الفظيع بعيون نسوية في “سيرتنا” (1-3)
لحسن أوزين
“سيرتنا” هو الكتاب الثالث من سلسلة الورشة التي أشرفت عليها ونسقت أعمالها، الدكتورة إشراقة مصطفى حامد. ويمكن أن أقول الآن، كما أشرت إلى ذلك سابقا، في قراءتي للكتاب الأول والثاني، على أن هؤلاء النساء أنجزن عملا عظيما، يجسد الرسالة النبيلة التي من الضرورة أن تمثلها الكتابة الأدبية / السيرة بأوسع معانيها الفنية في احتضان الكثير من الصيغ والأساليب والأشكال التعبيرية الأدبية والفكرية، على مستوى الصنعة الإبداعية، والخلفيات المعرفية، المفعمة بالخبرة والتجربة الإنسانية والاجتماعية التاريخية.
تتأسس الكتابة في هذه الكتب الثلاثة، بوصفها معنى حياة في وجه موت متعدد الوجوه والأساليب والأشكال. وأيضا باعتبارها أدوات وآليات استمرار معنى الوجود/الحياة، وحماية الذاكرة من نسيان الفظيع وخبرته، والبشاعة البشرية، التي اجتافها واستبطنها الفرد والجماعة والمجتمع. وقد وصل تأثيرها الفظيع الى الثقافة، وكل الأنظمة الرمزية التي وسع من خلالها الإنسان ذاكرة الكون. تأتي هذه الورشات، حسب فهمي لسيرورة تشكل وبناء معنى الشر والفظيع الذي خبرته هؤلاء النساء، لمنع طمس الذاكرة، أو التحايل على كتابة التاريخ الملموس، وأيضا من توثيق ما حدث. حتى لا يتكرر ما جرى تحت ضوء الشمس، وعلى مرأى ومسمع من العالم المتقدم والديمقراطي، الذي أعمته فظاعة مصالحه، وتنكر وتنازل عن الإنسان، فاتحا ممرات آمنة للفظاعة السائلة.
صحيح أن هناك الكثير من الأطر المعرفية والفلسفية، والأدوات والمفاهيم المنهجية الحديثة الغربية، التي تتيح مقاربة هذه التجربة في الكتابة الإبداعية. أقصد هنا مثلا مقاربة السوسيولوجي زيجمونت باومان للشر، في كتابه “الشر السائل”، أو من خلال طروحات وأفكار جورج باطاي في كتابه “الأدب والشر”. لكنني أفضل الاستناد، على كتاب: “الفظيع” للمفكر السوري ياسين الحاج صالح. وهو كتاب أراه مرجعي، وله من الجدارة والكفاءة المعرفية والعلمية ما يساعدني في مقاربة هذا “الفظيع” الإبداعي الذي حاولت هؤلاء النساء تمثيله وتشخيصه، والتحرر من سطوته وثقله الرهيب، في شكل غير مألوف، وفقا لاشتغال جدلي تفاعلي يجمع بين التمثيل الفردي والجماعي، تبعا للعمل كفريق ممسوس بخيرة الفظيع. ليس في البلد الواحد، بل في البلدان ذات الأنظمة التبعية الشمولية القهرية، المسماة بدول الجنوب، ومنها العربية والإسلامية.
فكتاب ياسين “الفظيع” يساعد كثيرا قارئ كتب هؤلاء النساء، على مستوى الرؤية المعرفية والفكرية، والأدوات المنهجية التي يقترحها كمسالك للتعامل مع الفظيع. والعمل على تصريفه بطرق إيجابية تؤدي الى التحكم في الخبرة والتجربة، وتملكها وعيا وممارسة، معرفيا وإبداعيا، في إعادة بناء النفس التي طالها التخريب، والنهوض بالثقافة والمجتمع والإبداع، كالعنقاء من تحت رماد التدمير الوحشي. وهذا ما يجعل من كتاب ياسين خلفية نظرية وأدوات وآليات منهجية للنقد والتحليل والتفكيك، في إنتاج المعنى وتوليد الدلالات المحصنة للذات من الإحباط والانهيار والسقوط، وتحفيزها وتقوية مناعتها الكيانية في أفق الولادة من جديد، بما يتجاوز الوضع الكارثي الذي خلفه الفظيع الذي أتي على كل شيء. وخلف دمارا وخرابا في النفس والفرد والثقافة والمجتمع.
أقدم على هذه الحفلة (بالمعنى المقصود في أدب السجون) في جمالية تلقي الفظيع الذي حاول كتاب “سيرتنا” إنتاجه كإبداع في معنى، قادر على امتلاك وتملك خبرة البشاعة، كآلام وعناء ومعاناة، وعذابات فظيعة، موشومة في القلب والدماغ والجسد، بحرقة الهروب والتهجير والترحال الشاق، المحفوف بكم هائل من الرعب المروع، والمخاطر المشبعة بالتهديد بالموت والفقدان وانعدام المعنى الوجودي، المفتوح على الخيبات والخسارات والعدم. وأنا على قناعة فكرية و جمالية إبداعية، أن هؤلاء النساء استطعن، من خلال، ورشة (ليس سوانا يكتب سيرتنا)، أن يتملكن تجربة خبرة الفظيع، وتحويله من أبعاده التفتيتية، وأهدافه التدميرية، الى خلق أشكال من التمثيل والتفاعل والتقارب والتشبيك والوحدة والاشتغال كفريق، يسعى الى التكامل وتمتين أواصر التضامن والحب والتعاون…
وذلك قصد قلب الطاولة على التأثيرات السلبية للفظيع، بالحد من خطورته وإرهابه وقوته في خلق حالة من التشظي والتمزيق والتباعد والتفتيت الفردي والجماعي، السياسي والاجتماعي والثقافي.
1- ورشة الكتابة بوصفها حقلا لمقاومة الفظيع
كل نصوص “سيرتنا” من أولها الى آخرها تقتحم وبجرأة إبداعية رعب الفظيع المحلي، وأخواته (الاحتلالات الأجنبية، والعصابات الإرهابية الدينية، الطائفية، العنصرية…). تقبل عليه دون خوف، وهي تحاول الكشف عن وجهه الخبيث في انتزاع أمن وأمان الناس قصد تدميرهم وإبادتهم، والدفع بهم نحو مخاطر التهجير والمنافي. وتمزيق شملهم واستقرارهم، مع زرع الرعب والخوف والقلق، وانعدام الثقة واليقين، والحذر والتجنب والتشكيك في الذات والأخر والعالم، واليأس وفقدان الأمل والرغبة في الحياة. مما يؤدي الى التقوقع والعزلة والانكفاء على الذات. والعيش في محراب النكوص والانشطار الوجداني العاطفي والاجتماعي. والى تفكك القيم الأخلاقية والثقافية والاجتماعية.
هكذا يأتي الفظيع همجيا، مفاجئا ومروعا وملتبسا، مستهدفا القضاء على المعنى، وبالتالي الإجهاز على الحياة. “الساعة السادسة صباحا، وبينما نحن في نوم عميق وإذا صوت ابني يصرخ بخوف وذعر: أمي، أبي استيقظا، وانظرا ماذا حصل في الخارج، في بادئ الأمر انتابني إحساس أنني أحلم وهو يناديني، لكن كان الواقع وياليته كان حلما، ركضنا جميعا الى الشرفة وإذا بالمدفعية تقصف الحي وجميع السكان يهربون بفزع وخوف، وبينما نحن في الشرفة مرت قذيفة من أمام أعيننا بسرعة البرق، وقصفت البناية الموجودة في السوق الذي كان مركز تجمع سكان حينا “حي الشيخ مقصود” يتبضعون كل ما يلزمهم من لباس وخضار واحتياجات أخرى”. 11
فانقلبت حياة الناس الى جحيم وفوضى وتشتت. حيث يروق للفظيع أن يغرق الناس في الالتباسات والغموض، والانسداد في الرؤية والتفكير، وتعطيل الحواس كلها، بجعلها في خدمة الخوف من التهديد اللامرئي المستوطن في الأعماق. هذا يعني أن هدف الفظيع هو قتل المعنى، وبالتالي إعدام الحياة، والدفع بالناس إلى لعبة الموت القذرة التي قد ينخرط فيها الجميع، حتى أقرب الناس إليك.” كانت أسوأ مرة عبرت فيها المعبر عندما كان معي ولداي فرهاد وسياممند، كيف وجدتهما يهربان من الموت متسكين بأيدي بعضهما، يصرخ سيامند: الاكض فرهاد…اسرع، القناص…القناص، هذا المشهد السينمائي البوليسي لن أنساه في حياتي لفظاعته، وكأن سكان حلب يعيشون في دولتين متعاديتين، يسابقون لعبة القتال من يفوز بقتل عدد أكبر من الأبرياء”. 20
هذا التمثيل الإبداعي في مواجهة الفظيع، وبناء معناه، تطهيرا وتخليصا للذات من جبروته المانع لتجدد الإنسان، هو ما يعيشه قارئ نص “سيرتنا”، من أول صفحة الى آخر سطر في الكتاب. ومع سيرورة فعل القراءة، من محرقة لأخرى، ومن رحلة الموت برا وبحرا، إلى رحلة جهنمية في ويلاتها وسعيرها الممزق والحارق، الى رحلة في أعماق النفس التي صارت مجرد أشلاء لا تقوى على التأمل والتفكير وفهم هذا القدر الجنوني الذي حمله الفظيع في أساليبه وأشكال فعله الرهيب، قتلا وتخريبا وتدميرا، يدرك القارئ جمالية فعل الكتابة في قدرتها ككتابة أدبية، على تناول المأساة والكارثة في فظاعتها القصوى. وجعلها في متناول الفرد والمجتمع والتاريخ، ككتابة سيرية تشهد على الذات والمجتمع والواقع التاريخي الاجتماعي.
ومع كل صفحة تزداد المآسي والكوارث في الحواجز المحروسة برعب الهويات القاتلة. وعلى عتبات المدن و الطرق ومحطات العبور، التي لجأ اليها الناس، خوفا وحماية للأرواح البريئة، التي لا يستثنيها الفظيع من شر محرقته، المصرة على قسم وشعار أن تحرق البلد بما ومن فيه. وما لم يصله رعب فظيع النظام تكفلت به الجماعات الإرهابية، والاحتلالات الأجنبية” مع بداية 2018 وعفرين تقاوم الاحتلال التركي، ولمدة أربعين يوما والأبطال والبطلات الكرديات يدافعون عن أرض الأجداد، عن أرض الزيتون، امتزجت دماؤهم بزيت الزيتون، احتلت تركيا عفرين بقوة الطيران الحربي، هرب بعض من أهل عفرين من القصف التركي وكأن الكرد دائما على موعد مع الاحتلالات”. 81
والجميل في الكتاب هو التحدي الذي يرفعه الناس في وجه الفظيع. “ففي رحلة البحث عن الوجود وجدوى استمرار الحياة “. 16، تنبثق الأسئلة العميقة حول ضرورة البقاء والبحث عن السبل للهروب والابتعاد من نيران المحرقة. بحثا عن أمكنة أخرى، في وطن آخر، “يشعرك بالاستقرار والأمان، الكبرياء والكرامة” 20. مع ما يتطلبه ذلك من آلام ومعاناة وعذابات طويلة مرهقة ومنهكة للذات. في محاولة مرعبة لفهم ما يحدث، وتحصيل معنى يكذب سطوة القدر المشؤوم في انتصار تفاهة شر الفظيع على الإنسان”. يبدأ زلزال الحرب يقض مضاجعنا جميعا، يخطف فلذات أكبادنا، يدمر كل ما تم بناؤه، فيصبح الهم الأكبر لنا هو الحفاظ على ما تبقى من الرمق، وكأننا جميعا كسوريون اتخذنا قرار “أن لا رضوخ”، وأن الحياة الكريمة تشترى بالأرواح، قررنا أن لا مفر من الموت إلا الى الموت، فكان ركوب المجهول وترويض الخوف هوايتنا…”. 29
يحضر الفظيع في الكتابة تبعا لمنطقها وآليات اشتغالها، قراءة التجربة، والعمل على منج شكل “فظيع” غير مألوف في الكتابة، لسيرة عيش الفظيع، في أبشع صوره التي حكمت بالقهر والتهجير والقتل للناس. إنه شكل السيرة في أقصى تعبيراتها الفنية في انتهاك تابو عقدة العار، والخوف من تعرية مناطق الظلال المعتمة في الذوات، وهي تكشف عن هشاشتها، ونشر غسيلها النازف والمؤلم أمام الكريم/الكرامة، واللئيم والخسيس النذل.
<
p style=”text-align: justify;”>إنها كتابة صريحة، جارحة وموجعة، وبلغة ساحرة في تشكيل جمالية السرد في بنياته الفنية. إنها نصوص تحمل في طياتها رؤى فكرية عميقة، تكونت وتطورت في سياقات المحن المتتابعة. ” أبي… لقد عشت ومت غريبا، وها أنذا أكرر تلك المعاناة…”. 151 / (يتبع)