الرحلة المغربية: رحلة في رحاب الفكر والإبداع للتونسي حسونة المصباحي
الياس الطريبق
أجمل ما في الأدب قدرته الخارقة على السفر بنا وتخطي الحدود والحواجز، وإتاحة إمكانية الإقامة في ثقافات الآخرين والتواصل معهم. وهذا ما تفعله الرحلة أيضا، فهي اختراق وعبور نحو الآخر عبر مختلف تجلياته الإنسانية. لكن أن تكون الرحلة بمعناها السّفري سوى مطية لبلوغ غايات أخرى، فذلك ما نجده في كتابه الأخير الصادر عن (منشورات باب الحكمة بتطوان 2022) بعنوان “الرحلة المغربية” للكاتب والروائي والتونسي حسونة المصباحي. كتاب هو في الحقيقة رحلة في رحاب الفكر وفي نسيج الثقافة والفن والموسيقى والسياسة والسينما والإبداع بشتى جنسياته ومشاتله. هذا هو حسونة المصباحي، شغوف بالتنوع، بالموسيقى، بالأدب، بالمعرفة الموسوعية العالمية، فضلا عن كونه من كبار المثقفين التونسيين الذين ربطتهم صداقة مبكرة ومتينة مع الفكر والإبداع المغربيين.
المثقف التونسي والمغرب
للثقافة القدرة المستمرة على خلق أشكال التواصل والائتلاف مع الآخر، من خلال أنساقها المختلفة مثل الفكر والأدب والشعر والموسيقى حيث يلعب المثقف النزيه دوره المنوط به في تقريب وجهات النظر والدعوة إلى الوحدة والتآخي ضدا في السياسي والا أخلاقي.
ويعد حسونة المصباحي من المثقفين المغاربيين البارزين الذين كونوا صداقة فكرية وثقافية عميقة مع المغرب منذ مطلع الثمانينيات. يقول عن رحلته الأولى قادما إليه من باريس: “وفي أوائل شهر حزيران- يونيو (1981) وصلت إلى الدار البيضاء… وخلال الأسبوعين اللذين قضيتهما هناك، التقيت بالعديد من الكتاب والشعراء أمثال عبد اللطيف اللعبي الخارج للتو من السجن، وعبد الكريم غلاب، وعبد الجبار السحيمي، ومحمد برادة الذي كان آنذاك رئيسا لاتحاد كتاب المغرب، والمسرحي الطيب الصديقي… تلك الرحلة ألهبت شوقي لزيارة المغرب… وما كان يعنيني هو الالتقاء بالفنانين والكتاب والشعراء في مختلف المدن المغربية إذ أنني شعرت أن تلك اللقاءات تفتح آفاقا واسعة أمامي… وفي كل مرة أزور فيها المغرب، أشعر أنني لم أعد أطير بجناح تونسي فقط، بل بجناح آخر هو الجناح المغربي…” (ص-16-17)
يحمل هذا الكلام دلالات عديدة ومتنوعة، فهو كلام يؤشر على تاريخ الرحلة أي تاريخ السفر والاتصال المباشر مع المغرب إذ يعود إلى أول الثمانينيات، وهو تاريخ مبكر نوعا ما، كما يدل على المقصدية من وراء السفر وهي الاتصال مع الكتاب والشعراء المغاربة أمثال عبد اللطيف اللعبي الشاعر الكاتب باللغة الفرنسية والمناضل اليساري وعبد الكريم غلاب الزعيم الوطني والاستقلالي المفعم بروح الوطنية، ومحمد برادة أحد أبرز النقاد المعاصرين والكاتب الروائي الطليعي بالإضافة إلى رائد الفن المسرحي المغربي الطيب الصديقي. أسماء تعكس حداثة المغرب ونخبته الثقافية المعاصرة، فحسونة المصباحي كان واعيا بنوعية الاتصال وحريصا على الانتقاء، وذلك ليوسع الآفاق أمامه و يزود نفسه بجناح إضافي هو الجناح المغربي فيطير عاليا.
صحبة محمد شكري
كان شكري ولا يزال حارس طنجة وأسطورتها الأدبية، والزائر لطنجة عليه بشكري، والزائر لشكري عليه بطنجة. يقول حسونة المصباحي عن صداقته لشكري: “بعد وفاة محمد شكري في الخامس عشر من شهر نوفمبر- تشرين الثاني 2003، لم أعد أرغب في زيارة طنجة. وحين أفعل ذلك أشعر كما لو أنها فقدت برحيله خفّتها وظرافة روحها، وروعة أجوائها الليلية بالخصوص. لذا أسارع بمغادرتها موجَع القلب” (ص.19) أما عن اللقاء الذي كان يتم مثل أغلب لقاءات الصداقة العميقة؛ في عفوية وتلقائية ودون تخطيط مسبق، يقول: “ترسو الباخرة في مدينة طنجة عند طلوع النهار فأركب التاكسي حال إتمام إجراءات الدخول ليأخذني إلى شارع “تولستوي” الذي سيصبح شارع “البحتري” حيث العمارة التي يقيم فيها محمد شكري… أصعد درجات الطوابق الخمس، وأطرق الباب البني بينما نبضات قلبي تتعالى من خلف عضلات صدري قوية متسارعة… ينبح الكلب جوبا فينهره شكري بحدة، وبلغة أبناء الشوارع الخلفية في لندن:
Shut the fuck up ثم يفتح الباب”. (ص. 18)
في الصفحات التالية يسهب حسونة المصباحي في استرجاع ذكرياته مع محمد شكري في شوارع طنجة وعوالمها السحرية من حانات ومطاعم وأزقة وغيرها. والحديث عن أعماله حيث يرسم “صورة بديعة لحياة الهامشيين، والنشالين، والمتشردين، والمدمنين على الحشيش والمخدرات. كما يتحدث عن رومانسية شبان وشابات أوروبا الفارين من حضارة العنف والاستهلاك والتوحش الرأسمالي بحثا عن السكينة والطمأنينة في بلدان لا تزال آنذاك محافظة على شيء من البدائية والفطرية في نمط حياتها” (ص.21)
ولأن محمد شكري كان قد أمضى “عقد زواج كاثوليكي” مع طنجة فإنه كان وفيا لها وفاء خاصا يتردد على حاناتها مثل حانة “النجريسكو” حيث كان يلتقي الكتاب العرب والأجانب مثل بول بولز وتنسي وليامز وجان جنيه ووليام بروز وخوان غويتيصولو وغيرهم من الكتاب الشطاريين الذين امتلأت حياتهم بالمغامرات والمحن لحد ملامسة القاع ومحاولة التنفيس عنها بالكتابة والتسكع والصعلكة والإدمان.
تجربة اليسار في المغرب: عبد القادر الشاوي
يقدم حسونة المصباحي نفسه بلا مواربة مثقفا مخلصا للثقافي ممعنا في الإخلاص للحرية الفكرية والإبداعية متبرما وطاعنا في الإديولوجي، والاديولوجيا التي “تصيب المتعلق بها بالعماء” و”تحول الإنسان المؤدلج إلى قاض يحاكم الآخرين انطلاقا من قناعاته الإديولوجية” وهو يذهب في ذلك إلى أبعد مدى يستطعيه من خلال اطلاعه الواسع على التجربة الشيوعية في العالم مؤكدا بالملموس فشلها انطلاقا من الشيوعيين أنفسهم مثل سيمون لاي (1935- 2014) والمؤرخ الفرنسي فرنسوا فوريه (1927- 1997) الذي كان أشد المدافعين عن الماركسة قبل أن يخضع أفكاره للتشريح وينصت لصوت “اليقظة” ويتحرر من الوهم على حد تعبيره.
وفي المغرب يثني حسونة المصباحي على التجربة اليسارية من خلال الكاتب الروائي عبد القادر الشاوي الذي قضى سنوات طويلة في السجن بسبب انتمائه إلى تنظيم يساري في سنوات السبيعن، التجربة الطويلة التي كتب عنها في جل رواياته “كان وأخواتها” “الساحة الشرفية” حيث اختار الرواية “للتعبير عن هشاشة الكائن و”استكشاف الذات والتوغل في الحياة الداخلية” مصورا سنوات القمع والاستبداد التي عاشها المغرب خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، ومتوغلا في عالمه الذاتي كاشفا عن عيوب وأخطاء وعن “هشاشة بعض اليقينيات” و”تشريح للذات ولتجربة اليسار المغربي الذي دفعت به الأوهام إلى خوض تجربة مريرة دفع ثمنها غاليا”. وإلى جانب عبد القادر الشاوي يتذكر حسونة المصباحي صديقه عمّار منصور وعلال الأزهر وغيرهم.
ويخلص حسونة المصباحي إلى أن تخطيطات اليساريين المغاربة آنذاك كانت تعكس جهلهم بتاريخ بلادهم الذي يؤكد أن الملوك المغاربة قد اكتسبوا على مدى قرون طويلة شرعية لم يكتسبها ملوك العرب الآخرين وفي ذلك يظهر إلمامه بتاريخ المغرب ومعاركه الطويلة ضد الجيشين البرتغالي والإسباني في معركة وادي المخازن الشهيرة.
رموز مغربية خالدة: شخصية الحسن الثاني
يقول عن الحسن الثاني: ” في فندق حسان جلست في الحديقة لينشغل ذهني حتى هبوط الليل بالحسن الثاني، الملك الذي لا نكاد نجد له مثيلا بين ملوك العرب المعاصرين إذا ما نحن قارنّاه بهم اعتمادا على الثقافة، وعلى أسلوب الحكم، وعلى اتساع الرؤية، وعلى المعرفة الواسعة والعميقة بالغرب، وبدساتيره وخفايا سياساته” ص (135). إعجاب واضح ومن خلال نواحي عدة تميزت بها شخصية الثاني: الثقافة، التفرد، أسلوب خاص في الحكم، رؤية واسعة، ومعرفة واسعة بالغرب الآخر المغاير وخفايا سياساته وهو الباني للمغرب الحديث، مغرب ما بعد الاستقلال. يقدمه في صورة جمالية فريدة واصفا إياه بالملك التراجيدي الذي “لا يكاد يختلف عن الملوك في تراجيديات الإغريق، وفي تراجيديات شكسبير”. ص (135). ولعل المصباحي يعزي تفرد الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله إلى عديد المعطيات التاريخية والسياسية في سيرته بدء من “جلوسه على كرسي العرش وهو لا يزال ابن الثانية والثلاثين من عمره”، فرغم صغر سنه “تمكن من تجاوز العقبات الكأداء التي واجهته في البداية” بعدة وفاة والده المغفور له الحسن الثاني رحمه الله في 26 فبراير 1961. مما ساهم في “اكتسابه مبكرا تكوينا صلبا في دراسته وخبرة سياسية متميزة”كحضوره إلى جانب والده قمة أنفا عام 1947 وشهدت حضور زعماء العالم آنذاك كروزفلت وونستون شرشل، وزيارة طنجة التاريخية، ووقوفه إلى جانب الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي ومطالبته باستقلال بلاده واحترام وحدتها الترابية، فضلا عن محنة المنفى و”تعيينه- بعد استقلال المغرب- على رأس القوات المسلحة ليكتسب خبرة عسكرية”.
ولا يقف في معرض إعجابه بالحسن الثاني هذا الموقف فحسب، إذ كان معجبا بما يملك من “برودة دم مدهشة، وقدرة كبيرة على اتخاذ القرارات”، رغم كل المحن التي مر بها رحمه الله، مما بوأه لبناء مغرب جديد، مغرب حداثي، يعيش على وقع ما سماه “اليقظة الكبرى” وذلك في مختلف المجالات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
الرحلة إلى الصحراء المغربية: حلم قديم تحقق
بدأت عبارة عن حلم مشرَعٍ في الريح عندما أفضى بها وهي بمثابة سر إلى الشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف على طاولة مقهى ذات يوم، فتحققت له. وفي الثامن من يوليوز 2021 تقلع الطائرة المتوجهة صوب الداخلة جوهرة الصحراء المغربية. وهو لا يدخلها وحيدا بل يدخلها رفقة “بورخيس” ثم سان جون بيرس مدخلا أنطولوجيا أسطوريا باعتبارها متاهة المتاهات.
وفي الصحراء يستطيع الرحالة أن يقر بأنه سعيد لأنه “منفصل عن كل أمراض وأدران الحضارة الحديثة، عدوة الطبيعة البكر” ص (284) فارا من “واقع تونسي تعفن” على حد قوله، هنا، حيث يشعر بحرية أكبر، إذ كان لا بد أن يعرج على سردية الفارين من جحيم المخيمات والشعارات الزائفة المكلومة ليعودوا إلى أحضان الوطن، فتشرق الحياة في أفئدتهم وأجسادهم من جديد، وكان لا بد من الإتيان على ذكر أعلام الصحراء المغربية ورجالاتها “الشيخ ماء العينين (1828-1910) وحفيده العبادلة ماء العينين ووالده الشيخ محمد الأغظف.
كانت رحلته إلى المدن الصحراوية فرصة لربط القبائل الصحراوية ورؤسائها بجذورهم الوطنية منذ ما قبل الاستعمار الفرنسي والإسباني، وفرصة أيضا لنسف كل المغالطات والأخطاء السياسية التي وقع فيها الصحراويون “مسطحي الثقافة والتكوين” الذين استغلهم هواري بومدين و”إخضاعهم للمشاركة في دسائسه ومؤامراته العدوانية” وإقامة حلم زائف، كما لم يفوت الفرصة للحديث بإعجاب شديد عن “واحد من ألمع مثقفي الصحراء ومن أعمقهم تجربة وخبرة بالتاريخ وبالسياسة شخصية…القطب محمد باهي” الذي قال عنه عبد الرحمن منيف وهي شهادة ينقلها المصباحي: “كان نموذجا فذا لشخصية روائية بالغة الغنى والتعدد… كان ممثلا للجيل الذي ولد بين الحربين العالميتين، وما انطوى عليه ذلك الجيل من أحلام كبيرة وخيبات أكبر. وكان ممثلا لمرحلة تاريخية بالغة الأهمية والتأثير، لما حملته من إمكانيات واحتمالات، وما وعدت به من نتائج” ص (307). هو نفسه الرجل صاحب الرسالة الشهيرة إلى الهواري بومدين “لا تجعلوا من لينين موظفا لدى فرانكو” الذي اقترح عليه أن يكون رئيسا للجمهورية الصحراوية المزعومة، لكن محمد باهي كان له رأي آخر حيث رد موضحا بكل رصانة وهدوء أن “الصحراء مغربية أو لا تكون” إذ نزع عن النظام الجزائري المتربص وعن أي نظام آخر مشروعية التدخل في القضية، “لأن التاريخ بكل حقائقه وتفاصيله يثبت ذلك بالأدلة القاطعة، وأن تأسيس بوليساريو لن يخدم مصالح أهالي الصحراء، بل يلحق بهم أضرارا فادحة إذ أنه سيفصلهم عن الوطن الأم ليكونوا في نهاية المطاف بلا حماية وبلا سند” ص(303).
وعموما فإن حسونة المصباحي قدم شهادة حقيقية نابعة من وقائع ومشاهدات تثبت مغربية الصحراء تاريخيا وثقافيا وجغرافيا وسياسيا وحضاريا، وكان موقفه واضحا، بل شديد الوضوح. وكتابه هذا كتاب فكري أكثر منه كتاب مشاهدات وأسفار، قدم فيه صورة جد إيجابية حول صلة المثقف التونسي ونظرته إلى شقيقه المغربي في إطار وحدة ثقافية وامتداد ثقافي مغاربي مشترك.