ما فتئ الفلسطينيّون يغرسُون أشجارَ الزّيتُون ويرفعُون أغصَانَها الخضرَاء
د. محمّد محمّد خطّابي
كلما حلّت هذه الذكرى يقوم الفلسطينيّون بفعاليات وتظاهرات كبرى إحياءً لها، وتحتفل معهم كلّ الشعوب الحرّة المحبّة للسّلام المتعاطفة مع قضيتهم العادلة، المتفهّمة لمطالبَهم المشروعة في مختلف أرجاء المعمور.
ويعمل الفلسطينيون في هذه المناسبة على تجديد تشبّثهم، وتأكيد تمسّكهم والإعراب عن تعلّقهم، وحضنهم لأرضهم الغالية إخلاصاً، وولاءً، وذوداً، ودفاعاً عن هذه البقاع الطاهرة التي رؤوا على ثرى أديمها نور الحياة ..
وقد دفعت حالات الهلع والرّعب الكيان الصهيوني إلى رفع جدار العار ليفصلوا بينهم وبين أرضهم، وبهدف تضييق الخناق على المواطنين الفلسطينيين الذين كتبوا ونقشوا وحفروا ونحتوا على واجهات هذا الجدار عبارات وشعارات ورسومات التحدّي، يجدّدون فيها العهد ويؤكّدون العزم على الوفاء لأرضهم الأمّ الرّؤوم لكلّ فلسطيني أينما كان.
من المعروف انّ الجماهير الفلسطينية طفقت في إحياء “يوم الأرض” غداة استشهاد ستة من المواطنين الفلسطينيين في الثلاثين من شهر مارس من عام 1976، وعندما جرى الإعلان عن الإضراب الشامل في هذا التاريخ، حيث تفاقمت حدّة المواجهات؛ وهو ما أفضى إلى استقدام واستخدام إسرائيل للدبّابات، والمجنزرات للاقتحام القرىَ والضِّيَع والأصقاع والمداشر الفلسطينيّة..
وقد عبّر الشعب الفلسطيني، منذ ذلك التاريخ، لإسرائيل المتعنّتة أنهم لن يتنازلوا عن أراضيهم مهما كان الثمن غالياً. كما عبّروا عن استعدادهم للتضحية بالنّفس، والنّفيس من أجل هذه الغاية الشريفة.
وما فتئ الفلسطينيون – رغم التضييق عليهم والتنكيل بهم – يغرسون أشجارَ الزيتون في أراضيهم إلى اليوم، ويرفعون أغصانَها الخضراء النديّة عاليةً في الفضاء ناشدين السلام، مع احترام وصون حقوقهم المشروعة واسترجاع أراضيهم المغتصبة المحتلة ، وتحت مختلف قِباب المحافل والهيئات والمنظمات الدوليّة تعبيراً منهم عن حبّهم وتمسّكهم بأرضهم ونزوعهم للسّلام. وما انفكّت قصاصات الصّحف ووكالات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعية على اختلافها تمطرنا وتعيد إلى أذهاننا في كلّ حين شذرات من الأخبار والأحداث التي كانت، والتي ظلّت راسخة في ذاكرتنا، وتعيدها إلينا في هذا التاريخ الذي يتمّ فيه إحياء كلّ عام ذكرى يوم الأرض الذي كان صرخة احتجاجية مدوّية صاخبة في وجه سياسات المصادرة والتهويد التي نهجتهما إسرائيل ضدّ السكّان الفلسطينيين الآمنين في العديد من الأراضي والقرى والمداشر والعشائر والأرباض لإقامة المزيد من المستوطنات في نطاق المخطط الصهيوني لتهويدها، وتفريغها من سكانها الشرعيّين الأصليين..
إنها أحداث تاريخية متوالية مؤلمة خبّأها القدر لأبناء فلسطين البررة الذين تمّ إبعاد العديد منهم خارج وطنهم وأرضهم، وعن ذويهم وأحبّائهم وخلاّنهم قهراً وقسراً وعُنوة، فانتشر منهم الكثير في بلاد الله الواسعة في غياهب المهاجر ومنازل الاغتراب، من أقصى أصقاع العالم إلى أقصاه؛ ولكنّهم على الرّغم من نأيهم عن أرضهم وبُعدهم عن وطنهم ظلّوا مشدودين إلى جذورهم بالجَلد والأناة والتحمّل والتمرّس والتمنّع والمواجهة والمقاومة والتحدّي والإصرار والفخر والنضال الذي لا ينضبّ لهيبُه ولا يفترّ إصرارُه ولا يخبُو أوارُه..
ونستحضر بهذه المناسبة ذكريات أليمة عاشها الشعب الفلسطيني، حيث عملت الصّهيونية العالمية منذ إبعادهم واقتلاعهم، وإقصائهم عن بلدهم عام 1947 بلا كلل ولا ملل وبدون هوادة من أجل القضاء ليس فقط على هذا الشّعب واستئصاله من جذوره، وطمس شخصيّته واجتثاث هويّته ومحو كلّ أثر له؛ بل إنّهم حاولوا محوَ حتى خغرافيته وتغيير تضاريسها، وعملوا على تشويه تاريخه وطمس تراثه في حملات لا تنقطع باستعمال مختلف ضروب الحيل والأكاذيب الدسائس والخسائس والمكر والمكائد لتحقيق هذه الغايات الدنيئة. ثمّ انطلقت الثورات والانتفاضات الواحدة تلو الأخرى، حيث طفق هذا الشّعب في كتابة صفحات جديدة من تاريخه النضالي المجيد، حاملاً الى أعلى رمزَ كفاحه ونضاله وتمرّده الكوفية الفلسطينية المُرقّطة أو المنديل الفلسطيني المُميّز وأغصان أشجار الزيتون الخضراء، والعمل على صون هويّته والحفاظ على جذوره، واستعادة ذاكرته التاريخية والثقافية والتراثية الجماعية لاجدادهم الميامين.
وما برحت الآلة الحربية الإسرائيلية تقتّل وتنكّل بهذا الشعب ،وتزجّ بأبنائه وبأحفاده في غياهب وظلمات جحيم السّجون، ليُحْرَمُوا ليس فقط نعمة الحياة الكريمة وصلة الرّحم مع ذويهم وأهاليهم وأقربائهم؛ بل ليُحْرَموا كذلك قوتهم اليومي لسدّ الرّمق والعيش الهانئ الرّغيد، وما انفكّت الأنفس تتنفّس الصّعداء على مرّ الأيام .
الأشقّاء والأصدقاء من المتعاطفين مع قضيتهم المشروعة لم يدركوا بعد أنّ المسألة إنّما هي مسألة بقاء أو لا بقاء، فمنهم مَنْ ما فتئ يذرف الدّموعَ حرّى ساخنة، وينزوي بنفسه لينظمَ لنا كلماتٍ شعرية مسجوعةً، مشحونة بالغضب والحنق والضنك والانتقام.. وتمرّ الأيام، وتنقضي الليالى، وفي رَحِمها، وخضمّها تتولّد وتنبعث وتستجدّ الأحداث، وينسون أو يتناسون ما فات، المآسي ما زالت تتوالى وتنثال أمام أعينهم، وعلى مرأى ومسمعٍ منهم، فيشاطرهم العالمُ طوراً أحزانَهم، وأحياناً يجافيهم. ويكتفي بعضُهم بالتفرّج والتحديق والتصفيق والتهليل والتعليل والتحسّر والتأثّر من بعيد بلغة باكية شاكية كئيبة حزينة مذلّة، أمّا الآخرون فإنّهم يتعنّتون ويتمنّعون ويتمسّكون بكلّ شبر من أراضيهم السليبة وبكلّ مدينة او قرية او ضيعة عَلِقوا بها، يبسطون نفوذَهم، وتأثيرَهم ليس على الأرض فقطا، بل على شغاف الأفئدة، و اعطاف الألباب، و ثبج العقول، والألسن، وهم ماضون في تحدّيهم، مُتمادون، مُمْعِنُون في كبريائهم.
ما اكثر لوحات الشّرف المُزركشة تملأ حيطان دورَهم، وتعلو جدرانَ قصورهم وبيوتاتهم، وما أكثرَ النياشين والأوسمة التي تتنمّقُ وتتشدّق بها صدورهم، وما أكثرَ ما يعودون الزمانَ القهقرىَ ليعانقَوا التاريخ، وليستلهموا منه العبرَ والحِكمَ والتجارب والدروسَ، وينقبون عن مناقب جديدة لاستئناف مسيرتهم! ولقد علّمتهم الأيام، ولقنتهم الليالي أنّ الآخرين قد إقتدّت الرّحمةُ من قلوبهم، وكأنّها قلوب صيغت من فولاذ صلد، لا يميّزون بين الصّغير والكبير بدون رحمة.. وما انفكّ العالم ينظر، ويتفرّج بلا مبالاة.
وما لبث الأشقّاء، والأصدقاء يستذرّون عطفَ العالم ورضاه، ويَسْتَجْدُون رحمته وعطفه، وتأييده ودعمه ، ويصفون له فداحةَ الأهوال وسوءَ الأحوال وقساوة الفظائع التي تُرتكب في حقّ شعب أعزل، إنّهم قومٌ حالمون ومُنبهرون منشغلون بإطفاء الأوار المستعر وسط ساحات وميادين حواضرهم، وحول مرابضهم وأرباضهم وداخل بيوتاتهم وأحيائهم.
إخواننا الفلسطينيون ما برحوا يعانون بعض الشّقاق الداخلي، ويواجهون لعنة التشرذم وفتنة الخلافات، وكاد التصدّع أن يُصيبَ صرحَ الوحدةَ الوطنية المنشودة، والأمل دائماً معقود ومنشود على محجّة التصالح والتسامح والتصافح والتقارب والتصافي وإقصاء التجافي والتداني والتفاني ورأب الصّدع والتئام الفصائل ولمّها، والبحث عن البدائل، وتسخير وتفجير كلّ الطاقات، واتستغلال كلّ الخِبْرات، والنبش في التراب والتراث، وفي الثّرىّ.
تاريخنا حافل، وماضينا مجيد، وتراثنا زاخر. إننا قومٌ كُثر، والكثرة تعني القوّة، قالها ذات يومٍ فارسٌ من حيّهم: (لا يسألون أخَاهم حين يندُبهم / في النائبات إذا قال برهانَا…) ! وقال آخر إنّهم دائماً: (حشدٌ على الحقّ عيّافُو الخَنَا أنُفٌ / إذا ألمّت بهم مكروهةٌ صَبرُوا….)! (وأردف آخر: (وأقسم المجدُ حقّا ألاّ يحالفُهم / حتى يحالفَ بطنَ الرّاحة الشّعرُ..) ! وأضاف آخر منهم جاهراً : (تُعيّرنا أنّا قليل عديدُنا / فقلت لها إنّ الكرامَ قليل…)! وعلى الرّغم من هذه الذخائر والنفائس والأنفة والشّموخ والسّؤدد والعزّة ، فإنّ أعوادَنا ما برحتْ هشّة، ضعيفة، طريّة،ليّنة، واهية!
إنّهم قوم رحماء بأنفسهم، وبذويهم، وأقربائهم، يذودون عن حوضهم وجيرانهم بسلاحهم، مشهود لهم ومشهورون بالصّفح والتسامح والإيثار..! رحماء فيما بينهم، وهم معروفون بالجَلد واللين، والبأس والشدّة، والقوّة والرّخاوة، والصّلابة والطراوة!، حتى وإن كانت بهم غِلظة، وفظاظة، وحتى وإن كانت بهم أثَرَة وكبرياء. إنهم معروفون بهذه الثنائية المُركّبة التي تقوم على طرفيْ نقيض والتي طالما تغنّى بها نبغاؤهم،وحكماؤهم، وشعراؤهم، إنهم ما إنفكّوا يُردّدون في كلّ حين مُنبهرين بصوتٍ جهوريٍّ عالٍ:
(نحنُ قومٌ تذيبنا الأعينُ النّجْلُ /على أنّا نذيبُ الحديدَا…)
(طوعُ أيْدى الغرامِ تقتادنا الغيدُ / ونقتادُ في الطِّعان الأسودَا…)
(وترانا يومَ الكريهة أحراراً / وفي السِّلمِ للغوانيِ عبيدَا) ..!
كلّ واحد منهم مرسوم على محيّاه الجانب العبوس المقطّب من وجه “موناليزا أو “الجيوكاندا” للإيطالي النهضوي النّابه ليوناردو دافينتشي، فلا هو بالحزين، ولا بالجَذِل، ولا بالباسِمِ ولا الباكي الشاكي، يومُه قائظ مُستعر، وليله شاحب مُكفهرّ، وغسقه صقيع مُنهمر، وشفقه مُزهر مُزدهر… كلّ يَحمِل هُمومَه، وقلقَه، وهواجسَه، ونكدَه، وضنكَه، وأوهامَه على كاهله ويمضي، ولا أحدَ يبالي بآلامه ونكده، أو يكترث بأحزانه ومعاناته!..