سوزان باشلار: تقديم كتاب شظايا شعرية النار (1-2)
ترجمة: سعيد بوخليط
خلال سنة 1959، بعد إصدار أبي غاستون باشلار كتابه شعرية المكان (1957)، وكذا تسليمه الناشر مسودة عمله شعرية التأمل الشارد، تحول وجهة الاشتغال على كتاب جديد، امتثالا لدواعي رغبة سكنته منذ مدة طويلة، تتجلى في استلهامه مرة أخرى موضوعة النار، التي دشَّن بها سابقا دراساته حول العناصر، لكن وفق مسار اهتمام مختلف تجلت مقدماته بين طيات ”الشعريتين”. وقد ألمح أبي إلى سعيه بين فقرات النصوص التي تضمنها هذا العمل.
حينما يباشر أبي كتابة عمل ما، بعد قراءات عدة، وكذا تدوين ملاحظات كثيرة، يبدأ ببداية الكتاب، يضع تصميما للمقدمة، تحديدا بداية المقدمة، أحيانا يكتب ملاحظة على الهامش: ”بداية ممكنة”. يشتغل وفق آليتي الاستعادة وكذا التقويم. لايشطِّب قط على أيّ شيء. بل يعلِّق أسفل العبارات المقصودة بقوله: “كُتِبَ ثم أعيدت صياغته”. صفحات كثيرة، لم يميِّز معها سوى تلك الجمل الأولى التي حظيت لديه بقيمة ديناميكية.
أتذكر بأنه حين قراءته ”مناجاة” فريديريك شلايرماخر، حدثني بتقدير كبير عن ”ضربة القوس الكبيرة” التي شَكَّلت بداية للكتاب.
كتابة الصفحات الأولى، يعني التأهب، استلهامك الثقة. ترسم هذه الصفحات، مسار اهتمام تجلت ملامحه بما يكفي حتى يصبح مرشدا أولا، ثم انطلقت المهمة، ضمن إطار يحكمه الذهاب والإياب بين المقدمة وكذا فصول الكتاب.
هذه المرة، الكتاب المتوقع إنجازه،أضحى مجرد ”ورش” كي أستعيد تعبيرا لأبي. لم يبق الكتاب قابعا في الرفوف يترقب إتمام فصوله. لكنه اتخذ نماذج عدة بحيث تضاعفت الاهتمامات وتقاطعت. استعصى الاختيار ثم بات مفتوحا، بحيث توخى أبي الالتزام بتجربة شعرية مبدعة.
حدَّد بداية مشروع الكتاب تحت يافطة عنوان ”نار حية”. أعيد هنا، توثيق المعطيات الأولى للمخطوط الأصلي، مثلما انطوى عليها ملف مخبأ يحمل عنوان ”نار حية”:
”تتحسَّس ثراء حميما عندما تتأمل شعلة مدفأة تدفئ وتضيء، تخلق حينها نارا ممسوسة بعمق، ثم يتجلى كل الامتداد الوجودي الذي ينبغي أن يدرسه تحليل نفسي لنار نحياها. يصف هذا التحليل النفسي، إذا أمكنه العثور على تآلف بين الصور، استبطان قوى الكون؛ ندرك بأننا أصبحنا نارا حية بمجرد انقيادنا خلف صور، يميزها تعدد مذهل تقدمه لنا النار، النيران، الشُّعل وكذا المداخن. وأكبر درس نصادفه مع تحليل نفسي لنار حية، فربما إرشادنا إلى تحليل نفسي للكثافة – محض كثافة – كثافة الكائن. إذا تأتى أن نظهر أصلا بأنَّ كائن النار يعتبر كائن كثافة، بوسعنا محاولة استعراض ما يقابل ذلك. يصعد الكائن داخلنا وينحدر، يتوهَّج أو يكفهر، دون قط الاستكانة إلى ”حالة” بعينها، يعيش دائما ضمن تباين توتره. ليست النار قط ثابتة، تحيا عندما تنام. باستمرار، تنطوي النار التي نحياها على إشارة المتوتِّر. تعتبر صور النار، مدرسة للكثافة، سواء بالنسبة للإنسان الحالم أو المفكر. لكن، قصد الاستفادة من هذه الصور المكثَّفة خياليا، سنتخلص من فظاظة كثافة مغايرة تسري سريعا جدا بين العضلات. إذا نجحنا كي نميِّز حقا، نيران الأنيموس والأنيما، سنرى بأنَّ العذوبة، النار الناعمة، نار الأنيما، يمكنها حقا استيفاء صفة زخم العذوبة، وسمة كثافة عذبة”.
”حينما ندرس المقاربة النفسية لنار نعيشها ضمن مداها، تتأتى لنا ألف فرصة كي نحس بكل تداعيات الصفة على الاسم. نرسم أنطولوجيا حول الصفة.عندما نتخيَّل، بعيدا جدا، جوهر المواد – بعيدة جدا خارجنا، بعيدة جدا داخلنا- ثم يحيا الخيال بكيفية أفضل بين طيات حركة الصفات.يمكن لحظتها فعلا للنار الحية تحديد أزمنة مُعاشة، ترصد الحياة المنسابة، المتموجة، وكذا الحياة المنبثقة. لاتعرف الحياة الزمنية للنار، سوى نادرا جدا، طمأنينة الأفقي. النار دائما، تبعا لحياتها الخاصة، بمثابة انبثاق. حين سقوطها، تغدو النار دفئا أفقيا، السكون داخل الدفء الأنثوي”.
”نلامس، إذا أمكن، التناقضات الحميمة للتحليل النفسي للنار، في إطار جدلية الأنيموس الأنيما، أن ندرس النار والدفء باعتبارهما قطبين للخيال. نحتاج بهدف تحقيق تحليل نفسي متكامل، العيش عند حدود قطبي كائننا المخنَّث. بوسعنا إذن تلقي النار في خضم عنفها وكذا طمأنينتها، سواء مثل صورة الحب، أو صورة الغضب”.
صفحة حاسمة تطبع اللحظة الحاسمة، على مستوى إعادة توجيه قياسا لتأملات قديمة حول النار. تتلاشى كل مسافة نحو نار مذهلة. حين تناول انبثاق النار، يشارك الكائن في النار، بحيث يصبح بدوره منبثقا. شكَّل مصطلح المُعَاش سمة استبطان للنار في خضم التجربة المتخيلة للإنسان وقد أصبح نارا حية. استبطان استشرفنا الإخبار عنه في شعرية المكان وكذا شعرية التأمل الشارد وفق مفهوم ”الصدى”.
أوضحت عبارات هذه الصفحة انعطاف مسار انطلق من نظرية للعناصر ثم بلغ تقييما للصفة في إطار حركتها. هكذا، ينفتح تماما البعد العمودي للتسامي. يعيش الكائن بزخم، عبر مشاركته المتخيِّلة لزخم النار؛ بل ويعيش بتوقد ”تناقضات” النار المنبعثة وتنحدر إلى ”جدلية” الأنيموس والأنيما.
فيما بعد، تخلى أبي عن عنوان ”النار الحية” لصالح عنوان” شعرية النار”، لكن دون تخليه عن مشروعه الأصلي. لقد تقاسم معي، مرات عديدة، هواجس تردداته: العناوين، وسائل لتحديد هويات الكتب، مختصرات قد تفضي إلى سوء فهم. خشي من أن يستوحي القارئ من عنوان ”نار حية” إغواء جديدا للمذهب الوجودي، ظل غريبا عنه.
من جهة ثانية، حظيت نار الأنيموس بالامتياز، النار المنبعثة والفعالة، كعمل أولي بخصوص تصميم شعرية النار، التماس مباشر من طرف فيلسوف الفكر الفعال والمتوثِّب، الذي يتوخى باستمرار التطور من خلال تجدده. شيئا فشيئا، تبلورت فكرة الاحتفاظ بتيمة ”حية” لنار الأنيما، راحة وكذا دفء النار التي نحلم بها. عموما، تبدو إلحاحية المبادرة كي نتحدث قليلا عن معنى تلك التيمة.
يعلن أبي عن مخططه، مع نهايات كل مقدمات مؤلفاته.هذا الإعلان ليس مجرد اختيار منهجي؛ لكن يتعلق، بالسعي إلى تحدي التوقع، مع تمتعه بحرية إعادة النظر في هيكل المخطط وتعديله، ثم الاطمئنان إلى مستقبل هذا الكتاب.
كشف أبي سريعا بين تضمينات أول تدبيج لمقدمة “شعرية النار”، عن مختلف موضوعات الجزء الأول المنصبة حول نار الأنيموس كما استهل تبرير اختياره موضوعة ”نار حية”: ”لقد رتبنا مختلف الفصول ضمن الجزء الثاني من دراستنا، تحت عنوان عام ”نار حية”. تكمن إحدى شعارات الظاهراتية التطبيقية في تحديد التجارب التي نختبرها. لكن، غالبا ما يضمر هذا بامتياز أشياء في كلمة واحدة. تتبدى باستمرار كلمة مُعَاش وفق ريشة فلاسفة زمننا، من خلال كلمة تطالب.
بالتالي كتب أبي ضد فلاسفة آخرين اعتبرهم لايلامسون المُعَاش، ويكتفون بالوقوف عند حدود تجربة التجريدات الوهمية، بحيث تتدنى مرتبة ”الوجود” لديهم ويقتصر اهتمامهم على الفكر.لاتبدو لنا المسألة على قدر من البساطة ومادمنا سنتكلم عن نار حية، فيلزمنا شرح مضمون ذلك، منذ المقدمة الحالية”.
نصدر من خلال نموذج العمل الحالي، النسخة التي نقِّحت وعُدِّلت على ضوء التوضيح الذي انطوت عليه الإشارة السابقة.
وضع أبي المقدمة ضمن أفق سياق ورش مفتوح ثم انكب على تدبيج مضامين أولى أجزاء الفصل الأول. انصبت سلفا وجهات ملفات حول موضوعات طائر العنقاء، بروميثيوس، غضب النار، أمبادوقليس، تداخلت في إطار سياقها مقاطع من الصياغة، وكذا ”بدايات ممكنة”، ثم ملاحظات على ضوء القراءة. أخيرا، تبلورت ثلاثة فصول، انطلاقا من هذه الموضوعات.
تطرق الفصل الأول حول طائر العنقاء، بحيث تأرجحت تلك الخطوط العريضة وفق إيحاءات عنواني: ”العنقاء، الصورة التركيبية للحياة والموت”، ”الشاعر وطيور العنقاء”، ثم وقع الاختيار في نهاية المطاف على عنوان: ”العنقاء، ظاهرة اللغة”.
بعد ذلك، حدث الحسم على مستوى الإعداد النهائي للفصل الثاني، ”بروميثيوس” (انطوى على مخطط مؤقَّت، استطرادات جزئية وكذا جملة تعليقات على نصوص) استُثمرت الأوراق المهيَّأة حول”أمبادوقليس” وكذا ” غضب النار”، قصد تشكيل لبنات فصل واحد، الثالث والأخير من القسم الأول للكتاب، لكن استعصى أمر العثور على وحدة.
تعمد هذا القسم أن يختار استثنائيا وجهة النار الذكورية، ولم يعد في وسع أبي الاحتفاظ بعنوان: ”النار والتدمير الحي”، كما تصوره خلال حقبة ارتأى إبانها إعطاء كتابه عنوانا عاما: ”نار حية” تضمَّن موضوعة الأنيما. عديدة الصفحات التي شغلت ”أولى صفحات” هذا القسم.
أدرج هنا الإشارة التي انطوت عليها صفحات نسخة أولى، ثم أعطتها مكانة ارتقت بها كي تجسِّد روح تلك ”البداية أكثر اندفاعا” (تشير ملاحظة هامشية إلى مايلي: “أفضِّل ببساطة عنوان ”تدمير” لهذا القسم”): ”يسعى الفيلسوف نحو المطلق. يحترس من الصور، و لايحتاج إليها. تكفيه الأفكار. تكمن أفكار سريعة جدا ليست قط بأفكار فعالة. كما الشأن مع فكرة العدم. يطبِّقها الفيلسوف على كل شيء، دون إدراك بأنَّ ”تطبيق” فكرة معينة يمثل المقياس الوحيد لحقيقتها، وكذا فعاليتها. هكذا، لايُعالج العدم، الخلاء، اللاشيء، مثل ورقة مُمَزَّقة. السلب إجرائي دون تردد. يسمح للمفكر بانقلاب على سيادة الأفكار. يجعل منها بجرة قلم، حقيقة أخرى رخيصة، دون عناء، دون مسؤولية. يسود الفيلسوف – هذا الملك بدون مملكة- بفضل آلية النفي. لكن التدمير بمثابة عمل ثان غير النفي. لانعرف قط إن انتهت المهمة، واحتفظ العالم بأثر ما حطمناه. خاصة،أننا لانعيش قط وئاما مع ذواتنا حينما نمتلك روح التدمير.يلزم تحطيم ذلك المدمِّر. يسكننا الانهيار”.
الصفحات اللاحقة استعيدت وأدمجت ضمن صفحات مسودة متأخرة كشفت عنها طبعة الإصدار الماثل بين أيادينا.
هناك ملاحظة، تعود إلى تاريخ 24 دجنبر 1959: ”أحبذ الذهاب فورا إلى أمبادوقليس”، لايشير ذلك إلى تخلٍّ عن موضوعة التدمير، بل إعادة تركيز لهذا المبحث: “أمبادوقليس، كائن التدمير الأساسي”. أعاد أبي ترتيب الصفحات الأولى ثم وضَّبها تحت عنوان: “أمبادوقليس”.
سنة 1960 وكذا خلال النصف الأول من سنة 1961، واصل كتابة هذا الفصل وكذا الفصل المخصص لطائر العنقاء. في نفس الوقت، تركز تخمينه حول فحوى القسم الثاني من كتاب، عنوانه ”نار حية” تمحور منذئذ على موضوع نار الأنيما.
أعاد قراءة موضوعات مختلفة، لكن دون تهيئ ملاحظات تحضيرية – بعضها كان قديما جدا – حول موضوعات متنوعة : السخونة، الانصهار، رؤى وأحلام الاحتكاك، نار الخيميائيين. بشكل مفارق، تعددت المشاريع، مع إدراكه خلال الوقت نفسه استحالة تحقيقها. يصبح المرض ثقيلا أكثر فأكثر، وبالتالي الخشية من زمن أضحى محدودا وثقيلا أكثر فأكثر.
ملاحظات استُعرضت يوم 18 ماي 1961، وتتابعت متواليتها ضمن ملف تحت خانة ”نار حية”. لكن ورود تأويل تضمنه هامش المقدمة وتكرره، يعكس أولى مظاهر التردد: “لن أنطلق من نقد لاذع حيال المُعَاش. سأختبر إمكانية إنجاز مبحث نهائي حول نار حية. إذن أستعيد ثانية هذه الصفحة ”نار حية”: ”دمج للفصول في القسم الثاني؟ أو فقط الجزء النهائي؟ أو ربما أيضا الإلغاء؟ أو كذلك احتمال تهيئ كتاب ثان بعد ”شعرية النار”؟ هكذا تجلت مؤشرات تردداته.
أخيرا، وأمام استحالة تنظيم مواد متنوعة جدا، إبان فترة تميزت بضغط مساحتها الزمانية، وحدس أبي أكثر فأكثر دنو أجله، بالتالي تخلى عن فكرة كتابة الجزء الثاني من الكتاب. هكذا، عرفت النهاية المفترضة للمقدمة تعديلا، بحيث توضِّح ملاحظة يعود تاريخها إلى 10 يونيو 1961، الإشارة التالية: “مع نهاية المقدمة (10 يونيو 1961) وقد قررت الآن عدم كتابة الصفحات التي أعددتها حول نار نحياها، أودُّ القول: الآن انتهيتُ من المهمة التي تبنيتها بإعطاء أمثلة تنهض على تحليل نفسي للأنيموس، اكتسحتني كآبة معينة (كما لو أنَّ الأنيما التي تسكنني تنتقدني لكوني لم أفسح لها مجالا للحديث).
“أدرك جيدا بأنه لازالت لدي الكثير من الرؤى للحكي بصددها، وعدة تأملات شاردة عاطلة عن العمل، بخلاف التي قاربناها ضمن صفحات العمل الحالي. ستتناول الأنيما الكلام ثانية.لكننا لانريد استحضارها في هذه البداية”.
ربما نتيجة مقاومة غامضة، تَرَكَ الموضوع إلى حيز مقاربة ثانية، إشارة عن حميمة احتياطية، نار سخونة متناغمة لايمكننا نسيانها، لكنها أيضا النار التي يصعب أن نحياها ثانية، مرتين، حسب مُعاش الذاكرة و المتخيَّل.
*المرجع:
1988 .PP 4- 22. Gaston Bchelard :Fragment d une poétique du feu ;P.U.F