طباخ الرئيس؟!

طباخ الرئيس؟!

محمود القيسي

“أفكر بكل من فقد شيئًا لا يمكنه تعويضه
بالذين يشربون دموعهم ويمتصون آلامهم..
أفكر بالغابة التي أصبحت منفى لعقلي
فتق في صدري ذكرى قديمة..
أفكر بالبحارة المنسيين فوق جزيرة ضائعة
بالأسرى والمغلوبين وبكثير غيرهم..
*بودلير

لم يكن للطفولة تأثير كبير علي، في الواقع – لقد قضيت معظمها في التخطيط لكيفية الهروب من الحروب والموت.. في بعض الأحيان أشعر وكأن العالم كله يتآمر لتدمير منزلي.. اصبح وعينا وذاكرتنا تراكم هائل من الانهيارات.. من الحروب.. من الموت.. وما بينهما من قضايا شائكة وملغمة ومشبوهة ومتشابهة.. جميع ذكرياتنا المتبقية برسم الطبقات السياسية الحاكمة في هذا العالم الموبوء.. من الكلمنجية إلى الشفنطجية إلى السمسرجية إلى البلطجيه.. مِن الذين سرقوا ثياب الرسل والانبياء والقديسين والقديسات.. وسرقوا ثياب الاطفال الرضع والحليب والدواء والماء والهواء والكهرباء.. أولئك الذين أحتفلوا بإنجازاتهم على إيقاع الحروب والموت وعصارة دماء الناس في مرابع ومربعات الشذوذ الفكري القديمة والحديثة وشربوا على الجثث الانخاب.. من وحي الحروب والدمار وقتل الشعوب.. من وحي المعارك الكبرى والحرائق الكبرى وموت الكائنات.. من وحي ان تلفظ الأزهار والفراشات انفاسها الأخيرة، أو تختبئ في بطن أمها الأرض ورحمها.. من وحي النزاعات والمآسي وتشويه وجه الانسان ووجه الطبيعة ووجه الله ويديه.. كتب صاحب لمن تقرع الاجراس.. الشيخ والبحر.. وداعاً للسلاح.. الوليمة الكبرى.. ارنست همنغواي : “ينام الاموات في البرد، وسينامون في البرد طوال هذا الشتاء بينما الارض تنام بجانبهم.. لا يحتاج الاموات الى قيامة فهم الان جزء من الارض، والأرض لا يمكن غزوها والاستئثار بها بآي حال من الأحوال.. لأنها أبدية، وستبقى حية أبدية، وستبقى حية بعد زوال الاستبداد.. وبعد زوال الطغيان والطغاه”؟؟!!!..

ما زال (إنقلاب بريغوجين) أو (إنقلاب طبّاخ الرئيس الروسي) في المطبخ الروسي الخلفي العميق الحدث الأكثر رعبًا في هذه الأيام المرعبة بمجرد نظرة وجودية سريعة على اداء قادة العالم من سياسيون واقتصاديون وعسكريون.. وأولئك الذينا يملكون الشيفرات السرية للحروب وأسلحتها العميقة.. أصبح من الصحيح، والطبيعي ان تبرز التساؤلات العديدة حول أسباب عصيان بريغوجين الحقيقة، والتي طغت على المشهد منذ بدايته، فيما رأى “محللون” أن فرضية الإتفاق المسبق بين بوتين وبريغوجين في المطبخ الخلفي للكرملين ليست مستبعدة وهذا هو الأهم والذي يجب التوقف عنده طويلا في التنقيب والتحليل والمتابعة المنهجية والموضوعية.. نعم، التوقف طويلًا أمام نوع العلاقة بين ألرئيس لإحدى أقوى دول العالم واكبرها من ناحية والطباخ أو مقاول المليشيات والمرتزقة في أحسن تقدير من ناحية أخرى.. نعم، غير مستبعدة وخصوصًا في تاريخ قادة ورجالات وسيدات المخابرات والعقول المخابراتية حول العالم في طريقة اداراة الحروب وتنظيم إداراتها وممارسة فنونها ورفع راياتها الكاذبة من الكر والفر والخدعة التي أتقنتها أجهزة المخابرات السوفياتية سابقًا والروسية الاتحادية لاحقًا منذ “الستالينية” وصولًا إلى “البوتينية” رغم ان هناك بعض المحطات التي يجب التوقف عندها مليا وإعادة قراءتها وبالأخص مرحلة الرئيس السوفياتي الأخير “ميخائيل سيرغيفيتش غورباتشوف” بما لها وما عليها والأسباب الحقيقية وراء إنهيار منظومة السوفيات العليا وحلفها وحلقتها التاريخية “حلف وأرسوا” الذي لم يكن سوى حلف عسكري أقامه المعسكر الشرقي – بقيادة الاتحاد السوفياتي – إبان الحرب الباردة، في مواجهة حلف شمال الأطلسي…!؟

غورباتشوف الذي شغل منصب رئيس الدولة في الاتحاد السوفياتي السابق بين عامي 1990 و1991 ورئيس الحزب الشيوعي السوفياتي بين عامي 1985 و1991. كان يدعو إلى إعادة البناء أو البريسترويكا.. أو ما أصبح يعرف بسياسات غورباتشوف من غلاسنوست وبيريسترويكا وإعادة تحضيرة للإستراتيجيات السوفياتية والتي هدف منها إلى إنهاء الحرب الباردة. وقد ألغى الدور الدستوري للحزب الشيوعي في تنظم الدولة، وبدون قصد (…) أدى إلى تفكك الاتحاد السوفيتي!… شارك غورباتشوف الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في إنهاء الحرب الباردة وحصل على جائزة نوبل للسلام عام 1990. آتت البريسترويكا ثمارها في 26 ديسمبر 1991 عندما توارى الإتحاد السوفياتي في صفحات التاريخ بعد توقيع بوريس يلتسن على إتفاقية حل أتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية… بدأ بوتين ضابط مخابرات في المخابرات السوفيتية لمدة 16 عامًا، وارتقى إلى رتبة ملازم أول قبل أستقالته عام 1991 لدخول السياسة في سانت بطرسبرغ. ثم إنتقل إلى موسكو في عام 1996 وأنضم إلى إدارة الرئيس بوريس يلتسن حيث شغل منصب (((مدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي)))، وهي الوكالة التي حلت محل (((هيئة المخابرات الداخلية في مفوضية أمن الدولة السوفياتية)))، ثم رئيسًا للوزراء. وأصبح القائم بأعمال الرئيس في 31 ديسمبر 1999، عندما استقال يلتسن..!؟

إلى ان شغل بوتين منصب رئيس روسيا الاتحادية منذ عام 2012، وكان يشغل هذا المنصب سابقًا من عام 2000 حتى 2008 بين فترتي رئاسته، كان أيضا رئيس وزراء روسيا تحت رئاسة أحد المقربين منه وهو الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف الذي لم يكن في حقيقة الأمر والحقيقة التاريخية سوى “خيال ماتة” أو “خيال بوتين” في أحسن تقدير.. التشبيه الذي يريح ويسعد الرفيق ديمتري..! هذا دون ان يغيب عن وعينا الذاتي والموضوعي رحمة بالتاريخ والتأريخ “فيلسوف” النزعة الستالينية الحديثة المعاصرة.. والاب الروحي لرجل روسيا الفولاذي الجديد القادم من موروث إيفان الرهيب و راسبوتين وستالين (((الديني والقومي والاشتراكي))) معًا في وصفة أو تركيبة أو خلطة واحدة.. خلطة واحدة خارج ميراث روسيا العظيم من بوشكين إلى تولستوي إلى ديستويفسكي إلى غوغول الى تشيخوف إلى غوركي…! نعم، ألكسندر دوغين الحاضر الأكبر في وعي بوتين والذي يشرح لنا بطريقة شكسبيرية في الإيجاز الشكسبيري الذي يحاول فيه (دوغين عقل بوتين) إقناع المواطنون والمشاهدون والمتابعون والخائفون إن ما حدث في روسيا من محاولة إنقلاب أمر حقيقي:

“كان كل شيء حقيقيًا بالأمس، نعم، هناك العديد من المقارنات مع التاريخ، روسيا ودول أخرى، هذه هي العصور الوسطى الجديدة، بعيدا عن نظريات المؤامرة، الواقع أعمق بكثير وأكثر إثارة للاهتمام من الأساطير التافهة والمنهجيات المبتذلة للاستخبارات وتقنيات حروب المعلومات، عندما يكون كل شيء حقيقياً، تظهر ملامح الوجود الحقيقية. لقد وقفت روسيا أمس على حافة الهاوية. وقفت بجدية. لكنها نجت”. نعم، كان انقلابًا حقيقًا (!!!)، هذا ما يحاول فيلسوف البوتينية وعقلها السلطوي الباطني الأعلى الكسندر دوغين أخذنا على حين غرة.. في حين يعطي أبنه الروحي (نبي البوتينية السياسية العليا) حجة الميلاد الروسي القومي الجديد وسلاح قوة الإقناع تحت قوس قزح (الخيانة العظم) لكل من تسول له نفسه الظاهرة او المتخفية إن يخالف ويختلف ويعارض ويعترض على تعاليم وتعليمات نبي الديانة الروسية الجديدة (فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين)!!

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمود القيسي

كاتب لبناني