محمد بنيس بين الكتب والكتابة
باريس-المعطي قبال
منذ أن تعرفت على الصديق محمد بنيس، ويرجع ذلك إلى قرابة أربعة عقود، لازمتني عنه باستمرار، ولو في البعد والغياب، صورة عتيدة، عنيدة وملحاحة هي صورة رجل كتب. في صحبة الكتب، عثر على جسده، وجدانه وحضوره الكثيف ضمن واقع ثقافي وسياسي مركب. وفي كل مرة أنقذته الكتب من العنف المستدام للواقع. كما قربتني صورة رجل الكتب من صور مثقفين فرنسيين يمثل حمل الكتب بالنسبة لهم بالمقهى، بالشارع أو بمدرج الكلية متكأ وامتدادا للعقل والجسد.
وأنا أشتغل على المتن الصوفي، حضرتني الصورة التي رسمها ابن عربي في كتابه “الفتوحات المكية” عن ابن رشد لما نقل رفاة هذا الأخير من مراكش إلى قرطبة على ظهر جمل وقد وضع من جانب الحمل جثمان ابن رشد ومن الجانب الآخر كتبه. وكانت استعارة الميزان، ميزان الكائن وفكره حاضرة هنا بقوة. وقد كتب ابن عربي في الفتوحات المكية هذه العبارة التي جاءت على شكل خاطرة شعرية: “هذا الإمـــــام وهـذه أعـمـالــــه …” يا ليت شعري، هل أتت آماله؟ لم يدل ابن عربي بخاطرة فلسفية أو صوفية كما كان منتظرا، بل نطق شعرا في حق فيلسوف نعته بالإمام وتساءل عن النتاج الفلسفي ومدى رضي ابن رشد عنه. حياة بنيس تعرف ضمن الكتب. الكتب التي قرأها وألفها ايضا. لكن تعرف أيضا ضمن الكتابة وفي رحاب التأليف الشعري، النقدي، السردي، الترجمة… من الكتاب إلى الكتابة خيط رفيع ترصع على مساحته أو في ثناياه أحرف وكلمات تنتعش من الاحتراق. فلو وقفنا عند دلالة ومعنى الكتابة، لاكتشفنا أنها تخضع لمقاييس ومقتضيات خاصة.
في كتابه «تحصيل نظائر القرآن»، يشير الحكيم الترمذي أن أصل كلمة كتابة يحيلنا إلى كتيبة. أي أن الحروف والكلمات متصافة، متراصة ومنتظمة على شكل كتيبة حربية. لكن ما فائدة الكتابة إن لم تتحول إلى ميدان للحرب والموت؟ محمد بنيس واحد ممن أدرجوا الحرب في مجال الكتابة الشعرية. استعارة حرب الكتابة قربته من تجارب قصوى أو مما أسماه جورج باتاي و برنار نويل التجربة الداخلية أو الجوانية. أو ما أسماه الخطيبي بالحرب على الطريقة الطاوية. وبما أن الحرب فتنة، بمعناها المزدوج، أي كونها غواية وانشقاق Sédition et séduction، فيقوم مخطط الشاعر على الاشتغال على الهوامش، على المسكوت عنه، عن اللامقول، واللامفكر فيه. والتراث الشعري العربي حافل بفراغ أو بخصاص نقدي مروع.. ويوفر لنا العمل الأخير الصادر عن دار توبقال في عنوان “الشعر والشرّ في الشعرية العربية”، فرصة للوقوف عند فرادة المقاربة التي قام بها محمد بنيس والتي جمع فيها بين جراة الطرح ومتعة التفكيك وصرامته. بناء على قولة الأصمعي التي أوردها ابن قتيبة في كتابه “الشعر والشعراء” بنى بنيس الصرح النظري لأطروحة أظهرت في الأخير التعارض الراديكالي بين الشعر والإسلام وإقصاء هذا الأخير للأول إن لم يكن شعر مديح وتقريض لشخص النبي. كل ما يخرج عن المديح يدخل في خانة ممارسة الشيطان أو إبليس. “الشعر نكدٌ بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف ولان”.
بهذا المعنى يمكننا اعتبار إبليس من فحول الشعراء، أي أنه نقيض النبي، والنقيض هنا معروف في الإسلام بالدجال وفي المسيحية بـ antéchrist. ورد ذكر إبليس في القرآن 11 مرة أما الشيطان فجاء ذكره 88 مرة. على أي فهما وجهان لنفس العملة وأنهما يشكلان هوسا بالنسبة للقرأن. واستدعى النبي جبريل كسند وعضد لثابت ابن حسان…بمعنى أن معركة الشعر هي مواجهة بين الدجال وجبريل. نلاحظ هنا انزياح المعالجة لمسالة الشعر إلى أطراف وهوامش أخرى وقضايا جديدة. وهذا المشغول في نظري يفتح آفاق جديدة بلغة جديدة على مقاربة المتن الشعري العربي. وهذا ما قام به بنيس في هذه الدراسة. وللذكر فإن الشر هو القاعدة التي تأسست عليها الحداثة الفكرية والشعرية الأوروبية. بودلير، مالارمي، هولدرلين، تريستان كوربيير، أرثر رامبو، هم من يمثل الشر بما هو جمالية شعرية قطعت مع التيارات الكلاسيكية الشعرية.
الخلاصة الأولية هي أن نتاج محمد بنيس الشعري، والنثري، يدعونا إلى تأمل فكري عميق ومتعدد التخصصات، يدعونا إلى الاستغناء عن عاداتنا في مقاربة الشعر العربي، مع تأسيس الحوار على جمالية سامية وغير مألوفة.