بيرسي بيش شيللي أو مديح الشغب الشمولي

 بيرسي بيش شيللي أو مديح الشغب الشمولي
باريس – المعطي قبال
     ليس من المبالغة بمكان عقد صلة ولو اعتباطية بين آرتر رامبو وبيرسي بيش شيلي، مع فارق بسيط هو أن الأول حين غازل المطلق، احترقت أجنحته، فيما الثاني انخرط روحا وجسدا وبجرأة نادرة في المد المعاكس لزمانه. إن كان رامبو قد نال حظه من الأبدية، إذ حظي ولا يزال يحظى بدراسات، مقالات، ندوات ومناظرات كما تحمل الشوارع والمكتبات اسمه في الدول الناطقة بالفرنسية، فإن بيرسي بيش شيلي، علا اسمه ونتاجه الغبار والقليل من نقاد الأدب الأنجلوساكسوني والعالمي هم من يعكف على هذا النتاج، مع العلم أن كل العناصر متوفرة في مشواره لتجعل منه شاعرا عالميا ورفيقا للأسطورة.
ثار بيرسي منذ صغره على العائلة، ثار ضد الضغوطات التي كانت تمارس باسم قيم محافظة ومهترئة. ولد في 4 من غشت 1792 بالقرب من هورشام (سيساك ببريطانيا)، وتوفي في 8 يوليوز 1822 غرقا في البحر بعرض فياريجو (توسكانا، بإيطاليا).
يعتبر بيرسي بيش شيلي أحد كبار الشعراء الرومانسيين البريطانيين. لم يمتثل لحياة التوافق والطواعية المفروضة في أرستقراطي مثله. كان مثاليا صريحا، وهو ما جعل منه عنصرا شهيرا ومنبوذا من طرف معاصريه الذين رأوا فيه نظيرا للشيطان. لكن جيلان أو ثلاثة فيما بعد جعلوا منه بطلا لهم سواء منهم الشعراء الفيكتوريون أو فيما بعد كلا من كارل ماركس، بيرنار شو، وليم بيتلر ييتس، هنري سالتس الخ.. كما ارتبطت شهرته بشهرة معاصريه من أمثال جون كيتس واللورد بايرون. عانى من قسوة رفاق القسم الذين أطلقوا عليه عدة ألقابً: «شيلي المجنون»، «شيلي الملحد». ألف عام 1808 روايته الأولى «زاستروزي»، وهي رواية قوطية استلهمها من قراءته لكتاب «زوفلويا أو العربي»، يستنتج منها تأثير الروائية شارلوت داكر. وهو بأكسفورد، ارتبط بصداقة مع توماس جيفرسون غوغ. ألفا معا وطبعا عام 1811 دورية من 7 صفحات في عنوان «في الحاجة إلى الإلحاد». كان هذا المطبوع سببا في إثارة فضيحة استدعي على إثرها الصديقان إلى عمادة الكلية. رفض بيرسي أن يمثل أمام «هؤلاء السادة»، مما تسبب في طرده من جامعة أوكسفورد. لكن والده طلب منه التنكر لما كتبه وهو ما رفضه بيرسي. كان رفضه سببا في القطيعة مع عائلته. تمكن والده في الأخير من إعادته إلى الجامعة. وضعته الشرطة تحت المراقبة بسبب كتاباته السياسية التحريضية. تزوج في نفس الوقت من امرأتين وأنجب معهما أطفالا.
بالرغم من حياته الصاخبة التي وضعها تحت سهم الإباحية والمتعة، لم يتوقف بيرسي عن كتابة الشعر إذ أصدر ديوان «القصيدة الفلسفية»، «تفنيد الألوهية» «أل ستور أو روح العزلة». غير أن المحن بل المآسي لم تلبث أن لحقت به لما توفيت زوجته غرقا، والتي أظهر الفحص الطبي أنها حابل لربما من شخص آخر. في هذه الفترة أصدر رائعته الشعرية «لاون وسينتيا أو الثورة الذهبية»، والذي أطلق عليه لاحقا اسم «ثورة الإسلام» (صدر بلندن عام 1918، وصدرت مؤخرا الترجمة الفرنسية للديوان في سلسلة شعر بمنشورات غاليمار). غادر بريطانيا إلى ما لا رجعة ليستقر بإيطاليا. وكانت فترة خصيبة في حياته. حيث ألف عدة دواوين شعرية وترجم كلا من أفلاطون، سبينوزا، إيشيل، غوته، كالديرون الخ… تعرف على الملازم إدوارد وليامس وبما أنهما كانا من عشاق الملاحة البحرية، صمما سفينة شراعية للقيام بنزهات بحرية. في الثامن من يوليوز 1819 خرجا على متن السفينة لعبور خليج ليفورن. بعد ساعتين من الملاحة اجتاحت عاصفة هوجاء السفينة ولم يعثر على جثتهما إلا بعد عشرة أيام. في جيب شيلي عثر على كتيب «التراجيديا» لإيشيل وديوان شعري لجون كيتس. وقد أحرق جسدهما على الطريقة القديمة على شاطيء فياريجو بحضور اللورد بايرون. دفن فيما بعد رفاة بيرسي بمقبرة غير مسيحية بروما.
يعتبر «ثورة الإسلام» الذي ألفه بيرسي عام 1818 من بين دواوينه الشعرية الهامة. وهو عبارة عن 12 نشيدا. يذكرنا إيقاع قصائده بايقاع الشعر الجاهلي: وكانت المقابر بصفتها أمكنة للمنية مأوى للتجوال والزيارة. وقد رافقه الموت عن قرب. موت أمه، موت زوجته، ابنته، والده، تهت بين خراب الأيام الدفينة بعيدا عن الشط الموحش من حولي، قبور وأعمدة مكسورة لكنها تبدو عظيمة عند الغسق عام 1817 اندلعت انتفاضة بانتريش حيث كسر العمال آليات عملهم قبل أن ينزلوا للشوارع. قابلتهم الشرطة بإطلاق للنار، سقط على إثرها عشرات الضحايا. تلتها محاكمات وتشكلت لجان الدفاع عن المعتقلين. من جديد كتب شيلي مقالات نقدية قادحة دعا فيها إلى العصيان وعدم تأدية الضرائب. في هذه الفترة شرع في كتابة «ثورة الإسلام» مستلهما مصير المتمردين الذين تم إعدامهم ، مستلهما ما قرأه عن الثورة الفرنسية، مستلهما الحزن والمعاناة التي عاشهما. في الديوان يحارب العشاق، الأخت وأخته، لاون وسيتنا من أجل تحرير مدينة غريبة، تقع بين المحيط وجبال آسيا، مدينة الذهب. يستدعي شيلي الخرافات الشيطانية لكتاب سفر التكوين، الأساطير الإغريقية، جنة عدن المفقودة لكل من ميلتون، روسو، شكسبير. الجمال المثالي لموروث الثورة الفرنسية، صراع من أجل العدالة والحرية. بعد إطلاق سراحهما، يتوجه لاون وسيتنا إلى الجمهور: النصر، النصر للشعوب الساجدة كن شاهدا أيها الليل، وأنتم أيضا أيتها الكواكب الخرساء التي تراقبنا بدءا من مركباتها البلورية لن يتخلى الفكر عن سلطته بسبب تحليله ومراسه للمحارم، تعرض الشاعر لرقابة صارمة. قبل رحيله إلى منفاه الإيطالي، كتب عام 1817 قصيدته «لاون وسيتنا أو الثورة في مدينة الذهب»، لكن القصيدة سحبت للتو، عدلت ثم نشرت آخر مرة تحت عنوان «ثورة الإسلام». لكنه ما لبث أن حافظ على العنوان الأول قبل أن يسحب القصيدة بصفة نهائية. تطلبت كتابة هذه القصيدة المكونة من 4500 بيت ستة أشهر.
كان للحياة الزوجية الثلاثية (شيلي تزوج وعاش مع امرأتين في نفس الوقت)، أثر بالغ على إنتاجه وحياته بشكل عام، دون الحديث عن المرض الذي بدأ يلم به. تبدأ القصيدة بمعركة أسطورية تجمع بين نسر وثعبان يلتف من حول النسر فوق بحر هائج. هذا يذكرنا بلوتريامون في أناشيد مالدورور لما أشار إلى معركة الثعبان والتنين. يقف الشاعر موقف المناهض للتقليد الكاثوليكي الذي يجعل من الثعبان رمزا للشر، بل يؤمن بالميثولوجيا الإغريقية والعالم المصري حيث الثعبان يرمز إلى الأبدية. يتماهى شيلي مع الثعبان، المطرود من الجنة. وقد أطلق اللورد بايرون على شيلي «الثعبان». القصيدة مدمجة بعناصر أوتوبيوغرافية: عشق لاون الثوري، حب المحارم، l’inceste ، الأطفال، انتشال الأطفال من عائلاتهم من طرف الطاغية عثمان، تجربة الجنون التي عاشها العاشقان. بأكسفورد كان شيلي يلقب بالمجنون. انهى كتابة القصيدة وهو في 25 من عمره بعد أن تناول أقراصا مهدءة، اشتغل بلا هوادة حيث جرب الانهيار العصبي. في نفس الوقت رزق بنتا، كلارا التي توفيت فيما بعد بمدينة البندقية مخلفة أسى وحزنا في قلب والدتها. بعد صدور « ثورة الإسلام »، قوبل بحملة افتراءات دفعت بيرسي إلى مغادرة بريطانيا إلى ما لا رجعة. ثمة حرب تشن على سلطة الشر. في الأزمنة الصعبة فإن الكتابة أكثر من أي وقت مضى هي مواجهة للمخاطر. الشعر المناضل يواجه الشر، وهذا آخر تحدي. «نعم، الحرية في الصحاري هي من أنتج المنافى». هذا الديوان هو مناهضة للاستبداد السلطوي كيفما كان البلد أو الديانة. ألهمت الثورة الفرنسية الشعراء والفلاسفة والكتاب والسياسيين المنحدرين من كل الأزمنة، الأيديولوجيات والفلسفات. شيلي أحد هؤلاء المتحمسين للثورة وللتغييرات التي احدثتها لدى الإنسان الغربي. لكن شيلي باختياره لعنوان ديوانه في اسم ثورة الإسلام يطرح العديد من الأسئلة خصوصا وأن القصيدة لا تتحدث بشكل مباشر عن الإسلام أو النبي محمد. يشير مترجم الديوان في تقديمه إلى فرضية أن الاستبداد الذي يقصده شيلي يخص الحاكم التركي الذي يمثل في المخيل الغربي الحاكم المستبد. هذه الفرضية لا تصمد أمام الحقيقة. الثورة الشمولية (سياسية، جنسية، عقائدية) التي دعا لها ومارسها شيلي لم تنجزها الثورة الفرنسية بالكامل، بل بقيت محصورة في مجال الأفكار (الدعوة لسيادة العقل)، والحقوق المدنية. هل ثورة الإسلام ثورة شمولية؟ تبقى الإشارة إلى الإسلام من باب الاستعارة والكناية على ما كان شائعا عن الإسلام كونه دين يرعى الاستسلام والاستبداد. من هنا الحاجة إلى تطويره من الداخل. على أي تبقى نظرة الشعراء للدين نظرة استباقية، رؤوية. المخيل الشعري لا يتوافق والمخيل الديني. كما أن الشاعر لما يتحدث عن الدين لا يسعه إلا أن يخدش أو يفكك المقدس بلغة ثورية والتي هي عماد الشعر.
Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".