المثقف الانتهازي والانتهازية!؟
محمود القيسي
“سلام قاتل كأقدارنا خاليا من الحب…
إذ يبدو لنا وقد انتهى بين الأنقاض
ذلك الجهد العميق والساذج لإعادة بناء الحياة،
ذلك الصمت المتعفن والعقيم…
حيث الخطأ جزء من الحياة..
الذي كان يضيف على الأقل جذوة للحياة…
كنتَ تمدّ يدكَ النحيلة لتخط العقيدة التي تضيء
(ليس لنا: أنت الميت ، ونحن معك أموات..!
في حديقة هذا الصمت.
ليس في وسـعك، ألا ترى؟ غير أن تسـتريح
منفيا مرة أخرى في هذا الموضع الغريب… لتتوارى..
فيما المطر يكف حول المكان عن الهطول… والبكاء”.
ما هذا الموت؟.. الموت الذي يولد من جديد.. كأنه لم يمت؟!.. ما هذه الأضداد؟.. هذه الوحدة؟.. عندما ينتصر الموت على الحياة؟!.. بين الماضي والحاضر.. الماضي الذي أصبح حاضرًا!. والحاضر الذي أصبح ماضيًا!.. وكيف يكون ذلك خروجًا عن المألوف عن الماضي والحاضر عن الواقع عن الفيزياء عن الكيمياء وكل شيء كل شيء..؟! ام خروجًا عن العقل أو عودة إلى العقل والواقع والفيزياء والكيمياء وكل شيء كل شيء..؟! هل يقوم “تسلا” أو “غرامشي” أو أو أو… من قبره او يعود إلى الحياة؟!!!..هل يعود تسلا أو غرامشي أو أو أو… إلى هذا العالم كي يرى ما فعلوا بنا..؟! أو كي يرى ما فعلوا به..؟! كي يرى أنهم قتلوه مرة أخرى أو عشرات المرات!.. مهلًا على عقلي فأنا أعتمد الحواس والعقل والحس التجريبي وأعتمد العقل الواعي والوعي.. وهناك وحدة وتناقض بين وعي ووعي او هناك هروب من وعي إلى وعي… مهلًا على قلبي و مهلًا على عقلي و مهلًا على كل شيء حسي وعقلاني وتجريبي في قلبي وعقلي وحواسي كلها… هل نحن نعيش الحقيقة – حقيقة التطور العلمي والعلوم والفكر التقدمي والوعي أو نحن نعيش ونموت في الأحلام والكوابيس.. أحلام وكوابيس ما يسمى الحداثة او ما بعد الحداثة أو كما يقولون ما بعد بعد الحداثة… هل نحن نعيش الجنون؟! هل نحن نعيش جنون العظمة أو ما بعد العظمة أو ما بعد بعد العظمة وجنون العولمة والعظمة؟!!!!…. جنون العولمة، أو جنون الرأسمالية أو جنون ما بعد الرأسمالية…؟؟؟!!!! جنون التغول والتوحش والوحشية والقيمة الزائدة…؟!! جنون التكنولوجيات “الذكية” و”الاصطناعية” و”الفيزياء التصاعدية” وهلمجرا..؟! على رسلك يا تسلا.. على رسلك يا غرامشي.. على رسلك يا يا يا… يمكنكم ان لا تعودون أيها الأعزاء.. لا تجزعون.. يمكنكم ان لا تعودون ويمكنكم أن تبقون في قبوركم الرخامية أو الحجرية القديمة أو الرخيصة أو قبوركم المجهولة ايها العظماء… فذاك أفضل لكم وأفضل لنا.. كي لا نستمر بالكذب عليكم وعلى أنفسنا.. وكي لا نغتال أفكاركم ووعيكم مرة ثانية وثالثة وعاشرة… في عصر الحداثة وما بعد الحداثة… كي لا تتعرفون أو تشاهدون تلك الوجوه الانتهازية والنُخب الانتهازية.. النُخب الانتهازية التي طعنت نفسها وشعوبها وتآمرت على نفسها وعلى شعوبها وباعت نفسها وشعوبها.. النُخب التي ليست سوى نُخب انتهازية.. نُخب رخيصة بإمتياز انتهازي رخيص… وعذرًا على إزعاجكم.. عذرًا أيها الموتى.. الموتى الأحياء..!؟!
منذ العصور القديمة، لم يعاقب البشر إلا من يقول الحقيقة!… إذا كنت تريد أن تكون مع الناس شاركهم تخيلاتهم وأوهامهم فلا أحد يقول الحقيقة إلا أولئك المغادرين… يعتقد البعض ان مثقف أو مبدع لا أكثر ولا أقل.. ما يحتاجه العالم العربي.. دون ان يدري أو يدري هذا البعض ان المثقفون هم أكثر الناس قدرة على الخيانة كما يقول “لينين”، لأنهم أكثرهم قدرة على تبريرها؟!.. المثقفون والمبدعون هم الأكثر عرضة للتوظيف السياسي كما جرى في لبنان في مراحل عديدة وأسوأها على الإطلاق إن لم يكن أخطرها ما تعرض له لبنان والشعب اللبناني تاريخيًا خلال “أنتفاضة” أو “ثورة” آو “خيانة” ما يسمى “الحراك” في السابع عشر من تشرين الثاني من العام 2019 المشؤوم.. الحراك الذي قاده ما يسمى “النُخب”، إذ تستعملهم الأنظمة.. الأنظمة الخارجية والداخلية بطرق شتى، فيفقد الكثير منهم صدقه ورسالته التي نادى بها إذا كان أساسًا يمتلك رسالة، ويصبح في النهاية موظفًا لغايات أخرى غير الثقافة والإبداع.. مجرد أداة بيد الخارج والداخل.. أو مجرد “وسيلة” على قاعدة أو “غاية” الدولة العميقة.. التي تبرر “الوسيلة”.. أو التي تبرر التعامل مع المثقف.. المثقف الأداة.. المثقف الوسيلة..!؟!
يقول أمبرتو إيكو: “إن الواجب الأول للمثقف هو في المقام الأول انتقاد رفاقه”. إذا اعترفنا بأن غالبية المثقفين المشرفين على المؤسسات الرسمية ومراكز البحوث في دول عديدة من العالم العربي، نصبتهم الحكومات والأحزاب المهيمنة، نكون قد اعترفنا بنصف الحقيقة التي لا تقبل الجدال. أما النصف الثاني من هذه المعادلة فهو حقيقة أن المثقف العربي يؤمن بمبدأ المحاباة والتوريث والزعامة والعمادة المزمنة، على غرار ما يحدث في الخارطة السياسية والأعراف القبلية، لذلك فهو لا يعترف بالمنافسة الإبداعية، ويعتبر أن ما تميز به يوما حالة سرمدية خالدة يجب أن يموت عليها. وظيفة المثقف الحقيقي أن يُوّسع إطار الجماعات، ليكون بمقياس الوطن لا بمقياس الطوائف.. كما إن المثقف العضوي بطبيعته لا يملك جوابًا نهائيًا لكل سؤال، ولا يتصور جواب نهائي لكل سؤال. المثقف الصغير أبشع من البرجوازي الصغير في فهمه الضيق للحياة وللأحياء.. المثقف الانتهازي الصغير مثل البرجوازي الصغير يلتزم الصمت حتى نهاية المعركة فيعلن انضمامه للأغلبية. وحده المثقف يعيد النظر في نفسه كل يوم، ويعيد النظر في علاقته مع العالم ومع الأشياء كلما تغير شيء في حياته. المثقف هو من اكتشف شيئاً أكثر تشويقاً من الجنس. قارئ الحرف هو المتعلم وقارئ الكتب هو المثقف. وكل جاهل كما كتبت أحلام مستغانمي يثأر لجهله بقتل مثقف بعد المزايدة عليه في الايمان والتشكيك في ولائه للزعيم الأوحد أو الوطن أو الحزب أو الطائفة أو القبيلة..!!
مثقف الصدفة السيئة في مجتمعات الاستبداد وبلاد راوح مكانك سعيد بالتقدم التكنولوجي وحزين للوضع الذي وصلت إليه الطبيعة!.. يدعي الخروج عن القطيع من ناحية في حين لا يخالف الأفكار المهيمنة على عصره في شيء!.. الشك بالنسبة له فضيلة والشك في سلطة عصره نظرية مؤامرة وأرض مسطحة غير قابلة للنقاش خوفًا على شعور السلطة وغضب الطبيعة والخوف بين الوقوع في الكفر بين أرض مسطحة أو كروية أو بيضاوية مقبوضة من وسطها!.. كل شيء بالنسبة اليه نسبي ولا وجود لحقيقة مطلقة وأيديولوجيات عصره بدهيات وقوانين رياضية (حقوق الإنسان مثلا) وهو يلعب طاولة الزهر وتقلباته النسبية ويدخن المعسل ويضبط ساعته على الموبيل المحمول خوفًا من تضييع الوقت!.. كما يدعو مثقفنا المثقف لتعدد الثقافات في حين يريد فرض نموذج حياة واحد -غربي- على كل البشرية!… ضد الأساس الديني والعرقي للدولة في حين يفرض في نفس الوقت والتوقيت في منزله ومزرعته وطائفته التعصب والعصبية الدينية والعنصرية للزعيم والطائفة والعائلة!.. مثقف الهويات القاتلة يحارب القبلية والطائفية ويشجع الهويات الجنسية والعرقية والأقلاتية!.. ضد التمييز ومع التمييز الإيجابي ههه!.. ضد هوية وطنية لبلده بإسم التسامح في حين يدافع عن هوية موحدة لأوروبا موحدة ضد تقدمه هههه!.. يساري في الشرق ويميني في الغرب ههههه!.. باِسم القيم العلمانية يناهض فرض الحجاب وبإسم القيم العلمانية يساند منع الحجاب هههههه!.. ضد الرجعية في حين يتوهم إحياء حضارات بائدة منذ أكثر من ألفي سنة ويظنها كانت تقدمية مثله!.. ضد الرأسمالية ولكنه مع نتائجها ونتاجها!.. ضد الاستبداد من ناحية ومع الاستبداد المستنير والمنير من ناحية أخرى!.. كما ان مثقفنا المعجزة ضد استبداد الأغلبية من هنا ومع استبداد الأقليات من هناك…!؟
في اللغة العربية، تشتق كلمة الانتهازية في معناها اللغوي من مادة (نهز) التي تعني اغتنم. والانتهاز هو المبادرة، ويقال انتهز الفرصة أي اغتنمها وبادر إليها، وهي في معناها الاصطلاحي لا تختلف كثيرا عن المعنى اللغوي المشار إليه. والإنتهازية في قواميس اللغة العربية القديمة والحديثة، تقترب معانيها من الصيد والمهارة في الحصول على الفريسة، تقترب من الاحتيال عليها واصطيادها. والانتهازية في لسان العرب لابن منظور، ولربما في كل القواميس اللغوية العالمية الأخرى، تأتي بمعنى واحد: انتهز الفرصة في محيطك في موقعك/ في منصبك/ في الحزب الذي تنتمي إليه، كن محتالا بلا أخلاق لتحقيق أحلامك وهواجسك وتطلعاتك؟… في حين عرّفت “لغة” علماء النفس، الانتهازي كإنسان خبيث في ذكائه، يتمتع بمرونة عجيبة، غير مبدئي، براغماتي، لاعب ماهر، يجيد لعب كل الأدوار، يكرس نفسه ومواهبه ومعارفه لمنافعه الشخصية، يمارس نشاطه وفق إيديولوجية اعتيادية، وهو أفضل من يقوم بتزييف الحقيقة، وخداع وتضليل الآخرين، حيث أنه يزيف الواقع برمته مقابل مصالح شخصية ويضحي بمصالح الآخرين في سبيل تحقيق مصالحه الذاتية. فهو يستخدم الواقعية والمثالية تبعا للحالة أو الموقف والفائدة، وبما أن هدفه في العيش هو براغماتي في الأصل، فهو يعمل على أن تتطور أدوات، المجتمع دون تطور لغته المرافقة طبيعيا لتطور الأدوات بحيث يخدم ذلك حياته البراغماتية، ويسعى إلى تجميد المفاهيم وفبركتها، بحيث تخدم أهدافه المرحلية، ويزين الواقع بغية إقناع الآخرين، حتى وإن كانت كرامتهم مسحوقة ومعذبة بما يخدم مصالحه، وهو العدو اللدود للحقيقة ويبذل كل جهده لكي لا تظهر على السطح.
الانتهازي في نظر علماء الاجتماع، مجرد من أي مبدأ أو عقيدة أو فكرة أو مذهب معين، وسرعان ما ينقلب على ادعاءاته ويتصف بصفات الغدر والخيانة للفئة أو الحزب الذي ينتمي إليه أو حتى لبني جلدته أو لأبناء شعبه. فهو يجيد لعب كافة الأدوار واقتناص كل الفرص لتحقيق مكاسب ومنافع شخصية حتى لو كانت غير أخلاقية، وغير مشروعة وغير قانونية والانتهازي، لا يردعه قانون ولا أعراف، لذلك نجده في العديد من الأمم يحطم صمودها ويفقدها قدرة التمييز بين الحقيقة والزيف. كما ان الانتهازية في العصر الحديث، كما في العصور الغابرة، لم تشكل طبقة أو فئة، وإنما كانت ومازالت تأتي من عموم الطبقات والفئات على كل أجناسها وانتمائها. الانتهازية ليس لها موقف صريح وواضح، لأن مواقفها وآراءها لا تنبع من معتقداتها، بل من مصالحها المتسارعة والمتقلبة، حسب ما تمليه مصالحها. لا تمتلك الانتهازية أي شيء يمكن أن تقدمه للمجتمع، ولا يمكن أن تكون عاملا إيجابيا في مرحلة من المراحل، ولا تطرح نفسها كنظام بديل لأي شيء، والسبب في ذلك أنها لا تهتم بتنظيم المجتمع أو إصلاحه. الانتهازية، ظاهرة بشرية تطفح في النفوس الشريرة، تظهر على السطح يتوسلها المنافقون لها عواقبها وانعكاساتها السلبية على المجتمع، ولذلك يعتبرها علماء النفس، صفة دميمة من اقبح الصفات التي يلجأ إليها الانتهازيون لتعويض شعورهم بالنقص.
“ثمة خرقة حمراء.. عند المِرْمَدة بحمرة مختلفة، على الأرض الشّمعية، زهرتا غُرنوقي. هناك أنتَ، متروك، وبأناقة قاسية يندرج اسمك بين أموات غرباء: (رماد على الرماد)… وبين رجاء وإحباطات قديمة، أحاذيكَ، صدفة، في هذه المزرعة الشّاحبة، أقف أمام قبرك، أمام روحكَ التي مازالت هنا بين الأشجار. (أو قد يكون شيئاً مختلفاً، ربما أكثر إنتشاءً وفي الوقت نفسه أكثر تواضعا، نَشوة التماثل لمراهق بين الجنس والموت…) ومن هذا البلد الذي لم يَعرف توتُّرك فيه هدنة، أشعر بأي خطأ، هنا في هدأة القبر.. وكذلك أي صواب في مصيرنا القلق ـ كَتَبْتَ الصّفحات الجليلة يوم مَقتلك. وهاهم أولاء، يشهدون على بذرة الهيمنة القديمة التي لم تُفْقَد بعد هؤلاء الأموات المتمسّـكون بملكوتٍ ترجع كراهيته وعظمته الى قرون مضت: وفي الوقت نفسه، تأتي مُلِحّة، خفيّةً ومخنوقة، رجّـةُ السّنادين من ذلك الحيّ المتواضع، لتعلن النّهاية. وها أنذا، ذلك المسكين الذي يرتدي ثياباً يرنو إليها الفقراء في فترينات ذات إنارة فظّة وقد فَقَدَ قذارة الشّوارع المنسـية، من حيث تأتي غرابة يومي: فيما تبقى باستمرار نادرة مثل هذه الاجازات، في معاناتي من أجل البقاء؛ وإذا ما أحببتُ العالم، فهو حبّ شهوانيّ عنيف وساذج، هكذا كما كرهته يوما وأنا فتىً مرتبك، اذا ما جرحتني الشّرور البرجوازية في ذاتي البرجوازية: والآن، والعالم منفصل معك ـ ألا تسـتحق الحقد وأكاد أقول الاحتقار الصّوفي، الجهة التي تمتلك السّـلطة؟ ورغم هذا فأنا موجود، دون أن أمتلكَ صرامتك لأنني لا أختار…! أحبّ العالم الذي أكره ـ ضائعا ومزدريا في بؤسـه ـ من أجل فضيحة الضمير.. فضيحة الضمير المبهمة”…!؟!