الاحتفالية: موت النقد أم موت النقاد؟

الاحتفالية: موت النقد أم موت النقاد؟
د. عبد الكريم برشيد
 
فاتحة الكلام
     د. بوعلي الغزيوي قارئ جيد لاهم ما يكتب، على أوراق الأيام والليالي أولا، وعلى أوراق الكتب ثانيا، ولقد شاركني في كثير من الاشياء، اولها عشق المعرفة، وثانيا طرح السؤال الحارق بجراة صادقة وثالثا البحث المتواصل عن المعنى في مملكة المعاني، ولقد اوحت له الاحتفالية بكثير من المقالات ومن الدراسات، والتي عرف فيها كيف يطرح السؤال، وكيف يشاغب المعرفة بالسؤال، وكيف يخالف كل النقد المسرحي، المغربي والعربي، ودائما من خلال السؤال العالم والفاهم الساعي إلى المزيد من الفهم ومعرفة، وعرف كيف يتمرد على كل الأحكام وعلى كل الاتهامات وعلى كل التعريفات المدرسية البسيطة والسطحية والساذجة في أغلب الأحيان، والتي لا حقت الاحتفالية، فكرا وعلما وفنا وصناعة، وذلك على امتداد ما يقارب خمسة عقود من عمر قرنين ومن عمر الفيتين وآخر فتوحات هذا الفارس، في الفكر والعلم مقالة جادة كتبها ومعه رفيقته في مسيرة البحث العلمي ذ. بن المدني ليلة.
     في هذه المقالة شيء كثير من الوضوح ومن الجرأة ومن الشغب الفكري، وهي باسئلتها ومسائلها تعيد الاحتفالية إلى نقطة البدء الفلسفي فيها، وتسترجع المنطلق النظري والفكري والعلمي الذي انطلقت منه، ذات ربيع من سنة 1976، ولقد أعطى هذا الثنائي الباحث لهذه المقالة عنوان (تفلسف عبد الكريم برشيد وتحطيم اصنام التضليل الدرامي المؤدلج). وهو يطرح فعل التفلسف، باعتباره فعلا في التاريخ، والذي كان له وجود قبل وجود الفلسفة الاحتفالية، والتي قد لا تكون فعلا موجودة بالأمس، والتي قد لا تكون كاملة مكتملة هذا اليوم، ولكنها بالتأكيد موجودة ومكتملة بالقوة، وذلك في مشروع فكري وجمالي وأخلاقي يحده حدان اثنان اساسيان هما الحد الكائن والحد الممكن، ولا أحد يجهل اليوم اول كتاب واخطر كتاب في المسيرة الاحتفالية هو ذلك الكتاب الذي صدر في بداية الثمانيات من القرن الماضي، والذي حمل عنون (حدود الكآذن والممكن في المسرح الاحتفالي).
    في هذه المقالة يقر د بوعلي الغزيوي وذ. بلمدني ليلة على أهمية وقيمة السؤال، ويؤكدان على أهمية هذا السؤال في البحث عن المعنى، وذلك في مملكة المعاني أو في ما يسميها الاحتفالي بغابة الإشارات أو غابة العلامات او غابة الرموز أو غابة الدلالات أو غابة الأيقونات، والتي تحتاج من يقراها ولمن يفك شفتها ولمن يخاطر بحثا عن المعنى الحقيقي في المتن الفكري الحقيقي.
    وعن هذا السؤال، في احتفائه بالمبنى وبحثه عن المعنى، يقول د. بوعلي الغزيوي وذ. بلمدني ليلة (إن وضع السؤال هو اختراق للوجود ، حيث يتحدد من خلال الصياغة التالية، في البدء كان السؤال، وولدت معه الدهشة لماذا الاختلاف؟ وهل يتحدد الاختلاف بالتنوع وبالتعدد؟ أسئلة متنوعة تتأسس من خلال عملية المصاهرة بين الواقع واللاواقع).
   وفي حوار هاتفي معه، يخبرني د. بوعلي الغزيوي بأن فشل جل النقد المسرحي، المغربي والعربي معا، في مقاربة روح الاحتفالية مقاربة علمية وفكرية سليمة، راجع بالأساس إلى محاولة معرفة الفرع في هذه الاحتفالية، من دون محاولة معرفة الأصل فيها، وهو الاكتفاء بمعرفة الاحتفالية، من خلال صورتها البرانية والخارجية، وذلك من دون البحث عن مصدرها الأساس والمؤسس، والذي هو فعل الاحتفال، وبهذا فقد كان على كل النقاد والباحثين والدارسين المغاربة والعرب، وقبل يسالوا عن معنى هذه الاحتفالية. أن يسألوا أولا عن معنى فعل هذا الاحتفال، سواء في حياة الأفراد أو في حياة المجتمعات، وأن تكون نقطة البدء في مقاربة هذه الاحتفالية الانطلاق من الأسئلة التالية:
– لماذا يحتفل الانسان؟
وبحثا عن أي شيءيحتفل؟
    هل حبا في الحياة والحيوية، ام خوفا من السكون ومن الثبات ومن الجمود ومن التكرار ومن الغياب ومن المنفى ومن الموت ومن العدم؟
   وبحسب د. بوعلي الغزيوي، فإن هذه الاحتفالية ليست مجرد تجربة مسرحية، ولكنها قارة كاملة، وفي هذ المعنى يقول بأن (اكتشاف القارة الاحتفالية الإنسانية هي بعث روحاني وابداع، يعيد لهذه الذات المنتظرة في حينها وموقعها داخل اللاتمركز البشري والمعرفة والقاري).
   وفعلا فإن الإنسان قد اكتشف قارة الاحتفال، قبل أن يكتشف النار وقبل أن يعرف كل اللغات، لأنه في الاحتفال تحدث بكل لغات الجسد، وليس بلغة واحدة من كل هذه اللغات، والتي هي لغة اللفظ وحده.
 
الاحتفالية والسؤال اليقظاني
     وهذه الاحتفالية، بفكرها وعلمها وفنها (بدأت) بسؤال واحد أوحد نعتبره آدم كل الأسئلة كلها، ابتداء من الفها إلى ما بعد يائها، والذي هو سؤال الوجود، ولقد حاولت من خلال هذا السؤال أن تؤسس وجودها، وأن تصونه، وأن تطوره، وأن تجدده، وأن تجعله يماشي الزمن، ويساير تطوره وتحولاته، وأن يسير في نفس اتجاهه نحو الأجمل والأكمل والصادق والأبعد والأسمى
لقد كانت وفية دائما لروح العصر ولمنطق التاريخ، وانحازت هذه الاحتفالية إلى الحياة وإلى الإنسان والى الطبيعة، وذلك في صفائها ونقائها وعذريتها وفي حكمتها الخفية، ولقد أكد الاحتفالي بشكل متجدد على أن أصدق كل المدارس التي أفادته، وأفادت كل المشروع الاحتفالي، بعلمها وحكمتها، هي مدرسة الوجود وهي مدرسة الحياة الابتدائية الأساسية.
    لقد انحازت هذه الاحتفالية إلى السؤال اليقظاني – نسبة إلى حي ابن يقظان – والذي اكتشف العالم وهو في الغابة وحده، والذي تعلم كل العلوم من غير معلم، وهكذا هو العلم الحق، و الذي هو علم تجريبي واقعي وحقيقي تؤسسه التجربة الإنسانية الحية والصادقة اولا، ويؤسسه التامل الفكري الحر ، ويؤسسه السؤال وحرقة السؤال بعد ذلك.
    والأصل في هذه الاحتفالية هو أنها فضول جميل ونبيل، وأنها محاولة لفهم حقيقة الناس، وذلك في عالم الناس والأفكار والأشياء، وأيضا، محاولة معرفة حقيقة العلاقة بين الناس والناس.
   وهذه القارة الاحتفالية، كانت موجودة دائما، منذ وجود الإنسان في الوجود، ولقد تم اكتشافه وإعادة اكتشافها انطلاقا من ذلك الفضول العلمي والفكري والجمالي الذي هدانا إليه حسنا وحدسنا وتأملنا الفكري، ولقد سافرنا إليه، بعد أن حلمنا بها، وبعد آمنا بوجوده في كل الأمكنة والأزمنة، بل وحتى خارج كل الأمكنة والزمن، ولقد وصلنا اليه، أو فقط خيل لنا ذلك، بعد أن رسمنا لها في مخيلتنا صورتها الأساسية والتقريبية الأولى.
    وبحسب الاحتفالي، فإنه في مجال السؤال اليقظاني، فإنه لا مكان لشيء يمكن أن يسمى الخطأ، وذلك لأن كل ما يقود إليه هذا السؤال، العذري الصادق والشفايف، هو صحيح وسليم وصادق بالضرورة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي.
(وهل يخطئ القلب ويخطئ الروح ويخطئ الحدس، إذا أمكن ان تخطئ الحواس؟
وهل هناك من هو أصدق من الأحلام المنفلتة من رقابة العقل والمتحررة من قيود الواقع والوقائع؟
وهل يصح أن تخطئ احلام الحالمين وهي صادقة دائما؟
وما هو النموذج الحقيقي للصواب؟
وهل هناك نموذج مثالي ينبغي الوصول إليه والقبض عليه؟ وما الذي يحدد درجة الخطأ والصواب في أية تجربة إبداعية، والتي هي أساسا تجربة وجودية لا يطلب منها سوى أن تكون عفوية وصادقة وشفافة فقط؟
السياق التاريخي الذي جاء فيه التجريب الاحتفالي).
   واكتشاف هذه القارة الاحتفالية لم يحدث فجأة وبدون مقدمات، ولكنه جاء تتويجا لمجهود فكري وعلمي وجمالي جاد ومجدد، في مسرح الحياة أولا، وفي حياة المسرح ثانيا، ولأنه فعل جاء في وقته وفي مكانه وفي مناخه الفكري والسياسي والاجتماعي وفي إطار سياقه التاريخي، فقد تحقق له الوجود، وتحققت له الحياة، واستطاعت أن يصبح إضافة حقيقية في بنك الأفكار والاقتراحات الفنية والجمالية، وفي كتاب (التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث) يقول الاحتفالي:
   (وفي العالم العربي، كانت المياه راكدة حتى جاءت النكسة الحزيرانية، فهزت المجتمع العربي هزا قويا وعنيفا، وخلخلت كثيرا من قناعاته القديمة، وشككت في فكره وعلمه وفنه، وأفرز كثيرا من الأسئلة الجديدة، عن طبيعة وصورة الفن الجديد الممكن، والذي ينبغي أن يساير الواقع الجديد، وأن يكون في مستوى جدة وجودية تلك اللحظة التاريخية الحاسمة، وفعلا تغيرت أشياء كثيرة في خرائط الإبداع الأدبي والفني، وظهرت كتابة أخرى جديدة، وولد فن مسرحي أكثر قربا من الواقع ومن الحقيقة معا، وتحرر هذا المسرح من المواضيع الاجتماعية التقليدية، وأصبح منخرطا أكثر في الحركة المسرحية العالمية، وأصبح يتفاع مع التجارب الكبرى في هذا المسرح، ويدخل العلم والفكر في صلب الخلق المسرحي، ولم يكن هذا الفعل التجريبي – خصوصا في بداياته الأولى – فعلا تقنيا خالصا، ولكنه كان ثورة ثقافية عامة، أو كان مظهرا من مظاهرها، وتجليا من تجلياتها المتعددة والمتنوعة، كما كان استجابة للثورة التكنولوجية العالمية، بالإضافة إلى أنه كان فعلا مع المد التحرري في أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية ومع كل الأصوات الغائبة في العالم).
    هذا الكشف او الاكتشاف، هو اساسا فعل تجريبي علمي جاء به الواقع التاريخي، وجاء احتجاجا على فنون لا تجادل الواقع، ولا تغضب ولا تتمرد ولا ترفض ولا تجادل ولا تقترح البديل الممكن، وبهذا فقد كان فعلا تجريبيا ضد السكون وضد الكسل العقلي وضد فوضى العالم.
 
القديم والجديد في الاحتفالية
     وانطلاقا من حسه التجريبي ومن قناعاته بأن الحياة مخاطرة، يقول الاحتفالي إن الاشياء الخاطئة يمكن تصويبها والأشياء الناقصة يمكن أن تكتمل بالإضافات الجديدة، والأشياء القديمة يمكن أن تتجدد بالأفكار الجديدة وبالاجتهادات الجديدة، ودور الفن هو إعادة بناء الوجود، وهو إعادة تركيبه، وإعادة ترتيب الأولويات فيه، وبهذا يصبح العادي مثيرا ومدهشا، ويكون ممتعا ومقنعا، ويكون مستفزا ومحرضا على التفكير، وعلى إعادة التفكير.
    والاحتفالية تعتبر بأن القديم لم يولد قديما، وبأن الجديد لا يمكن أن يظل جديدا إلى ما لا نهاية، مما يدل على أنه (لا جديد للقديم بشكل مطلق، ولا وجود للحديد بشكل كلي، وأن النسبية هي مقياس كل الأشياء، في عالم الأشياء، أن الأساس هو فعل التجديد الذي لا يتوقف أبدا، والذي كان دائما ومازال أساس التقدم والمدن، وأساس التحضر والتطور في تاريخ الإنسان والإنسانية، وأن هذا الإنسان المبدع والخلاق ، وعير كل مسيرته ومسارها، لم يفعل شيئا سوى انهجدد الأشياء القديمة، وأنه جدد علاقته بذاته القديمة أولا، وجدد علاقته ببيئته وبمحيطه وهذا العالم القديم جدا ثانيا، لقد أنزل الأشياء والكلمات والأسماء. المفاهيم والآراء والمعتقداتمن من السماء إلى الأرض، وأعطاها بعد ذلك منزلها الجديدة، وحدد لها وظائفها وأدوارها الجديدة، وجعلها تبدو للعين جديدة، وهي في الأصل قديمة).
    وعلاقة هذه الاحتفالية، بالنقد والنقاد قديمة جدا، وذلك الاختلاف الذي كان معها، وكان مع تنظيراتها واختياراتها، ومع مواقفها الفكرية والجمالية والأخلاقية، أين وصل اليوم؟
      بالتأكيد لقد اصطدام بالباب المسدود، لأنه منذ البداية كان سيره في الاتجاه الخاطئ والممنوع.
وأين ذهب فرسان ذلك النقد الايديولوجي، والذي كان نقدا اتهاميا ممتلئا لحد التخمة بالشعارات الفارغة، والذي كان خاليا من الفن والفكر والعلم والحكمة؟
وأين اختفى فقهاء ذلك النقد المدرسي الفقهي، والذي حرم فعل التنظير في التسعينات من القرن الماضي، واعتبره من مبطلات الوجود ومن مبطلات الحياة ومن مبطلات العمل المسرحي الحلال؟
     اليوم تصدر الاحتفالية بياناتها الجديدة، وتعطيها اسم (بينات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة)، وتنشر كتابات على هامش البيانات، وتاتي بالأفكار الجادة والمجددة، ولا تجد أي رد فعل، فهل مات النقد، أو فقط ماتت فئة من النقاد، والتي هي فئة النقد المدرسي، والتي تقرأ الكتب المسرحية من غير أن تحيا الحياة المسرحية، وتنقل ما يقال عن المسرح، من غير أن يكون لها ما تقوله هي عن هذا المسرح.
     واليوم تظهر أسماء جديدة في النقد المسرحي المغربي، سمتها الأساسية انها تعمل في المسرح بدون ضجيج ولا صخب وبلا ادعاء الزعامات الكاذبة، وبدون وجود عقيدة سياسية أو حزبية ظاهرة او خفية، وبدون ولاء للجهات النافذة في الحقل المسرحي والثقافي، وبدون عقدة مرضية، وبدون حساسية، ومن هذه الأسماء يطل علينا اليوم اسم د. بوعلي الغزيوي، وهو اليوم، بكتابته الجادة والجريئة، يعيد التفكير في كثير من المسلمات ومن البديهيات ومن المعتقدات الوثنية في المسرح المغربي والعربي.
Visited 8 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي