القراءة بوصفها محاولة للقبض على النص
مصطفى معروفي
كل نص يفترض وجود قارئ، ونحن عندما نكون أمام نص ما، كان نصاً شعرياً أو أي نص آخر، نكون في مواجهة معه، مواجهة تتطلب منا أن نكون مسلحين بالأدوات اللازمة كي ننفذ إلى أعماقه، أوعلى الأقل نقاربه ونلامسه. ذلك أن النص يتخفى ولا يسلم نفسه بسهولة إلى القارئ، لذا فهذا الأخير بحاجة إلى قراءة ماكرة تجعله في مستوى النص، وفهم ما يريد أن يقوله. إن القارئ بدون هذه القراءة لا يجني من النص شيئاً ذا قيمة.
لكن هذا النص الذي نغازله ونسعى إلى ترويضه يمكن أن نمسك بخيوطه أو على الأقل ببعض خيوطه انطلاقا من تأمله تأملاً واعياً يراعي مجموعة من الاعتبارات منها الدوافع والعوامل الأساسية وراء إنتاجه من لدن الكاتب.
لقد قلنا في مناسبات أخرى وسنظل نقول بأن اي قراءة ليس من حقها الادعاء أنها قادرة على التمكن من النص واحتوائه، إذ مثل هذه القراءة، رغم أنها غير موجودة أساسا،تروم خنق النص وقتله، والنص بطبيعته لا يقبل مثل هذه القراءة. وأعتقد أن الكاتب نفسه لا يريد لنصه مثل هذه القراءة، والقارئ الفطن لايميل إليها ولا يحبذها.
إن الكاتب عندما يهم بكتابة نصه يكون مدفوعا بدافع ما، نسميه رغبة أو هما أو قلقا أو إغراء أو نسميه لذة الكتابة. الكاتب عبارة عن مجموعة من العناصر التي تشكل بنيته الفكرية وخلفيته الثقافية، والنص هو بمثابة حامل أو وعاء لما يصدر عن الكاتب، أفكار الكاتب هي النص المكتوب، أي أن الكاتب هو نصه.
الذات التي تنجز نصاً على مستوى الكتابة متأثرة بالواقع ومؤثرة فيه، إنها بتعبير آخر إما متصالحة معه أو تخوض الصراع ضده، فهي تنطلق من إنجازها للنص من مبدأ الرفض أو القبول، من التغيير أو التكريس، والنص بطبيعة الحال يعكس هذا الواقع، يعكسه بطرق مختلفة وبدرجات متفاوتة في الدقة، والقراءة هي الأداة التي تجعلنا نتلمس ونتعرف هذه الطرق وهذه الدرجات.
القراءة تعني في ما تعنيه التتبع، ونحن عندما نقوم بفعل القراءة نقوم في الواقع بتتبع خطوات الكاتب كلمة كلمة وفكرة فكرة، والآن نطرح هذا السؤال: هل هناك قراءة واحدة للنص؟
لا شك أن هذا السؤال فيه شيء من السذاجة، ذلك أنه منذ البداية نحن نعرف أن النص الواحد يمكن أن تتعدد قراءته، ليس للنص الواحد قراءة واحدة. القراءة الواحدة والوحيدة هي تعسف على النص، ونفي لطبيعته التي تقبل القراءات المتعددة، والقراءة قبل هذا وذاك محكومة بضوابط حتى لا تخرج عن مجالها الذي تتحرك فيه، فالقارئ الذي يتعامل بنيوياً مع النص يتوصل إلى نتائج تخالف ما توصل إليه قارئ آخر لنفس النص تعامل معه تأثرياً، فاختلاف القراءة يؤدي حتما إلى اختلاف في النتائج المتوصل إليها من النص الواحد.
نستخلص من هذا أن القراءة هي التي توجد مضمون النص وتبرزه، ولا نعني بهذا أن الكاتب كتب نصه بلا مضمون، فحتى الدادائيون كانوا يعتبرون نصوصهم ذات مضمون، ونحن لا نطالب الكاتب بإبراز مضمون نصه، فهو قد قال ما أراد قوله وترك أمر النص لنا، نتوصل إلى مضمونه أو مضامينه بوسائلنا الخاصة وبالكيفية التي نرتضيها.
تعدد القراءة يجعل النص يتمظهر بأشكال مختلفة، شكلا ومضمونا، والتعدد إياه إغناء للنص وإثراء له، ونحن نعتبر التعدد إثراء حتى ولو كانت بعض القراءات في حكم القيمة خاطئة، ويمكننا الآن أن نتحدث عن بعض القراءات.
القراءة الشارحة:
هذه القراءة تتناول النص من حيث هو كلمات مستقل بعضها عن بعض أولا، ثم من حيث هذه الكلمات ذات علاقة في ما بينها، مكونة بذلك عبارة أو جملة ثانيا. هذه القراءة تفترض أن النص يمكن الوصول إليه من خلال شرح كلماته لغة واصطلاحا، لأنها تراه عبارة عن كلمات فقط، كلمات مترابطة فيما بينها لإنجاز مضمون ما، وهذه القراءة وإن كانت ذات أهمية وخطر فهي تكتفي بالوقوف عند السطح، ولا تكلف نفسها عناء البحث والتنقيب عن خفايا النص،والكشف عن الإمكانيات التي يحبل بها.
القراءة التفسيرية:
هذه القراءة تعتبر نفسها صورة للنص، إنها نص يعادل من حيث المضمون نصا آخر سابقا عليه، وتفترض هذه القراءة أن للنص مضموناً واحداً، وتزعم أنها وإن اختلفت أساليبها فإنها تؤدي إلى نتيجة واحدة هي المضمون الوحيد للنص.
تتجلى سلبية هذه القراءة في كونها تفتقر إلى القدرة على جعل النص يشع بألوانه وأطيافه المختلفة، ومده بما يتيح له الفرصة للكشف عما يحبل به من إمكانيات، ثم هي في نهاية الأمر تجبره على الظهور بالمظهر الواحد، وكأن المظهر إياه هو المضمون الحقيقي ولا مضمون آخر سواه.
القراءة التأويلية:
تنظر هذه القراءة للنص كمضمون متعدد،وهي إذ تشتغل عليه تسعى لإعطائه إمكانية البحث عن نفسه. فالتأويل ينطلق من كون النص ذا مضامين، فيها الراجح وفيها المرجوح، ويتعامل أي التأويل مع النص بالترجيح لا بالجزم والحسم. ويستفاد من القراءة التأويلية بأنها قدرة النص على التحلي بصور ووجوه متعددة هي الصور والوجوه التي أنجزتها الذات القارئة، كما يستفاد من التأويل بأنه صرف النص عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يقتضيه اللفظ ويقبله السياق.
حقيقة إن هذه القراءة تثير مجموعة من التساؤلات، أهمها لدي هو: ما هي مشروعية هذه القراءة؟
لا مشاحة في أن القراءة التأويلية تمنح النص قوة للتفجر، وتجعله حرا طليقا، ومشروعيتها في نظري تتوقف على القارئ الذي أنجزها، وعلى النوايا والأدوات التي بواسطتها أول النص. ذلك أننا نفهم من القراءة التأويلية بأنها إخضاع النص لرؤية القارئ، إن حضور الكاتب صاحب النص في هذه القراءة يبدو قليل الأهمية والشأن، فالقارئ يلون النص بالألوان التي يشتهيها وبالمنطق الذي يراه مقنعا. وخطورة هذه القراءة تكمن في كونها لا تعترف للنص بوضعية واحدة معينة هي مضمونه، مما يوحي بأن النص لا مضمون له، وإنما يخلقه القارئ خلقا، وهذه القراءة لا تزعم بأن الكاتب كتب نصا بدون مضمون، بل ترى أن ما تذهب إليه هو ما أراده الكاتب، أي أن ما توصلت إليه من النص هو المضمون الذي أراده الكاتب وكتب من أجله النص.
القراءة الأيديولوجية:
هذه القراءة قريبة الشبه من القراءة السالفة، بيد أنها تختلف عنها في أنها لا تفتح للنص آفاقه الممكنة، فالذات المنجزة لفعل القراءة تجبر النص على أن يتماشى مع النسق الأيديولوجي الذي يلتزم به القارئ. ونحن إذا أمعنا النظر فيها لألفيناها قراءة تأويلية بالأساس، بيد أنها تلغي كل تأويل لا يوافق مسار القارئ الأيديولوجي.
إن القراءة الأيديولوجية وهي على هذه الحال لا تنفي عنها مشروعيتها، فهي رغم كل ما يقال عنها تضيف للنص بعدا أو أبعادا، إن لم نقل بأنها تكشف عن هذه الأبعاد، وخطورتها كامنة في كونها تخنق النص وتثبطه بالعراقيل الأيديولوجية فتحمله مالا يحتمل، بحيث أننا في القراءة الأيديولوجية لا نكاد نعثر على حقيقة النص، ذلك أن مثل هذه الحقيقة تنعدم في القراءة الأيديولوجية، ثم إنها تزعم أن الحقيقة هي ما توصلت إليه.
تعتبر القراءة الأيديولوجية تعسفا على النص عندما لا تضع أمام عينيها إلا نسقيتها، ويكون القارئ المنجز لها مجبرا على الاتساق والانسجام مع التزامه ومذهبه الأيديولوجي. نقول هذا ولا بد أن نشير من أن هناك نصوصا تقبل مثل هذه القراءة لأنها وضعت انطلاقا من نظرة أيديولوجية.
وفي خاتمة هذا المقال نضع هذا السؤال: هل هناك قراءة ملائمة تقبلها جميع النصوص؟
إن أي جواب عن هذا السؤال لا شك سيكون متسرعا، لأننا نفترض أن لكل نص قراءة معينة، ومن الجائز أن تتعدد قراءته، أي أن النص لا يفترض قراءة واحدة له دون غيرها، وبناء على هذا نقول بأن القراءة الواحدة هي بمثابة إمساك أو محاولة إمساك بجزء من حقيقة النص.
عندما نقول قراءة فإن الذهن ينصرف توا إلى الأدوات التي يستعملها القارئ في التعامل مع النص، ومن الملاحظ أننا نجد قارئين اثنين يستعملان نفس الأدوات في قراءة نص واحد ومع ذلك يتوصلان – كل واحد وبمفرده – إلى نتائج مختلفة، بيد أن هذا الاختلاف في النتائج هو تعدد داخل الوحدة التي تفترضها القراءة إياها.
وأخيرا نقول:
إن النص يبقى أكبر من أية قراءة تحاول القبض عليه.
Visited 66 times, 1 visit(s) today