرة، والمعاناة، والمكابدة”، والعمل الأدبي الجيّد (وفى هذه الحالة البحث الأدبي) هو حوارٌ مع الكون، ومناوشة دائمة له، واستكناه لما وراءه. وتلك عملية صعبة ومركّبة تنطوى على مجازفة خطيرة لأنّها بداية مواجهة، واحتراق وكيّ، في تناوش، وتشاكس، وديمومة متجدّدة. فالمبدع الحقّ (أو الباحث الحثيث) دائمُ المقاومة والتحدّي، شديدُ المراس، لا يُؤخذ جانبُه بسهولة ويُسر. والإبداع (أوالبحث) ليس قصراً على التذوّق الفنّي، أو الإحساس المُرهف، أو التسامر أو الإنطواء أو الانتماء وحسب، بل هو مواجهة صريحة للواقع وللتاريخ، واستكناه لخباياهما، واستجلاء لغوامضهما، ومعانقة للآمال والآلام من أيّ نوعٍ كانت.
والمبدع الحقيقي (أو الباحث المُجِدّ) لا يحيد أبداً عن رغباته، وهواجسه، وهَوَسِه الإبداعي شعراً كان أم نثراً أم تشكيلاً أو بحثاً. إنّه كلّما ازداد علماً بعالمه المادّي (في هذه الحالة الجسد) ، كلّما تعرّف أكثر على مدى ضآلته وصغره في الكون. وعظمة وجلال كلّ ما لا نعرف عنه شيئاً، ولا نجرؤ على التفكير فيه، أو الخوض في غماره. إنّه لمن العبث أن نجد الحلول الجاهزة للأدب الذي أصبح بمنأىَ عن الدّور الذي كان يضطلع به في العالم الإغريقي، واللاّتيني، والعربيّ القديم، إذ أنّ الأدب على أيامنا فقد إحدى خاصّياته الأساسية وهي الشّمول، وأصبح أكثرَ تجزيئاً وتشظياً . وتقليصاً ومحليّة، فالكوميديا الإلهية “لأليجيري دانتي ” (المستوحاة من رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي) كانت تسعى إلى إقامة نظرة كونية منطقية متكاملة، شاملة. كان “دانتي” يريد أن يقول كلّ شيء في ملحمته. وكان الكاتب الأرجنتيني”خورخي لويس بورخيس” ومعه عميد أدبنا العربي الدكتور طه حسين يُعربان عن ارتياحهما وانشراحهما عند ما يعثران على بيتٍ واحدٍ من الشّعر الجيّد الجدير بالقراءة في عملٍ مّا، فطه حسين لا يتورّع من القول ليذكّرنا أنّ بيتاً واحداً من قصيدة أبي تمّام الطائي في فتح عمورية خير من قصيدة طويلة كتبها الشاعر أحمد شوقي في مدح أتا تورك حيث كان أمير الشعراء ينهك نفسه، ويلهث وراء البحث عن القوافي المناسبة لقصيدته بعناء وتصنّع واضحيْن. كانت باكورة أعمال بورخيس الإبداعية بعنوان”الألف” تعبيراً عن إعجابه بالتراث العربي، وهيامه بلغة الضّاد. وكان النقاد لا يفهمون، ولا يدركون ما ذا كان يريد قولَه أوإبلاغَه حقيقة للناس، وكانوا يعتبرون كلامَه غامضاً مبهماً غيرَ واضح، ويذكّرنا هذا في ذات الوقت بما كان يحدث مع شاعرنا العربي الكبير أبي تمّام الطّائي الآنف الذكرالذي كان يُعابُ عليه هو الآخر أنّه كان يقول كلاماً لا يُفهم، حيث كان الناس (القرّاء) يقولون له: لماذا تقول ما لا يُفهم..؟ وكان يجيب بكلّ بساطة : ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟!
الأستاذة سهير شعلان أبو زيد قالت لنا في هذا المقال المُثري كلاماً مفهوماً، واضحاً، وصريحاً غيرّ مُبهم، غيرغامض، وغير ملتوٍ عن مفهوم الجسد في الكثير من الحضارات الإنسانيّة وبشكل خاص في المجتمع العربي الإسلامي، وعالجت بمهارة فائقة غيرَ قليلٍ من الإشكاليّات، والإكراهات، والتساؤلات التي يمكن أن تُعنى بقراءة الواقع الاجتماعيّ، والسّياسيّ، والاقتصاديّ، والثقافيّ لتلك الحضارات. ولقد تطرّقت فى معظم مداخلاتها، وتصريحاتها، وتحليلاتها القيّمة لمواضيع ليست هيّنة ولا يسيرة، وجاء طرحها بمثابة عملياتٍ استكناهية تصبّ في الأساس في الخلق، والعطاء، والبحث، والمثابرة، والإبداع، والنقد الهادف الواعي الملتزم، بكلّ ما تعنيه هذه الكلمات من معانٍ وتكتسيه من مسؤوليات أدبية جسيمة حيال النصوص الإبداعية الشعرية في هذه الحالة التي نقرأها، ونتفحّصها، ونستكنه، ونستغور، ونسستبطن أبعادها، ومراميها، وأغوارها وجماليتها، ومضامينها التي لها صلات وثقى لا انفصام لها بالجسد والرّوح، والمقدّس والمدنّس متخذةً من تجربتيْ الشاعريْن المعاصريْن الصديقيْن السّوري علي أحمد سعيد إسبر المعروف باسمه المستعار أدونيس، والمغربي محمد بنّيس نموذجاً لبحثها في هذا المضمار.
تختم الكاتبة بحثها المُوفي والضافي المفيد فتتساءل وتقول: “إذا كنّا قد انطلقنا من هذه الخلفيّة التّاريخيّة، والدّينيّة، والاجتماعيّة، والنّفسيّة، لمعرفة موقع الجسد من المقدّس والمدنّس في الثقافة العربيّة، فإننّا سنحاول أن نتبيّن من خلال تاريخنيّة الثّنائيّة الوجوديّة، الغربة التي تعيشها الذّات بسبب تذبذب العلاقة بين التّاريخ والرّاهن، بين المحرّم والمقدّس، بين الرّوح والجسد، في الدّائرة التي تمّ بموجبها تحديد وإقرار الجسد وتنظيمه ورسم حدود تخومه، والتي دعت إلى التّخلّي عن انتمائه “كملكيّه خاصّة”، وسلّمته إلى النّظام الفكريّ، والدّينيّ، والسّياسيّ، والاجتماعيّ. فكيف تجلّت تجربة الوجود في ظلّ ثنائيّة الرّوح والجسد؟ وكيف تبدّت تحوّلاتها التّاريخيّة؟ وإلى أيّ مدىً أثّرت في غياب وعي الذّات لذّاتها؟” لا غرو، ولا عجب إذن فهي الناقدة الحصيفة، والقارئة المتبصّرة، والمثقفة الحصيفة التي تُمتعنا، وتُبهرنا كلّ يوم بدراساتها الرصينة الرائعة، وقراءاتها النقدية اللاّمعة، بارك اللهُ فى معينها، وزكّى حِبرَها،