قصة قصيرة: طرق روما

قصة قصيرة: طرق روما

سعيد رضواني

      لم أفاضل، قطعا، بين الطريقين، فكلاهما يفضيان إلى الصرح المهجور نفسه، الذي تحلو لي القراءة في المرتع المطل عليه. وما سيري في الدرب الذي على اليمين سوى من اختيار قدميّ اللتين فوضت لهما حرية التصرف.

متسلحا بكتاب ستيفن هوكينج “تاريخ موجز للزمن” أسير في هذا الطريق، وفي رأسي أفكار متناثرة كالحصى الذي تحت قدميّ، أسير في منعرج مترب مفروش ببعض الحصى الشائك باللهفة نفسها التي تتوق بها عيناي إلى التطلع، مرة أخرى، إلى سطور الكتاب الذي يرصد الزمن من زوايا لا تخطر إلا على العقول التي لا تستكين للمألوف. أسير مهرولا لا يبطئ حركتي سوى الحصى المدبب المتناثر على طول الطريق، وقطعان الخراف التي تعبر من جهة إلى أخرى، ولهيب الظهيرة وصعود المرتفع.   

      على جانبي الطريق الذي أمضي فيه اعتدت رؤية السلاحف وهي تسير في اتجاه البحيرة، ومنذ ولى زمن الطفولة ولى معه اهتمامي بهذه الكائنات الهادئة إلى أن حرك شغفي بها من جديد ما قرأته في مستهل الكتاب، حين ردت سيدة عجوز على عالم مشهور، كان يحاضر حول مركزية الشمس ودوران الأرض حولها، قائلة: “إن ما تقوله هراء. فالعالم في الحقيقة صفحة مسطحة مستقرة على ظهر سلحفاة هائلة”. ربما علت شفتي هوكينغ ابتسامة مكر وهو يكتب هذا الرد، لكن الأكيد أن شفتيّ، الآن، تعلوهما ابتسامة حنين وأنا أتذكر حكايا الطفولة التي حدثتنا عن الثور الذي يحمل الأرض على قرنه.

أحمل واحدة من السلالة المدرعة لهذا الكائن الذي يحمل الأرض على سطح قوقعته، وأشرع في لمس خشونة حلقات درعها التي تمنع الأرض من الانزلاق، دون أن يغفل ذهني عن تأمل الاستنتاج الساخر الذي ختم به هوكينج كتابه: “إننا نجد أنفسنا في عالم محير… فكما أن برجا لا متناهيا من السلاحف التي تسند الأرض هو إحدى صور هذا العالم، فإن نظرية الأوتار الفائقة هي مثل ذلك تماما… فلم ير أحد قط سلحفاة ضخمة تحمل الأرض إلا أن أحدا كذلك لم ير أيضا وترا فائقا”.

أوافق، في نفسي، على كلام هوكينج، فأنا أيضا لم أر شيئا فوق ظهر أي سلحفاة عدا أغراضي التي تسير ببطء ويكاد لا يتحقق منها شيء. أضع السلحفاة على العشب وأودعها وأنا أتمنى ألا يقع لي ما وقع لأخيل في مفارقة زينون “أخيل والسلحفاة”، وأظل أمشي للأبد دون أن أصل إلى الترعة التي تطل على الصرح المهجور.

مدفوعا بالحماس، الذي يولده توقي إلى إعادة قراءة فقرات من هذا الكتاب تتحدث عن الأكوان الموازية، تمنيت، كي لا يطول سيري، لو اختارت أقدامي الطريق الآخر الذي تسوطه رياح الفج، التي تتسلل من بين المسارب مخففة وهج الحر، الطريق الذي على اليسار والذي، حتما، كان العشب الذي يغطيه سيحمي أسفل قدمي من هذا الحصى المدبب، الذي يكاد يخترق نعلي ويؤلم أخمصي. وكلما تزايد عدد الحصوات التي تخز نعلي الهش، أتمنى لو أنني سرت في الطريق الآخر المعشوشب منتعلا حذائي. أرفع قدمي كي أخطو فوق بعض الحصوات المسننة ثم… ثم أضع رجلي على العشب الذي تتسلل نعومته، عبر الحذاء، إلى أخمصي. 

أسير في هذا الدرب المعشوشب الذي اختارته قدماي، وكلي امتنان لنعومته، وتقدير لديفيد هيوم، هيوم الذي حررني من أنشوطة تساؤلات من قبيل “لماذا لا تؤدي نفس الأسباب إلى نفس النتائج دائما؟” وجعل ذهني ينظر أبعد مما تنظر إليه عيناي. فكم مرة سرت في هذا الطريق نفسه لكنه أوصلني إلى نهايات مختلفة.

أربت بحنان على كتاب هيوم وأنا أوافقه الرأي في أن للأثر والارتباط وقع أقوى مما للسببية وللحتمية، فأنا نفسي لم أختر السكن في أطراف المدينة لسبب ما، بل فقط لرابط يشدني إلى الأماكن الموحشة. ولم يكن غريبا عني أن أسمع بفيض من النشوة، خلال سيري، عواء ذئب يصدر من عمق يزيد عن عشرين ألف سنة داخل حنجرة كلب، وأرى قدميّ تحاذران، بحرص يكاد يكون شخصيا، سحق جلد خلفه ثعبان انسلخ من نفسه.

أكمل سيري وانا أنظر مرة إلى الأعلى حيث الشجرة التي أحب القراءة تحتها في الترعة، ومرة إلى أسفل المنحدر الذي نحتت صخوره المياه والرياح، أدقق النظر بين نتوءات المنحدر فأرى حمارا يتجرأ على فرس مدفوعا بقانون الطبيعة، خلافا لأعراف سلالته، بالإصرار نفسه الذي يجعل حرب الثأر للشرف المسفوكة دماؤه مستمرة مستعرة منذ آلاف السنين بين الخيول والحمير.

وتحت تأثير مشاهدتي الممجوجة لهذا المنظر الشاذ أفكر على نحو يائس أن من الأفضل لو اخترت الطريق الآخر، الذي كان من الممكن أن يجنبني رؤية هذا المشهد الشاذ، لكن أيضا، وللأسف، كان سيحرمني من نعومة العشب الذي استعذبته قدماي، ومن مداعبة الريح التي استعذب لطافتها شعري المدفوع للخلف وقميصي الذي ترفرف ياقتاه.

في خضم حيرتي داهمتني رغبة متعذرة التحقق في التواجد في المكانين معا وفي الوقت نفسه، ثم فترت هذه الرغبة أمام يقيني الذي جرفها وهو يسلم بأن الإنسان، الذي يعيش في ثلاثة أبعاد ويحس بالرابع الذي هو الزمن، محكوم عليه سلفا بأن يظل خاضعا لهذه القوانين التي تقيده مثل أنشوطة ملتفة حول عنقه، وإذا ما حاول التمرد عليها بحركة طائشة ستكسر رقبته حتما.

أسير على الدرب المعشوشب وفي رأسي تنبت أفكار حول الطريق المغطى بالحصى… ومن الحصى الذي تتلاعب به قدماي أحمل حصاة وأقذف بها في اتجاه الطريق المعشوشب، يتفادى نعل يمناي حجرة مسننة ويدوس حذاء يسراي، خطأ، قوقعة حلزون. وتحت الشمس القائظة أمد ذراعي مصالبا إياهما مع جسدي، وفي إحداهما سلحفاة وفي الأخرى جلد ثعبان. 

أضع الجلد والسلحفاة في ملتقى الطريقين، وأقصد شجرة الأوكاليبتوس المطلة على الصرح المهجور. أفرش غطاء على ظلها وأجلس بخشوع كأنني أجلس تحت فروع “الشجرة المشتعلة”، وأهيم بخيالي في عالم ذي أبعاد أخرى منطلقا ببصري من حيث أجلس إلى ما بعد مكان جلوسي باتجاه أشجار بعيدة حيث الصرح المهجور، ومن ثم إلى الأفق فما بعد الأفق، من زرقة السماء إلى ألوان لا يدركها البصر حيث السدم وما بعدها من مسافات شاسعة يزداد تمددها وابتعادها كلما ازداد التفكير فيها.

ومن التفكير فيها يزداد اقترابي من السدم فالألوان التي يدركها البصر إلى ندف سحابة تسبح في زرقة السماء، ومن ثم إلى الأفق فما قبل الأفق، ثم إلى بيوت واطئة محاطة بالشجر وبعدها إلى الصرح المهجور، ثم إلى ما أمام مكاني ومباشرة إلى حيث أجلس تحت شجرة الأوكاليبتوس. وفي ظل هذه الشجرة ألتفت يمينا وشمالا باحثا عن كتابي دون يقين عن أي الكتابين أبحث، فأجد عوضهما كتابا عن التصوف للغزالي. أستغرب الأمر، وبمزيد من الاستغراب أبحث عن حذائي أو نعلي فلا أجد سوى بلغتي الصفراء، التي لا أملك أي فكرة عمن أتى بها هي وكتاب الغزالي إلى هذا المكان.

يتسلم الذهن مهمة الرصد نيابة عن العينين، فينطلق في رسم معالم لحظات أخرى ربما عشتها قبل وصلي إلى هذا المكان. ينطلق إلى ما خلف مكاني، إلى ما قبل وصولي المحتمل إلى شجرة الأوكاليبتوس، إلى حيث يمتد طريق رملي، طريق لا أعرف مكانه ولا أذكر كيف سلكته ومع ذلك أراه حاضرا في ذاكرتي بكل تفاصيله، بنباتات صبار تمتد على طول جانبيه، وبرمل ناعم مفروش على امتداده الطويل. أعود ببصري إلى مكاني، إلى حيث انحرف الظل بمقدار يكفي ليعريني أمام وجه الشمس اللافحة. أحمل بلغتي وأتفحص أسفلها لعلها تخبرني بما أجهله عن هذا الطريق، فتطالعني حبيبات رمل عالقة تحتها لتؤكد لي أنني، على نحو يقترب من اليقين، سلكت طريقا ثالثا لا أعرف عنه إلا ما أخبرني به ذهني.

بشك مترام في كل الأبعاد لا أستطيع أن أجزم في أي الطرق الثلاث سرت، لكن بيقين بالغ الثقة أؤكد أن افتراضاتي، تتماهى أحيانا، تحت تأثير ما أقرؤه هذه الأيام من فيزياء الكم، فأفترض أنني لا أعدو أن أكون مجرد ذرة في هذا الكون تخضع لقوانين فيزياء العالم الذري وربما تواجدت في أمكنة عديدة في الوقت نفسه كإلكترون يمر كموجة عبر شق مزوج في الآن نفسه، وأحيانا أخرى أفترض أن الأمر كله لا يعدو أن يكون، تحت تأثير بداية اطلاعي على عالم التصوف، ضربا من الهلوسة. ظهر طريقان ناب القلم عن الذهن وسجلهما، لحظيا، على الورق. وحضر في الذهن طريق ثالث لم يسجله القلم إلا بعد أن استعاد الذهن معالمه فيما بعد، طريق لا أعرف عنه شيئا، طريق يجهله القلم ويستحضره الذهن.. في خضم حيرتي خلصت إلى نتيجة تكاد غريبة ومستجدة على تفكيري المعتاد: ربما كنت أكتب لحظيا تحت تأثير قراءتي المختلفة، وكان للقلم حينها، أثناء الكتابة، بعدٌ آخر؟

أرنو طويلا إلى البلغة وإلى الكتاب ثم إلى الصرح المهجور وأنا أردد في نفسي: “آه لو استطعت أن أعرف أي الطرق سرت فيها فعلا، ولتستقر بعد ذلك الأرض على ظهر سلحفاة أو فلتنزلق، أو فلتتوازن على قرن ثور أو فلتسقط”.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد رضواني

قاص وروائي مغربي