الباحثة شورة مكرمي: المجتمع الإيراني غير مستعد للانخراط في العنف
ريم ياسين
نص مقابلة مع شورة مكرمي الباحثة في علم الأنتروبولوجيا ومديرة أبحاث في جامعة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس، بعنوان “المجتمع الإيراني يشير للدولة أنه غير مستعد لينخرط في لعبة العنف”.
تمثل زينب كزنبور الصورة الأخيرة لنضال الإيرانيين، وخاصة النساء منهم ضد النظام الإسلامي. فقد ظهرت هذه المهندسة في فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي وهي ترمي حجابها على الأرض، لأن منظمة مهندسين للبناء في طهران رفضت ترشحها بسبب مواقفها ضد الحجاب الإجباري. نحن نعرف جرأة النساء الإيرانيات وإيماءاتهم القوية للاعتراض ضد قانون الملالي منذ بداية التظاهرات. ولكننا نشعر أن هناك تغييرا ما. فزينب كزنبور خرجت من القاعة تحت التصفيق. صحيح أن المتظاهرين تركوا الشوارع هذه الأيام في إيران، ولكن شعورهم بالغضب وتصميمهم لم يضعف. فنحن نرى في طهران نساء غير محجبات، وفي أصفهان إضراب عمال، ورسوما على الجدران تذكر بجرائم النظام. فقد انقطع قسم كبير من المجتمع الإيراني نهائيا عن السلطة، التي تغرق أكثر في القمع السياسي والإدارة الاقتصادية الكارثية. ولن يتراجع الغضب بعد حالات التسمم بالغاز التي حصلت في عدة مدارس للفتيات في كافة أنحاء البلاد.
هل هذا يكفي لتهتز الجمهورية الإسلامية التي تحكم البلاد منذ 40 عام؟
بالنسبة للباحثة في علم الأنتروبولوجيا ومديرة أبحاث في جامعة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس، شورة مكرمي: “هذا النظام حافظ على وجوده بفرض السكوت والخضوع، ولكن إرادة التغيير أصبحت أقوى الآن، حتى أن الخوف لم يعد مهابا. فما أن تخرج النساء من السجن، حتى تظهرن بدون حجاب صارخات: “امرأة، حياة، حرية”.
سؤال: أين هي حركة الاعتراض ضد الجمهورية الإسلامية؟
– بعد مرحلة التمرد في الخريف، انكفأت الحركة بسبب القمع الوحشي: فقد نفذت عدة إعدامات للمتظاهرين، وآلاف من الاعتقالات، واختفاء أعداد كبيرة من المتظاهرين. لم يحصل ذلك منذ ثمانينات القرن الماضي. ولا ننسى الرد العسكري في كردستان وبلوتشيستان. نعم هناك تراجع، ولكنه إستراتيجي. فالمجتمع الإيراني يثبت أنه لا يريد المواجهة مع الدولة، وأنه ليس مستعدا ليلعب لعبة العنف والمزايدة. بالرغم من ذلك، إن الغضب ما زال موجودا، والاعتراض يأخذ أشكالا أخرى. فمراسم العزاء يوم أربعينية تصفية شابين جرى إعدامهما في 7 يناير 2023، شهدت مظاهرات غير معلن عنها، مشحونة بتعاطف كبير مع ضحايا القمع. والأسباب الاقتصادية لهذا التمرد ما تزال موجودة، والاعتراض كذلك، ولو بصوت خافت. ويمكن أن يستعاد بسرعة في مناسبات معينة، مثل أعياد النيروز، وهو عيد رأس السنة الإيراني في واحد 21 مارس. جميع العناصر موجودة لتتحول إلى حركة اعتراضية، ولكن قوات السلطة القمعية تتحضر أيضا.
سؤال: ما هو تحليلك للعفو العام عن آلاف المساجين الذي صدر في الأول من فبراير الأخير بمناسبة بعيد الجمهورية الإسلامية؟
– يجب علينا مقاربة هذا العفو العام عبر القمع الذي مارسته السلطة منذ شهر سبتمبر. فالعفو العام والقمع هما العنصران الأساسيان لوصفة حكم الجمهورية الإسلامية الذي يستعمل القسوة والعطف معا. فالدولة لا تحكم فقط بواسطة العنف، بل بنوع من الممارسات غير الأخلاقية التي اعتادت عليها. فمن ناحية، يعلن المرشد الأعلى العفو العام عن جميع المساجين، ما عدا المتهمين بارتكاب العنف المسلح. وهو خطاب “العدو الداخلي” الذي استند على اعترافات انتزعت بالقوة من معتقلين أو محكومين بالإعدام. هذا هدفه إثبات أن العنف يأتي من المتظاهرين. ومن ناحية ثانيه، هذا يجعل المساجين مسؤولين أيضا عن درجة القمع ضد المتظاهرين، وكذلك عن الجو العام للعنف السياسي. لا يجب أن ننسى أن العفو العام مشروط بإمضاء “رسالة ندم” والتخلي عن أي نشاط سياسي من قبل المسجون. فالجمهورية الإسلامية استطاعت أن تحكم كل هذا الوقت بواسطة صناعة الصمت والموافقة، وأشكال عدة من الخضوع. وقد شيدت نظاما من القيم جعل من الحذر قيمة إيجابية، ومن العناد قيمة سلبية.
سؤال: هل هذه الإستراتيجية ما زالت تعمل الآن؟
– ليس تماما. فنحن نتابع على مواقع التواصل الاجتماعي نساءً سجينات يخلعن حجابهن ما أن يغادرن السجن ويهتفن: “إمرأة.. حياة.. حرية”، وهذه الحركة تدل على تصميم النساء ومحافظتهن على ثقافة الاعتراض. فالنظام قام منذ الثمانينات بإجبار الإيرانيين على عدم الاهتمام بعائلات المحكومين بالإعدام. ومن كانوا يظهرون تضامنهم، كانوا يتعرضون للمشاكل. اختلف الأمر هذه الأيام. فالشعور بالتعاطف أصبح مزروعا عند كافة الناس، وامتد عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فالجملة التي قالها المحكوم بالإعدام محمد كريمي لوالده عندما علم الحكم الصادر بحقه: “لا تقل ذلك لأمي”.. انغرست في وجدان الإيرانيين. فتداولوها متدخلين في الحياة الخاصة لهذه العائلة، وكتبوا بعد إعدامه جملة: “أمي أصبحت على علم”. مما يؤكد أن سياسة جديدة من التعلق العاطفي كنهج لمقاومة التفرقة وعدم الاهتمام.
شعار “امرأة.. حياة.. حرية” هو شعار يحمل في طياته تغييرا جذريا. هناك تداول بشعارات أخرى حول نهاية خامنئي، وهذا بحد ذاته جديد بالنسبة لـ”الحركة الخضراء” في سنة 2009، وحتى بالنسبة لمظاهرات 2019. فالإيرانيون يعبرون بشكل واضح عن إرادتهم بتغيير النظام، خاصة عبر أعمال يرفضون فيها الخضوع. وهذا المطلب الذي يعبر عنه الشارع وجد صداه على المستوى السياسي. فقد وقع ميثاق بين 20 منظمات نقابية ومن المجتمع المدني في إيران، يحمل مطالبة ديمقراطية كبيرة بتنظيم انتخابات حرة، وبفصل الدين عن الدولة، وبالمساواة بين الرجل والمرأة. هذه المطالب الاجتماعية والتقدمية، ومن بينها الاعتراف بالأقليات الاثنية الوطنية، تشكل أول حجر بناء لصوت موحد في مجتمع يعتبر فيه أي شكل من أشكال التنظيم خطا أحمر: فما أن تتنظم المعارضة حتى يبدأ القمع, وهذا يعرفه الإيرانيون جيدا. فالسيد حسين الموساوي زعيم الحركة الخضراء سنة 2009، وهو في إقامة جبرية مراقبة منذ 13 سنة، انضم إلى الحركة الاعتراضية قائلا إنه لا يمكن أن يحصل أي تغيير داخل الإطار الدستوري للجمهورية الإسلامية. قبل ذلك، لم يتجاوز التغييريون هذا الخط أبدا. المجتمع المدني بحالة غليان وإرادة التغيير لن تتوقف.
سؤال: هل نستطيع قياس التزام الشعب الإيراني بمبادئ الميثاق من أجل الديمقراطية؟
– لا يعرف أحد بماذا يفكر الإيرانيون. يتكون الرأي العام عادة من خلال استفتاء، وهذا يحدث عندما يكون هناك موضوع يتعلق بالحكم. إن التعتيم على الرأي العام هو وسيلة تستخدمها أنظمة الحكم في المجتمعات القمعية. بالنسبة للنظام الإيراني، الرأي العام يتشكل من آلاف الإيرانيين الذين نزلوا إلى الشارع في 11 فبراير للاحتفال بالعيد44 للجمهورية الإسلامية. ولكن هذا لم يعد يخدع أحدا. فمن الواضح أن محاولة النظام لبناء مجتمع متجانس لم تنجح، وأن الموضوع السياسي الجديد الذي كان يجب أن ينشأ من الثورة الإسلامية لم يحصل. على العكس، فإن أكثرية الشباب الذين نشأوا في ظل هذا النظام لا يرون أنفسهم من خلاله. وقد أصبح هذا التمزق مرئيا في ذروته عبر مقاطع الفيديو العادية جدا، التي تعكس الحياة اليومية للشباب الذين قتلوا أو أعدمو. هذه المقاطع الصغيرة من أرشيف الحياة المهدورة التي تشير إلى شبان يرقصون ويغنون، تحمل في معانيها قوة كبيرة، فهي تجسد الرفض الجذري وفشل مشروع الجمهورية الإسلامية.
سؤال: كيف نستطيع أن نفهم صلة الوصل باين أفعال المقاومة المعزولة وعامة الشعب؟
– بالنسبة للنساء، نزع الحجاب هو فعل إستراتيجي من المقاومة السياسية، لأن الحجاب هو عمود من أعمدة النظام، وهو يساعد في إظهار العداوة له عبر تصرف شخصي. فمثلا بعد القمع الكبير الذي تعرضت له الحركات النسائية في أواخر سنوات 2000، انتقلت الحركات الاحتجاجية وأصبحت أكثر فردية. وبعد فشل جميع المطالب الجماعية للإصلاحات، شاهدنا نقلة نوعية نحو معارضة جذرية للجمهورية الإسلامية، مع حركة “فتيات شارع الثورة”، عندما قامت امرأة منفردة بنزع حجابها والتلويح به بواسطة عصا أمام حشد في الخارج. وقد استعيدت هذه الحركة من عشرات من النساء. أصبحت هذه الأفعال أدوات للمقاومة الجماعية، خاصة عند عرضها كمقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي من عدة ملايين من الأشخاص. وقد رأينا أيضا هذه الأفعال في المظاهرات منذ شهر سبتمبر الماضي. هذا الأداء لم يعد معزولا، بل أصبح يشكل لحظات تساهم في تكوين الـ “نحن” الجماعية، عبر استعمال التصفيق وأبواق السيارات وصراخات التشجيع.
سؤال: هناك حملات تسعى أن تجعل من ابن الشاه السابق وجها من وجوه المعارضة، هل من الممكن حصول عودة للنظام الملكي؟
– إن الوسائل الإعلامية الإيرانية في الخارج، مثل “مانو تو” تعمل منذ عشرات السنين على الحفاظ على شعور بالحنين لفترة حكم الشاه، وهي فكرة عن عصر ذهبي ضائع. ولا نستطيع أن نعرف مدى الاهتمام الحقيقي للإيرانيين بابن الشاه.
هناك فجوة كبيرة بين الذين يحملون في الداخل مطالب اجتماعية واثنية ومساواة بين الجنسين، وبين ما يبنى في الخارج كبديل، وهو يمثل موقفا أكثر قومية ونيوليبرالية يجسده رضا بهلوي. ترتبط هذه الفجوة بواقع الشتات الإيراني في الخارج، الذي بأكثريته ترك إيران بعد ثورة 1979، ومن يملكون رؤوس الأموال وعلاقتهم وثيقة بالنخبة في النظام السابق.
وأخيرا هناك الصدمة التي أحدثتها ثورة 1979، والخطأ بالتقييم الذي حصل حول صورة الخميني، الذي اعتبر إنسانا متدينا، حكيما، ولكنه أظهر بعد ذلك وجهه الحقيقي. هذه الذاكرة تجعلنا غير واثقين باحتمال تحالف حقيقي حول مشروع سياسي غير متوافق عليه…
<
p style=”text-align: left;”>(عن صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية ، عدد يوم السبت 4 مارس 2023)