التاريخ الصغير

التاريخ الصغير

الحبيب الدائم ربي
 

    تطرح كتابة التاريخ، لدى الشعوب ذات التقاليد الشفوية،أو شبه الشفوية،  إشكالات حقيقية، سيما وأن صدى الوقائع والأخبار  يظل رهين ذاكرة الأشخاص الآيلين إلى زوال، في غياب توثيق شامل وممأسس يصون الإرث المشترك للجماعة. وحتى حين تتوفر بعض المستندات، المخطوطة أو المكتوبة، فإنها تبقى قليلة ومتفرقة يصعب الوصول إليها، مادامت مخزّنة لدى أسر وأفراد باعتبارها ملكية خاصة لا يحق لأحد الانتفاع بها. من ثم فقد شكلت الكتابات الكولونيالية، على علاتها، مرجعا معتبرا في فهم ما جرى، في المستعمرات، وفي إعادة كتابته. إلا أن الاعتماد على هذه الكتابات وحدها من شأنه أن ينمّط تاريخ المستعمرات وفق نظرة استشراقية، ويجعله بالتالي “صناعة” تخالِفُ الواقعَ كما يُفترض  أنه كان. هذا إلى جانب كون كتابة التاريخ لم تعد حكرا على المؤرخين الأكاديمين وحدهم، كشأن مفهوم الوثيقة الذي لم يعد مقتصرا على ما كتبه المؤرخون وحدهم، وإنما تعدى ذلك إلى مختلف الأسناد المكتوبة والمرئية والمسموعة والشفوية. من هذا المنطلق باتت الكتابة التاريخية في حاجة إلى روافد محلية وجهوية توثق لـ”التاريخ الصغير” وتبرز الخصوصيات التي تنماز بها المجالات السكانية والثقافية، في تنوعها، ضمن خارطة “التاريخ الكبير”. ولسد هذا الفراغ الكبير انبرى عدد من الكتاب، على اختلاف توجهاتهم وتخصصاتهم، إلى رصد تواريخ وأخبار مناطقهم في مونوغرافيات وحوليات تكشف مدى  الغنى الثقافي والاجتماعي لبيئاتهم الخاصة. فالعناية بالشأن المحلي- في زمن العولمة ـ أضحت رهانا أساسيا للسعي إلى إبراز دور الجهات والأقاليم في تنمية الرأسمال المادي والرمزي للأمم والشعوب. وما عبقرية الأوطان ـ في النهاية ـ إلا خلاصات للعبقريات الفردية والجماعية المكونة لنسيجها الكلي والعام. لأن ذاك البحر ليس سوى جماع هذه الجداول والأنهار التي تصب فيه. وقطرة فقطرة يفيض النهر والبحر.
   إن الالتفات إلى المحيط والبيئة ـ هنا ـ لايمليه ترف فكري، أو نزعة شوفينية منغلقة، بل هو رصد للذات وموقعتها ضمن التاريخ والجغرافيا والمجتمع والثقافة، لتنخرط، بشكل واع، في السيرورة المتجددة للحياة وحراكها الذي لا يفتر. والمسألة في جوهرها محاولة لتطبيع الثقافة مع الكائن والمكان أينما كانا، خدمة للكائن والمكان والوطن في آن.
  فعن هذا الهمّ أصدرنا كتابينا ” مدينة سيدي بنور: الإنسان التاريخ والمجال”، سنة 2006، و”الكتابة والإبداع بمنطقة دكالة”. سنة2009 . إذ جعلنا من مدينة سيدي بنور ومحيطها، في الكتاب الأول،  موضوع دراسة هدفت إلى جعل القارئ يعيد اكتشاف ما تزخر به هذه الناحية من مقدّرات وطاقات طبيعية وبشرية، فتطرقنا إلى التاريخ البعيد والقريب والتنويع الجغرافي والتضاريسي، والممكنات الثقافية  والعادات والتقاليد وأمور أخرى كثيرة. فيما ارتأينا جعل “الكتابة والإبداع في منطقة دكالة” موضوعا للكتاب الثاني. بحيث اعتبرنا الكتابة ليست حكرا على الشعر والنثر وحسب وإنما كل التمظهرات الثقافية والفكرية الأخرى من رسم ونحت وموسيقى وصحافة وتربية وما سواها. ولم نكن نعني بكتاب المنطقة أولئك الذين ولدوا بها وحدهم بل كل المقيمين والوافدين والعابرين الذين أثروا بمساهماتهم مجال دكالة الفسيح. إنه جرد شامل لسير أكثر من مائتي  كاتب ومبدع وتراجمهم وآثارهم المكتوبة في مختلف الفنون والمعارف كالأدب والنقد والتاريخ والقانون والإدارة والتربية والتشكيل والصحافة. وغيرها.وكما يتضمن المؤلَّف عروضا تعريفية بالكتّاب وقوائم إصداراتهم  يؤثث التراجم بالصور الشخصية والشذرات المستقطعة من كلامهم ليختم بأرقام هواتفهم وبريدهم الإليكتروني. إنه مساهمة لتجلية ما تزخر به منطقة دكالة من طاقات بشرية ساهمت وتساهم في إغناء الرأسمال الرمزي الجهوي والوطني بكتاباتها في محاتد متنوعة على مدار العصور.
   والكتابان معا  يقدمان، من جهة،  شقا معرفيا يستجيب لانتظارات المتلقين ويسد فراغات كبيرة ما تزال تعاني منها تواريخنا المحلية والوطنية، ومن جهة أخرى، شقا وظيفيا من شأنه تزويدهم، في الكتابين معا، بعناوين وهواتف ومعطيات قد يحتاج إليها من أخل خدمة أو الاتصال بمصالح أو أشخاص.
  والواقع أن التفكير، مجرد التفكير، في إصدار كتاب من هذا النوع هو ضرب من المغامرة والمجازفة المعرّضة للانتقاد، وأن خطوات تنفيذه لن تكون مفروشة بالسجاد. فما عدا الطموح الشخصي الجارف  يظل الزاد الوثائقي نادرا كما يظل  الوصول إلى هذا الزاد، على قلته، أقرب إلى المستحيل. علما بأن أية مبادرة في هذا الاتجاه تظل مهمة ومفيدة بغض النظر عما قد يوجَّه إليها من طعون ومؤاخذات مثبطة. ليست اللامبالاة أولها وليس الاعتراض آخرها. وهذا ما حصل معي شخصيا، فباستثناء التجاوب الإيجابي للقراء، على مستوى الجهة، فإن الدوائر المسؤولة عن الشأن الثقافي المحلي لم تحرك ساكنا في تلقي العملين المذكورين ولو أنها كانت توظفهما باستمرار لكل غاية مفيدة.
    ولأن الكتابة عن الشأن المحلي هو ، في الواقع، اقتراب أكثر لمركز الحساسيات فإن المآخذ عليها تكون أكثر. لاعتبارات غير موضوعية في الغالب. لعل منها  الطعن، مثلا، في انتساب الكاتب إلى المنطقة ومدى كونه مخولا للحديث عنها، وكأن الانتساب شرط من شروط الكتابة. أما أن يتم ذكر واقعة لا تروق فاعليها أو أن  يقع سهو أو عدم ذكر شيئ لأمرما فإن سهام النقد قد تكون جارحة وإن كانت غير معلنة.
بيْد أن كتابة التاريخ المحلي ليست مجرد نزوة أو رغبة في نيل ثناء من جهة مخصوصة وإنما هو استجابة لانشغال ذاتي يرى أن كتابة تاريخنا الكبير لابد أن تمر حتما من كتابة تاريخنا الصغير الممثل في التاريخ المحلي والجهوي.

Visited 22 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة