المدرسة والأدب أية علاقة؟
الصادق بنعلال
“إنه تصور مختزل للأدب، يفصله عن العالم الذي نحيا فيه، يفرض على التعليم والنقد بل حتى على بعض الكتاب.
بيد أن القارئ يبحث في الأعمال الأدبية عما يمنح معنى لحياته، وبذلك يكون هذا القارئ على صواب”. تزفيتان تودوروف
ما فتئ المؤلف النقدي “الأدب في خطر” للكاتب الفرنسي” تزفيتان تودوروف “يثير اهتماما ملحوظا وملفتا، لدى المشتغلين في المجال الأدبي والمعرفي على وجه العموم، وذلك لما استعرضه من قضايا محورية ذات الصلة بالشأن الثقافي والبيداغوجي، وللنظرة المتجددة التي حملها كاتب طالما أغنى المكتبة الأدبية العالمية بدراسات نقدية بالغة الأهمية، اتخذت من البنيوية والمقاربة الشكلانية منطلقا لمساءلة منطوق النص الإبداعي، واستجلاء محدداته الأدبية المخصوصة. وعلى الرغم من صغر حجم المؤلف قيد المعاينة “الأدب في خطر” الصادر سنة 2007 عن دار فلاماريون، إلا أنه أحدث رجة غير منتظرة في ميدان الإبداع والنقد الأدبيين، أعادت الاعتبار من جديد للقول الأدبي المسكون بهاجس البحث والسؤال عن الإنسان في الأدب بحصر المعنى!
1- مفهوم الأدب ورسالته السامية:
ومهما تنوعت تعريفات الأدب عبر مختلف العصور والثقافات الإنسانية المتنوعة، يظل في المحصلة الأخيرة ذلك التعبير اللغوي الجمالي عن جوهر الإنسان وتطلعاته وأحلامه وحقيقته الأزلية، إنه بوتقة تنصهر فيها مختلف المعارف البشرية الحاملة للقيم المثلى من خير وحق وجمال.. مما يستدعي في أي مقاربة نقدية للنصوص النثرية والشعرية إطارا مرجعيا ومفاهيميا، يؤلف بين الجديد في عالم الألسنية والمناهج الأدبية الحديثة، وبين الرؤية الإنسانية العميقة، والمدركة للرسالة الأدبية الرفيعة للأدب؛ رسالة البوح بكينونة الإنسان في الزمان والمكان. وما من شك في أن الأعمال الأدبية العظيمة منذ اليونان قد لعبت دورا مفصليا في التمهيد لبناء الحضارات والرقي بالأفراد والمجتمعات.. فكيف يجوز الاقتصار على النظر إلى المنجز الأدبي العظيم داخل “محبس” شكلاني محكم الانغلاق، وإهمال إيحاءاته اللامتناهية ومحتوياته الرؤيوية غير المحدودة!؟
2- عن الأصولية النقدية الحدية:
وقد لعبت الظروف التاريخية والسياسية منذ مستهل القرن العشرين دورا أساسيا في تغيير مسار مقاربة الخطاب الأدبي، حيث تم الانتقال من مرحلة الاحتفاء بالحمولة الأيديولوجية والمحتوى المضموني للأدب، إلى التعاطي البنيوي والملامسة اللغوية الحدية، خاصة في الفترات العصيبة من تاريخ ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي؛ حيث المراقبة الذاتية إزاء ثقل أيديولوجية السلطة السياسية. وشكلت الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في الغرب وفرنسا بشكل خاص مجالا خصبا للتخلص من التعاطي العفوي والساذج” مع الإنتاج الأدبي، لقد كانت المناهج والمفاهيم الاجتماعية والتاريخية والفنية هي السائدة، وأقصى ما كان يطمح الناقد آنذاك أن يصل إليه هو التعريف بالسياق السوسيوتاريخي للظاهرة الأدبية والغوص” على المعاني “القابعة” داخلها. وهكذا ساهمت كوكبة من النقاد الجدد المسلحين بآخر مستجدات المعرفة الإنسانية من فلسفة ولسانيات ومناهج إبستيمولوجية.. لوضع حد لممارسة نقدية لا تعير أي اهتمام لـ “أدبية” العمل الأدبي ونسيجه اللغوي، وتنطلق فورا في اتجاه “استخراج” مضامينه وقيمه الموضوعية! وقد لعب رولان بارت وجيرار جنيت وغريماس وتودوروف وكلود بريمون وآخرون دورا جوهريا في إعادة الاعتبار للنص الأدبي بالنظر إليه كوحدة لغوية مخصوصة ومكتفية بذاتها، ومستغنية عن سياقاتها العامة. ولئن أسدت المقاربة البنيوية خدمة غير مسبوقة للممارسة الأدبية، وأسبغت عليها قد غير يسير من العقلنة والأجرأة، والتخفيف من غلواء القراءات الانطباعية للنصوص الإبداعية.. فإنها غيبت وبشكل غير مبرر “علميا” الاهتمام بقضايا الإنسان، ورؤاه إلى الكون والحياة والمجتمع. ولعل هذه “الأصولية” البنيوية كانت وراء الدعوات المتجددة إلى إنقاذ الأدب من “الموت” وإبعاده عن خطر يهدد جدوائيته ووظيفته البناءة!
3- الأدب موقف إنساني راجح من الحياة والكون:
إن أهم ما يركز عليه الناقد “تودوروف” في هذا الكتاب المثير للأسئلة الصعبة هو ضرورة إعادة النظر في كيفية قراءة وإقراء النصوص الأدبية في المؤسسات التعليمية (المستوى الثانوي تحديدا)، حيث الاهتمام المفرط بالمصطلحات والمفاهيم النظرية والأدوات والتيارات الأدبية العالمية.. أثناء تدريس النصوص الإبداعية، على حساب جمالية الصوغ الجمالي الحي، والقيم الإنسانية الثاوية في لحمة المعطى الأدبي وسداه، وقد أضحى جليا عند عدد غير قليل من الباحثين في الحقل الأدبي أمثال: أمبرتو إيكو Umberto Eco وفرانسوا راستيي François Rastier وقبلهما جان بول سارتر Jean-Paul Sartre.. ملحاحية العودة إلى استكناه الأبعاد الدلالية للمنجز الأدبي الكوني. إنها خطيئة بيداغوجية استراتيجية أن نقتصر على الوصف الشكلاني والهيكلى المغلق لإبداعات رفيعة لعباقرة من قبيل؛ سوفوكلس Sophocle وشكسبير Shakespeare ودوستويفسكي Dostoïevski وبروست Proust.. الذين أثروا الأدب البشري بصور لغوية حافلة بقيم الحرية والكرامة والمساواة والتسامح.. ورفض كل مظاهر البؤس والمعاناة والضياع في عالم غير عادل! إن الغاية المثلى من دراسة النصوص الأدبية هو استقراء مغزاها والقبض على المعاني العميقة التي تتضمنها عبر أدوات منهجية بنيوية ولسانية وسيميائية وغيرها دقيقة ومحكمة، تتخذ وسيلة وليس غاية في حد ذاتها. إننا في أمس الحاجة إلى تحبيب المادة الأدبية إلى المتعلم داخل الفصل الدراسي وخارجه، ليقيننا الراسخ بأهمية الأدب ووظيفته الاستثنائية في الرفع من المستوى المعرفي والجمالي للمتلقي، وجعله أكثر إدراكا لذاته والعالم المحيط به، وعشقا للكون والحياة!!