لأجل حل جذري
محمد البكري
أ.
الظاهرة – كما تفضلتم بعرضها وإثارتها وإيلائها الأهمية الواجبة- غير صحية ولا طبيعية. من ثم، لا يستسيغها مواطن سليم، فبلْه – حسب المفروض والمتطلَّب- الممثلُّ السياسي والمنفِّذ، أو الوصيُّ، الإداري. لأن الإنتاج، أي الكتاب مغربي: من حيث منتجوه ومؤلفوه؛ وكذاك ِّمسرحه المجتمعي، ومحيطه الثقافي، ومنبعه الدقيق؛ أما لغته ففي الغالب الأعم وطنية. وهذا الإنتاج، في مجمله، يغذِّي حضارة الأمة، ويثري تراثها ورصيدها الفكري والثقافي والأدبي والعلمي والفني والإعلامي والعقلي؛ راهناً وتاريخاً ومستقبلاً. أما المعنِيُُّّ الأول به، تكويناً وتربيةً وتعليماً وتثقيفاً، ومستهلكه المخاطَب به، فوطني أو قومي. وإذا غلب على هذا الإنتاج- الكتاب، أحياناً أو كثيراً، بُعدُه الأممي والإنساني حتى صار هو الوُكْدُ والهدف الأسمى والأقصى، فيبقى أن مصدره وجذوره هذا الشعب وهذه التربة.
الحاصل، أن هذه الظاهرة غير مقبولة، لذا يجب مجابهتها لاستئصالها وإعادة الأمور إلى نصابها في أُفُقِ بناء مستقبل جديد.
ب.
تبدو المسألة بسيطةَ في ظاهرها، إلى حد أنها توحي – وتوهِم- بسهولة معالجتها، ويسر التغلُّب عليها؛ لا سيما لمّا يميل السطحيون والاختزاليون إلى حصرها في هذا المظهر الضيق السطحي أو ذاك المشكل المغلق، غير المفضي لنتيجة. إنها معقدة وخطيرة ومتجذرة.
رغم كل ما يثبت استعصاء علاج الظاهرة، ويثبِّط العزيمة دون إنجاز العلاج وتغيير الحال، فلدينا إحساس – وفق القياس على بعض القرائن الظاهرة، أو حتى المترددة في البروز- بأن الوقت حان للشروع في برنامج عمل اجتثاث الظاهرة المذكورة، وبناء واقع جديد وملائم للمستقبل، والتقدم إلى الأمام الواضح، في أفق تحقيق منتوج- كتاب- وطني ذي إشعاع دوليّ وعالمي.
إلا أن إنجاح هذا العلاج يتوقف على ضرورة التغلُّب على مجموعة عوائق، هي عبارة عن عوامل متضافرة، متعددة ومعقدة. منها الخطير النابع من ماض كالح-وأصبح عادياً نتآلفُ معه بلا وعي. عوامل في شكل وقائع. تتجذر في الواقع الاجتماعي وحتى التاريخي. لا نقول إن التغلُّب عليها كلَّها سيجري بسهولة، وإنما قصارى القصد، ولو مرحلياً، تحْييد بعضها، والوعي ببعضها الآخر، في سبيل تحقيق ما يأمله طليعة المؤلفين والمثقفين والكتاب والقراء والساحة الثقافية عموما. وما يأمله ويتمناه كل غيور محب هذا البلد وأهله…
ج.
لكن، قبل هذا وذلك. لماذا لم تتحمَّس، حتى الآن، ولم تنجذب، الإرادة السياسية والتخطيطية- الثقافية، من جهة، والحيوية الصناعية التجارية والمالية المغربية، من جهة ثانية؛ لجعل الكتاب المغربي – باعتباره منتوجاً وطنيًا، بل أسمى منتوج عقلي وعلمي وثقافي وفكري وأدبي وفني وتربوي وتأطيري، تفتخر به الأمم، وتربي بها أولادها، وتعرضه على منافسيها وغيرهم – ضمن أولوياتها وضمن استراتجيتها الوطنية، بأعمق ما للكلمة من دلالات (أؤكد على الكلمات)؟ ولقد رأينا ما حصل ويحصل في بلدان أخرى صديقة و شقيقة، تقدمية ورجعية. لا سيما- ولا سيَّ- وقد مر، عندنا، على كرسي مسؤوليتها وطنيون-؟- وتقدميون-؟!- ليُجِب كلٌّ كما أراد. لكن، هل نحل بذلك المشكل؟
د.
قد تبدأ بوادر حل المشكل جذريًا، حين يتم العمل بناءً على أساس التحليل والتشخيص والتقرير بنزاهة؛ والعمل بإرادة عملية لأجل التخلص من مسبقات وتصورات ومفاهيم خطيرة؛ يتقدمها هذا «النفور» – إن لم نقل العداء والمقاطعة أحياناً- من ارتباط هذا الكتاب أصلاً بقارئ ، جله، في المشرق، وبلغة وثقافة معيَّنتين- تُعتَبران مناهضتين لثقافة ولغة ورأسمال وتكوين وتأطير واردين من ثقافة دول إمبريالية رهانُها الأساس السيطرةُ الكونية للغتها وثقافتها وأهلها على غيرها من اللغات والثقافات عبر العالم. وفي السبيل نفسه ينبغي تحرُّر الفاعلين والمقرِّرين في القطاع النشري والتوزيعي من أفكار محلية وتصورات موروثة، أيضاً، عفَّى عليها الزمن، تجعلهم عاجزين أو متهاوِنين- حيناً- في تصوُّر ما يتطلبه المستقبل والواقع؛ وحينا يصدرون عن خيارات ومفاهيم مضادة للثقافة واللغة العربيتين (باسم الفرنكفونية تارةً وباسم التدريج تارةً أخرى).
يقتضي الأمر، على المستوى ذاته من الأهمية، «تأسيس» أو إيجاد «هيئة» أو «مجلس وطني» محيَّن ومُفعَّل، قد يتخذ شكل مؤسسة-ات ذات طابع وطني، حريص حقاً وفعلاً ومَهمةً، على نشر المطبوعات المغربية- وفي مقدمتها المجلة والكتاب- وتوزيعها في بلدان اللغة العربية والأمازيغية وفي باقي بلدان العالم سيان، وحيثما كانت سوق محتمله.
والعمل على توفير غطاء قانوني كامل وناجع ومفعَّل كلياً، يهدف لتأمين القدر الكافي من الشفافية اللازمة في الطبع والنشر والتوزيع، والحكامة، وإجراء المحاسبات الدقيقة، بقصد – من ضمن مقاصد أخرى- ضمان الحقوق والواجبات الكاملة لجميع الأطراف المنتجة للكتاب المغربي، سواء أكان ذلك في الداخل أم في الخارج، مهما كان الحال وفي كل الظروف. إن الحقوق – حقوق الأطراف الفاعلة- والضريبة محفوظة في المقاولة الغربية الحديثة (إن لم نقل شبه مقدسة)، رغم كل الاستثناءات. لماذا لا نفعل على غرار المعمول به من لدن البلدان المتقدمة، حيث عدد النسخ والطبعات والسحوبات محسوبة بدقة وشفافية، وتحت المراقبة الدقيقة، ولا مجال للاختلاسات والقرصنات والتزويرات المحلية والدولية، والطبعات والسحوبات السرية أو المهرَّبة، أو الاستنساخات المكثفة، وحيث يعاقب القانون ذلك بصرامة ويراقبها الفاعلون، ويقطعون دابرها قدر الإمكان.
***
كمثال، من جهة أخرى في الباب ذاته، هذه الدول، التي تضمن التوزيع إلى أقصى نقطة ممكنة في الأرض؛ وتفرض المحاسبة والشفافية على جميع أجهزة الطبع والنشر والتوزيع وعملياتها، هي نفسها التي يعيش الكاتب والمؤلف بفضل مكتوباته في راحة تامة، محفوظ الحقوق. لكنها، هي نفسها يصدر جلُّها عن سياسة واضحة واستراتيجية متكاملة ونشيطة ومطبَّقة على أرض الواقع.. جعلتْ من لغتها الواحدة أو لغاتها وثقافتها – أو ثقافاتها- قضية أولى. وتوصِل كتابها ومنشورها إلى أقصى مكان. تخوض لأجلها حروباً دبلوماسية وضغوطاً متواصلة وأخرى خفية، لكنها شرسة وفعالة: ناعمة أحيانا، لكنها قاضية؛ تجند لها كل الوسائل والأموال وأحيانا الجنود من أعلى الرتب، إذا اقتضى الأمر: (فرنسا كحالة صارخة وشهيرة، آلمانيا، روسيا، التي تبرر حربها في أوكرانيا بالسبب الثقافي اللغوي أيضاً، تركيا، إسبانيا، بل حتى الصين، دون ذكر الدول الصاعدة. انظر العدد الخاص في جريدة لوموند عن «حرب اللغات». أو ما عداه عن حرب الثقافات).
هـ.
لهذا نتحدث عن ترشيد القطاع، الذي أنشأه رأس مال الحمايات الأجنبية ، لخدمة ثقافاتها ولغاتها ونافسه، لاحِقاً، رأس المال الوطني، لكن سيطر عليه بعدهما آخر خليط في الغالب؛ ونتكلم عن وجوب تحريره من قيم ومعايير، وطرق عمل وتصورات، ومبادئ موروثة أو ناشئة. غالبها ضار وبالغ الضرر. فالكتاب (ومن خلفه قطاع متعدد المكونات والمؤسسات) موضوع وأداة منافَسة دولية شرسة وعربون نشاط وجود؛ كما أنه مادة غذاء وتكوين وتأطير لأذهان أبناء أمة وأذواقها، ومضنة فخارها. أما من يفضلون- لهم ولإبنائهم- ثقافة أجنبية منافسة أو يدفنونهم في ماض ميت، فذلك عارهم وخزيهم.
خدمة ُالكتاب المغربي خدمةٌ للثقافة المغربية؛ خدمة الإنسان المغربي وكل قارئ؛ وهي بدورها خدمةٌ للأمة ولحضارتها وتاريخها. كلنا مسؤول.. وإلا بقينا سجيني واقع ، جله ردئ، وغالبه افتراس رأسمالي وحشي، بلا ضمير، ولا أخلاق، ولا خَلْق، ولا إبداع، يحياه الكاتب والقارئ لعقود وعقود.
و.
تصلنا كتب الآخرين ومنشوراتهم من شتى أطراف العالم . تُباع لدينا بكل أريحية، ولا تتوقف عن الرواج الآمن وبالقيمة الأجنبية المرتفعة جدا عن العملة المحلية، وذلك منذ بداية الحماية. ومنذئذ و الكتاب والمجلة وكثير من الصحف، المطبوعة داخل المغرب، تبقى حبيسة حدود المغرب النافع. واقعٌ فاقعٌ صارخ إلى حد الإدماء، أمنْ حاجةٍ إلى التنبيه!
.. حتى عهد قريب، كان الكتاب المغربي – ما عدا المدرسي والتجاري و الدعائي وما يشبههما – لا يحظى بالطبع والنشر والتوزيع في المغرب من لدن ناشر مختص، إلا في القليل النادر، أو في إطار الحالات الخاصة. من ثم، يضطر المؤلف لطبعه على حسابه الخاص، مباشرةً ، في مطبعة تجارية. بذاك يتحول المؤلف – فجأةً واضطراراَ- إلى مشرف على الطبع. وناشر، وموزع، ومحاسب الخ. دفعةً واحدة. وهو الكاتب! النتيجة : فشل العملية، إذ تتشتَّت حقوقه وتضيع، هي وسلعته وإيراداته وجهوده- في مهب ريح السرقة والنهب. أما إذا التجأ إلى موزع متخصص، يعمل على مستوى جميع نقط البيع عبر الوطن، فينبغي أن يخضع لشروط وتكاليف مجحفة، قد تتجاوز أحياناً نصف ثمن الغلاف، هذا، ما لم تتطلب منه قدراَ أكثر من هذا بكثير، أو تضيف، فتزيد عليها ضمانات عينية.
أما عملية توزيع ونشر الكتاب والمجلة المطبوعين بالمغرب عبر بلدان الخارج، فتخضع لقيود وعراقيل وقوانين وعادات وطرق غير عملية ومسبقات دراكونية حتى لتدخُلنَّ في باب الاستحالة..
قد تُقرصَن كتُب وحقوق، ولا قانون ولا جهات تحميها أو حتى تولي الظاهرةَ ما تقتضيه من علاج، يضع حداً لكل ذلك (والضحايا من الكتاب والمؤلفين كثيرون ومرات متعددة).
– من ثم، صار لجوء المؤلف المغربي إلى الناشر المشرقي شبه فرض، حيث كان النشر التجاري مزدهراً (لبنان قبل تخريبها) أوشبه مزدهر وتابعاً للدولة (مصر والعراق وسوريا من قبل، وبعض بلدان الخليج منذ بضع عقود) تقابلها سوق شاسعة، مشتاقة ومتلهفة للمعروضات (من حدود الصين إلى الأمريكتين وأطراف الهند وماليزيا وأندونيسيا وإفريقيا وعواصم الغرب الخ..). وظهرت- اليوم- دور نشر مشرقية قوية وكثيرة ومتنوعة، تقتفيها دور مغربية محترمة قليلة جدا..
.. على العموم، ظلت مؤسسات الطبع والنشر والتوزيع بالمغرب ناقصة التطلُّع نحو تفهُّم القيمة الثقافية والفكرية للمنشور والكتاب الوطنيين، ودورهما ووظيفتهما العميقة والبعيدة المدى- لا تركِّز على أكثر من احتكارها للمجال، المُدرّ للثروات الخيالية، في ترويج الكتاب الفرنكوفوني وفي طبع وترويج الكتاب المدرسي والجامعي والتجاري والدعائي والإشهاري والإداري ، ومن ضمنه الكتاب الدعائي والخرافي شبه الديني وكذا الفكري التقدمي والثوري- و بقيت في غالبها الأعم، تتعامل مع الكتاب الثقافي والأدبي والعلمي والفني كسلعة تجارية صرف، وباستهانة واحتقار أحياناً، وبصلَف ووقاحة أحياناً أخرى. لا سيما في ظل انعدام الاهتمام الموضوعي والتقني، والمدروس بعناية، والمتخصص من لدن الجهات الوصية، التي تميزت غالباً بتغييب عامل التنافسية الدولية؛ فضلاً عن تحلُّل واهتراء هيئات نافذة ممثلة للكتَّاب والمثقفين، كان المفروض تطوُّرها ولعِبها لدور اقتراحي ودفاعي طليعي وإيجابي في المجال..
ز.
.. كنا، صديق وأنا، منذ زهاء ربع قرن مارَّيْن في «معرض الكتاب- بالدار البيضاء»، أمام «دكان» فخم. يقف على بابه ناشر ، يتفطَّح بزهو مبالغ فيه، منتفخ الأوداج، وإذا بسمعيَّ يلتقفان قوله لواقف أمامه، وأظنه كاتباً مغربيا، بدارجة خليطة:
– المخيَّر في الكتاب المغاربة يقف ليطلب مني 1000 درهم أو ألفين..
***
.. إذن..
أي شرف للكتابة، يا صاحبي!
أما كيف ينظر الفرنكفوني المزمت أو المتكبر مع أحلافه للكتاب المغربي بالعربية فحدث ولا حرج.
***
– ملاحظة: نرجئ الحديث عن معايشتنا لبعض أنشطة النشر النوعية منذ حوالي نصف قرن، بما فيها تجربتنا الخاصة إلى مناسبة لاحقة.