جورج بولي: غاستون باشلار والوعي النقدي (الحلقة الأخيرة)

جورج بولي: غاستون باشلار والوعي النقدي (الحلقة الأخيرة)

  ترجمة: سعيد بوخليط

      حين الاندهاش جراء شعور بالسعادة، لم تعد هناك سوى خطوة. كل ملذات الخيال مصدرها موضوعات تحيلنا على الافتنان الأصلي مثلما نختبره عند الإحساس بالوجود. أن توجد، إحساسك بالوجود، العثور على هذا التمثُّل العالق بشيء يجسده، وضع ينجح الكائن الباشلاري منذ اللحظة الأولى، في بلورته بسذاجة تامة.

   تارة تحضر صورة الحليب داخل فكره عبر صفاء القمر حيث نسبح كما لو ”داخل سعادة فيزيائية مطلقة، تستدعي حتما أقدم تجليات الراحة النفسية،وأكثر الأطعمة عذوبة”(58). تارة أخرى، الإشارة البدائية إلى الطمأنينة، بالانطواء على الذات والكائن الذي يسكنها،’ ‘حضن” المنزل؛ هكذا يتردد داخل وعي الراشد، الشعور بماقبل ولادة الوجود ”حيث الكائن هناء، أُودع إلى راحة، ترتبط مبدئيا بالوجود”(59).

   أيضا، قصد بلوغه لحظة السعادة، لا يحتاج الكائن الباشلاري، مثلما الحال مع شخصية بروست، التطلع من فوق شرفة، حينما يستيقظ، كي يكتشف مهمة الشمس. بل، يكفيه الإحساس بعطاء حميمة الدفء الجسدي: “الدفء العذب، أصل الوعي بالسعادة”، هناك ”وعي عميق بالسعادة الحرارية”(60).

   الإحساس بدفء جسد، حماية مأوى، غطاء ضياء/ القمر، يعني الانسياب نحو سلسلة رؤى زيَّنَنتها عقد تجردت سواء عن بشاعة العقد الفرويدية وكذا سمتها المعذِّبة أو المخادِعة. هانحن أمام عقدة يونس (61)، الإحساس بعالم منغلق تختبر ضمن أبعاده حميمة مطلقة.كذلك، عقدة نوفاليس(62)، حينما توقظ ملامسة بِشرة ناعمة، إشباعا يحدث لدى طفل من خلال التجليات الأولى للمعنى الحراري.

   سعادة باشلار، ملموسة بطريقة لاتوصف، ترتبط منذ بداية الوجود بأحاسيس معينة أصبحت بالنسبة إليها رمزا، لذلك تمثل السعادة حقا الأولى، في خضم تاريخ الأحاسيس. تألُّق يستعيده التأمل الشارد؛ على الأقل الجيد، الذي يهتدي بالحالم نحو إحساس  أصلي حول ذاته، لأنه: ”بفضل السعادة وليس الحزن وجد الإنسان فكره”(63).

  إدراك الذات، التقاط العالم، نفس وحدة شعور سعيد: ”الحالم وعي مزدوج براحته وكذا عالم مبهج. كوجيطو غير منقسم نتيجة جدلية الذات والموضوع”(64).  

   تأمل شارد إبان استراحة، يسود بطريقة ما في إطار هدوء كماله، كذلك التأمل الشارد المرتبط بالإرادة، يكشف عن تأمل شارد سعيد، لكنها سعادة ديناميكية، متلهفة  نحو التجلي والذيوع.

  هذا مايمكن مثلا قوله عن باشلار المجتهد الكبير، السعادة التي ينمُّ عنها الانجاز المتناغم حقا للاشتغال، يحتفل خلاله الكائن كلِّية. بفضل هذا الاحتفال، ”يعثر الكائن البدائي على الوعي بالذات، الذي يعتبر أولا اطمئنانا لها”(65).  

   وعي بالذات، لكنه أيضا وعي بعالم يتقاسم مع الأنا امتياز أن يكون سعيدا.ثم كيف بوسعكَ أن تكون موجودا بكيفية مختلفة، مادام هذا العالم عالم صور، بمعنى أشياء ليست لها وظيفة أخرى سوى أن تحيل الذات على المشاعر التي تغمرها؟ إنها تشارك تحديدا في نفس الطبيعة الوجدانية.

   الانتقال من الذات إلى الصور، الفاعل فالموضوعات، يعني أن توقظ في كل مكان خارجيا، صدى المتع التي نحس بها داخليا.

   كم المرات، التي رسم خلالها جان جاك روسو، سواء من خلال الاعترافات أو التأملات الشاردة، لمحة عن عالم اقتحمه الفكر وامتلكه بيسر؛ شَكَّلت لديه معادلة الجواني والخارجي، المركز والمحيط، تعريفا للسعادة، لكنها سعادة عابرة، وهمية، يعقبها ألم الإحساس خلال الوقت ذاته بالإبعاد والتهديد من لدن عالم غامض، مَثَّل نقيضا للعالم الذي نحلم به.

   بالنسبة إلى باشلار، السعادة التي نحلم بها تحديدا، سعادة تتدفق، تمتد وتستمر. داخل عالم هو عالمها، إذا جاز التعبير، لايضفي قط الانسداد، العتمة، الكثافة على الأشياء مظهرا مهدِّدا أو بئيسا. أيضا، يعتبر بمثابة المفكر الوحيد المنتمي إلى عصرنا،الذي حافظ بصراحة على الخيال متفائلا: ”يكتب الفيلسوف، وينغمس في وسط دون عائق يذكر من لدن كائن معين. يعيش حسب تأمله الشارد وسط عالم متجانس مع وجوده”(66). عالم لايعرف حيزا   لـ ”اللا- أنا”، بل يتفاعل كل شيء مع الأنا، وتنعدم كل وظائف النفي.

   إذا كان الشق الأول من فلسفة لباشلار، تركيزا على موضوع يفضي إلى “فلسفة للنفي”، بمعنى رفض مطلق حيال الفكر الذاتي، سنلاحظ على العكس من ذلك، بمناسبة  الفكر العاطفي لكاتبنا خلال الحقبة الأخيرة من حياته،حينما تألَّق لديه حسب قول كوليت أودري، فعل إذعان عام، وفلسفة تقول نعم (67).

   ليس بوسع عالم ينطوي على نفس جوهر الأنا سوى  الرضوخ لهذه الأنا. أو ربما يبدو دقيقا أكثر قول التالي: يستمد أولا عالم عاطفي محايد أو فارغ، اكتماله من موجة الانفعالات التي تبثُّها الأنا. مثلما جعلنا باشلار نلاحظ، أنه لا يمكننا ملء سوى ما نكتشفه أولا فارغا. ذيوع الفكر من خلال صور، بين طيات صوره، ليس شيئا آخر سوى تعبئة. إنه انتقال من الفارغ نحو الممتلئ ”(68).

   يمكننا، سلفا تمييز هذا الانتقال، ضمن مستوى أكثر انخفاضا، بمناسبة أحلامنا الليلية. تتموقع الأخيرة، مثلما نعلم سلفا، أقل من مستوى الوعي. عدم حضورنا بخصوص ما يتحقق داخلنا، يشهد تلاشينا خلف أشكال رؤى مجهولة، على نوع من العدم المبدئي للكائن. يقول باشلار: “تنغمس بنا الأحلام المطلقة، في عالم اللاشيء”. لكنه، أضاف فورا: ”نستعيد فعلا الحياة ثانية عندما يغمر الماء هذا اللاشيء. هكذا، ننام جيدا، نتخلص من الدراما الأنطولوجية. عندما نغوص في مياه النوم الجيد، نحس بتوازن للكينونة مع عالم ينعم بالأمان” (69).

   يتيح، إذن، النوم الجيد، أفضل من ذلك، التأمل الشارد الجيد، ملء الجوف التراجيدي حيث نكون عرضة لخطورة ابتلاعنا. يتيح لنا اكتمالا. مادام، التأمل الشارد، يعكس نقيضا لفراغ الفكر.يلزم  الانتقال من غياب أو عدم اكتمال بهدف الوصول إلى تخطيط الكائن، ولنتحدث بكيفية دقيقة أكثر، عن توقف ضمن استمرارية الحياة. لايماثل الكائن ذاته باستمرار. إنه انبثاق و انبجاس، يبرز من باطن استراحته الخاصة.

   نعلم مدى التكرار والزخم الذي يجعل التأمل الشارد الباشلاري، يتحول إلى عملية إبداعية. بناء على مايلاحظ، فكر كاتبنا لايكره الاسترخاء أبدا، غير أنه  فور خروجه من الراحة، سيشمِّر على ساعديه ويجعل من حلمه: ”تأملا شاردا مشتغِلا”(70).

   رؤيا تستشرف عملا. هكذا، أمام السماء المشرقة، فأول إحساس يحضر عند الشخصية الباشلارية، مثلما لدى الكائن النيتشوي، يدعو إلى المبادرة الفاعلة:”وكذا الإحساس الحميمي بالرغبة”. يطور باشلار فكرته تبعا لمفاهيمه: “بالنسبة للخيال الديناميكي، الذي ينفخ ديناميكيا رؤية العالم عبر بوابة علم الحركة، تصير الشمس المشرقة والكائن الصباحي، محرضين ديناميكين متبادلين”(71). يتجلى هذا التحريض الديناميكي، ويبرز بكيفية أكثر وضوحا،مع فاعل نموذج مميَّز يسميه باشلار: ”كوجيطو العاجن” (72) أو ”كوجيطو الطين”(73).

   مثلا،حسب تصور جان بول سارتر، ينتمي الطين إلى تحليل نفسي للوعي التعيس. تعاسة إمساكك بين طيات صمغ المادة، وتحس تدريجيا بأنكَ أصبحت مادة انزلقت داخل عنصر يبتلعكَ بل يمحوكَ.

   الوضع مختلف عند باشلار. الطين في نظره أفضل المكونات الجوهرية، نتيجة مبرر مباغت، لأنه شيء غير مكتمل: مادة أولى لم تأخذ بعد شكلا معينا، تنتظر بهذا الخصوص صنيع العامل- الحالم:” تدرك اليد العاملة والمُلِحَّة ديناميكية الواقع الأساسية بالاشتغال على مادة، تصمد وتتنازل، في نفس الوقت، مثل جسم عاشق ومتمرد أيضا” (74).

   باختصار، الاشتغال على العجين، يعني إخبار المادة بواسطة فعل يمثل في الوقت نفسه تصميما ومداعبة.كما الشأن، مع النحات الذي يبصم صلصاله، عاجن الطين يمنح موضوعه شكلا يعكس في نهاية المطاف تصوره الإبداعي، بحيث يخلق العالم على منوال صورته.

   تدبير أمر هذا الانجاز الخارجي في ذاته، قد يمتلك نعومة خاصة. لأنه رغم مقاومة المادة قليلا، تستسلم فورا. تغدو بين أنامل الحالم، ما يريده، وما هي عليه. يحس بأنَّ الموضوع يتحفز لإرادته، يمتثل إلى وجوده. لا تظهر أيّ رؤيا للفكر، ولا كذا تجلٍّ من طرف المادة، توافقا شاملا حول الغايات، ولا أيضا، مبدأ الخلق الذاتي للفكر الذاتي. بالتالي، يتيح الطين مقارنة مع كل الجواهر المادية الأخرى، مناسبة انتشاء حالم عميق ومفتاح للحظ بالنسبة للذهن.

   كذلك لا يخطئ باشلار فرصة الاستسلام متى أمكنه الأمر، إلى هذا التأمل الشارد المفضَّل: “أينما تبلورت ليونة، يكمن تأمل شارد. يكفي خلال عزلة، أن تصادف أصابعنا عجينا كي نشرع في الحلم”(75).

   تترجم لدى باشلار التجربة الحالمة لـ”اللُّزوجة المهيمنة”(76)، انقيادا منتشيا من طرف مادة اتجاه الذات الخالقة، التي تكشف عن ”إمبريالية طاقية” (77) عبر الفعل الذي بواسطته تضفي إرادتها على ماتعجنه.

   دائما، بالنسبة لهذه الذات، لا يدل معنى العجن على مجرد الفعل، بل إحساسها بأنها بصدد إسقاط قوتها الخاصة على الخارج. مهما بدا الاختلاف كبيرا، مع الوهلة الأولى، بين عملية العجن وكذا فعل الصراخ، فالأمر سيان بالنسبة للأخير.

   إطلاق صرخة، يعني أن تبثَّ صوب الفضاء ذبذبة موجة تعود إلى أذن باعثها، مثل الشكل السمعي الذي تأخذه أناه خارجيا حين تردد صداها. يتشكَّل كوجيطو نتيجة الصرخة، وكذا العجن، يقول بصدده باشلار: ”رنَّان وفعال : أصرخ إذن أنا طاقة”(78). 

   تمتد المقدرة الذاتية، مكتسحة الفضاءات الموضوعية. يشرئب كل تأمل شارد نحو التضخيم: ”قوة تصميم الخيال”(79). يترتَّب عنه امتلاك الامتدادات الخارجية بالوعي؛ فإذا كانت الصور تتمدَّد: ”غاية أن تصبح صورا للعالم”(80). تمدُّد، يمنح الأنا إحساسا بأنها أصبحت عالما.

  والحال أن هذا الامتلاك للمكان يتطابق مع امتلاك مماثل للزمان، ليس فقط حسب مسار تطور منتظم دون توقف تنساب الديمومة الباشلارية داخل الكائن مثلما الشأن بالنسبة للزمن البرجسوني. واضحة وجلية راهنية مقدرة صاحب كتابي ”حدس اللحظة”وكذا ”جدلية الزمان”، قصد التسامح مع حركة بمثابة محض استمرارية أخفت الحاضر بإغراقه إذا جاز التعبير داخل موجة الديمومة.

   سواء بالنسبة إلى سياق التأمل الشارد أو عالم الفعل، آمن باشلار مرارا بعدم استمرارية اللحظة مع التي سبقتها، بحيث ترتكز اللحظة من خلال بلورتها اللا- إستمرارية، على زمن جديد تبرزه هذه اللحظة (81).

   الصورة التي يخلقها فكر الحالم، تشبه غالبا حجرا يسقط وسط بِرْكة، مادامت تشكل  مصدر حركة خيال واسعة تخلق في غضون ذلك زمنها الخاص: ”ربما يمثل الفكر بالضرورة عنصر بداية”(82). يسري ذلك على عالمي الحالم ولعامل: لم يستوعب شخص أفضل من باشلار الهوية العميقة لهذين الكائنين. ينزع أحدهما مثل الآخر نحو المستقبل بأن يخلقا صيرورتهما الخاصة. مثلما يقول باشلار عبر درسه الأخير في جامعة السوربون، الكائن الإنساني: ”إرادة تجديد، صيرورة غير منتظرة دائما”(83).

   ”وحدها الظاهراتية، بمعنى تأمل منطلق الصورة ضمن وعي فردي، يمكنها مساعدتنا على استعادة ذاتية الصور”(84).

   آخر محور تتطرق له مقاربتنا، تكمن في تنازل باشلار تدريجيا عن التحليل النفسي وتبنيه النهائي للظاهراتية. يستحيل انطلاقا من كتابيه ”لوتريامون”و”التحليل النفسي للنار”، إنكار تحوله التدريجي عن مناهج التحليل النفسي. سبب ذلك واضح. لقدر رأينا، تموقع باشلار، شيئا فشيئا، قدر تقدمه بخصوص استكشافه للحياة الذاتية، عند أفق وجهة نظر الذات المتخيِّلة، بمعنى ضمن نطاق وعي حسب تعبيره،يوجد عند ”منطلق الصورة”. بيد أنه إذا مَثَّلَ الوعي نقطة انطلاق أصيلة (ربما أيضا الحقيقة الواحدة)،بالتالي انطلاقا منه يبدأ مصير الصورة، أو على الأقل وجودها الملموس داخل الفكر في نفس الوقت تبعا للعلاقات التي تنسجها مع الذات الواعية، يترتب على ذلك أنَّ حياة الصورة مصدرها الوعي، مثلما تعتبر الذات المنشئة أصل ولادة الموضوع.

   يبدأ إذن كل شيء بـ كوجيطو قبل فعل الوعي مرتكز الصورة، بل وأيضا قبل انبثاق الصورة نقطة الوعي ولا كذا تناول الذات. أو بمعنى ثان، نتيجة فعل فكري مستقل يبعث الصورة إلى الوجود، ولا يتوقف عن مصاحبتها،إعادة تشكيلها وشحنها ثانية بالقوة والدلالة،على امتداد وظيفتها اللاحقة.

   خلال لحظة تناولنا للصورة، نعاين داخلها طاقة أولية تبدو باستمرار حاضرة وواعية.هذه الطاقة المبدئية، تعكس الوعي نفسه، باعتبار قدرته السجالية – بل وآليتها الذاتية – صور، ليست بمعطى ثان سوى تجلياته.

   ينتظم كل شيء هنا تحت مظهر مبدأ خلاَّق لعالمه،غاية المادة وكذا الأشكال (المتخيَّلة) التي تؤسسه، بطريقة لاتختلف عن كيفية تعبير الألوهية الغنوصية عن كياناتها ضمن مدار ذاتية خالقة وكذا صور مخلوقة.

   تعتبر هنا، أولوية وكذا أصالة المبدأ الذاتي، مطلقين،ولن تختلف فلسفة باشلار الذاتية، سوى بأقل قدر ممكن،عن مسألة الانغماس في الذات أو وحدة الوجود، إذا اكتفينا بتذكر الذاتية التي تصيغ  ببساطة أحد وجهي فكره وبأنه لايزعم قط (على العكس، ينكر رسميا قدر الممكن) الوصول بهذا السبيل إلى الحقيقة الموضوعية.

   لقد انتقلنا من عالم واقعي، تؤلفه مجموعة عناصر خارجية، تدركها الحواس وينظمها الذكاء،ثم ولجنا عالما ثانيا غير واقعي، تصممه قوة ذاتية تمتلك تحديدا كخاصية صناعة الخيال داخلها. لا يمكننا إذن استيعاب هذا المتخيَّل وفهمه سوى إذا انطلقنا من متخيَّل ومارسنا ثانية على منواله نفس فعل الخيال.  

   ليس من الضروري إظهار البعد المضيء لمنهجية باشلار، حسب إطارها لدراسة إبداعات الفكر من طرف الفكر. تقوم على المسلمة التالية: لاجدوى بخصوص السعي إلى فهم أنشطة موضوع، دون تناولها حسب المبدأ الذاتي الذي يمثل الجوهر نفسه. حينما ”يُستوعب” هذا الموضوع موضوعيا، فلن يعود قط موضوعا، بل ولا شيء، حتى مجرد كذب.

   يلزم قصد فهم معنى الموضوع، أن نعيشه ذاتيا، بفكر يعتبر بدوره موضوعا، يتجنَّب موضعة ذاتية لاتتباين عنه بحكم طبيعتها عند مستوى من المستويات. سياق أدركه باشلار بكيفية مذهلة. سبب دفعه في نهاية المطاف استبعاد منهجية للتحليل النفسي تبحث ثانية عن الموضوعي خلف الذاتي نفسه؛ مما يقتضي بالنسبة لذاتيته البدء بكوجيطو.

   ربما من الضروري التذكير بانطواء منهجية باشلار على خصوبة لانهائية بخصوص استكشافها الوعي بواسطة الوعي، لكنه يؤسس أيضا (قلنا ذلك ألف مرة، وينبغي تكراره) تطبيقا رائعا للظاهراتية على الأدب. مادام تناول هذا الأدب، وفق معنى محدَّد يعتبر ربما الأكثر أهمية مقارنة مع باقي دلالاته، يعكس تحديدا ماتتوخاه المنهجية الباشلارية  وتستكشفه: مجموع صور ينبغي تناولها حسب فعل بواسطته يحدثها الوعي المتخيِّل.

   هكذا تتبدى المنهجية الباشلارية باعتبارها الطريقة الأكثر إنصافا على مستوى النقد الأدبي. ماذا تفعل في الواقع،سوى الوفاء لخيال الآخر،واستعادته لحسابها ضمن فعل خلقها لصورها الخاصة؟ استبدال،من موضوع إلى آخر، ثم ذات فذات أخرى، بين كوجيطو  وكوجيطو ثان، لايمكنها القيام بذلك، إلا إذا أظهرت أولا، دون تحفظ، انبهارا بالعالم المتخيَّل والمستلهَم، الذي تدرسه، ثم التماهي مع وعي كاتبه، ضمن حركة تواصل، تماثل أكثر الحماسة سخاء.

   يبدأ كل شيء بحماسة الفكر الشعري، وينتهي كل شيء (أيضا كل شيء يبدأ مرة أخرى) بتحمس الفكر النقدي .يجب أولا تحقُّق حس الانذهال (85)،انذهل دائما ! بالنسبة لنقد من نمط باشلاري، جلُّ المنفتح أمام العالم الذي خلقه الشاعر،يعبر عن كوجيطو أخير، ”وعي منذهل” (86).

   يعني الحلم بالعالم،الحلم بذاتكَ. أن تحلم بالنار، الماء، الأرض،إدراكك بالحلم وعيا بالذات ضمن المماثلة التي نحققها بفضل الذات مع مادية العناصر. يتناول الفكر الذاتي ذاته، عبر إعادة خلق عالمه أسطوريا، ليس من خلال تجرد أصلي،بل حسب كل دفء الصور يمدُّه حياة، جوهرا، ويتأمل ذاته بسعادة.

   يتوقف فعل الوعي الباشلاري على الصور، أو بالأحرى القوة المتخيِّلة التي أنشأتها : ”كوجيطو الحالم”، الذي بخلاف كوجيطو المفكِّر(كما الشأن مع كوجيطو ديكارت) لايفصل الفكر نهائيا عن موضوعاته.كوجيطو متفائل بمرح، مادام يتجلى عبر الصور، يعني اكتشاف الذات وسط عالم خلقناه نحن بطريقة ما، على مقاسنا،عالم يسحرنا، لأننا ندركه ونحس داخله بالراحة.

   يتيح الفعل النقدي بامتياز،انضمام الناقد إلى الكاتب في إطار حركة إعجاب ثرية،حيث يرتج تفاؤل مماثل: “أن تقرأ مع توخي الاستئناس بالتأمل الشارد المبدع”. بما أن الشاعر يعي ذاته نتيجة التعاطف الذي يجعله متأقلما مع عالم متخيَّل.

   أيضا، جراء تعاطفه الوجداني مع الشاعر، يستلهم الناقد داخليا عالما من الصور الشخصية يبلور اعتمادا عليها كوجيطوه الخاص: “نتواصل مع الكاتب، لأننا نتواصل مع صور نحتفظ بها داخلنا ”.

   لكن، العثور ثانية داخل الذات، بفضل توسط الشاعر، على صور نطويها داخلنا، لايعني المشاركة في قصيدة الآخر، بل أن ينظم شعرا شخصيا. هكذا، يصبح النقد شعرا.

   عموما، حينما يستسلم الفكر الباشلاري لاندفاعه وجهة الحميمي، يتأتى لنشاط الناقد الخيالي الانضمام إليه، فيمتزج مع النشاط المتخيِّل للشاعر. يعيشان معا، نفس الانتشاء الانتشاء المتعاطف، وذات القدرة على خلق الأساطير.

    يواصل الشاعر والناقد، خلال ذات الآن، نفس مسار الحلم.  

هوامش:  

 (58) الماء والأحلام، ص163

(59) شعرية المكان، ص 26

 (60) التحليل النفسي للنار، ص 34

 (61) الأرض والتأملات الشاردة للاستراحة، ص 150

 (62) التحليل النفسي للنار، ص 84

 (63) نفسه ص 39

 (64) شعرية التأمل الشارد، ص 136

 (65) التحليل النفسي للنار، ص 63

 (66) شعرية التأمل الشارد، ص 144

 (67) ”ملاحظات حول فكر غاستون باشلار”، لقاء،  العدد 18، غشت 1953، ص 11

(68)   جدلية الديمومة، ص9

(69)   شعرية التأمل الشارد، ص 125

(70)  نفسه، ص 156

(71)  الهواء وأحلام الرؤى، ص 179

 (72)الأرض والأحلام الشاردة للإرادة، ص 79

 (73) نفسه، ص 83

(74) الماء والأحلام، ص 19

(75) شاعرية التأمل الشارد، ص 145

(76) الأرض والتأملات الشاردة للإرادة، ص 122

(77) نفسه

 (78) لوتريامون، ص 112

(79) الماء والأحلام، ص 156

(80) شعرية التأمل الشارد، ص 182

(81) جدلية الديمومة، ص 12

(82) نفسه، ص 41

(83) أقوال غاستون باشلار، جمعها جون لوسكور، ماي 1963، ص 129

(84) شعرية المكان، ص 3  

 (85) نفسه، ص 163

(86) نفسه، ص 1

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *