لبنان في عنق الزجاجة

لبنان في عنق الزجاجة

د.وفيق ريحان

يتألف المجتمع اللبناني من عدة طوائف أساسية، يأتي على رأسها وفقاً للعدد، الطائفة المارونية ثم يليها الطائفتان السنية والشيعية، ثم الأرثودكس ثم الدروز ثم الكاتوليك، ثم الأرمن الأرثودكس وبعض الطوائف الأخرى المسماة بالأقليات، ومنها طائفة العلويين، ويبلغ عددها قرابة ثماني عشرة طائفة أو مذهب، وهي تقسم الى قسمين رئيسيين، الطوائف المسيحية والطوائف الإسلامية بوجه عام يعيشون جميعاً في ظل نظام برلماني ديمقراطي حر من حيث الشكل وطائفي من حيث المضمون، وهو أقرب ما يكون الى النظام البرلماني الذي كان يطبق في ظل الجمهورية الفرنسية الثالثة، لكن الممارسة السياسية من خلال هذا النظام، لم تكن لتتوافق بشكل دائم أو ثابت مع مضمون الدستور منذ نشوء دولة لبنان الكبير عام 1920 بقرار من المفوض السامي الفرنسي حتى اليوم، بل إصطبغ بصورة شبه دائمة بالممارسات الطائفية والمذهبية وإعتماد اسلوب المحاصصة في توزيع المناصب الإدارية والوزارية والنيابية حتى غدا النائب اللبناني في البرلمان لا يمثل الأمة جمعاء، بل يمثل جزءاً طائفياً ومناطقياً من المجتمع اللبناني، نظراً لعدم إعتماد النسبية الشاملة في قوانين الإنتخاب في ظل الدوائر الإنتخابية الموسعة، أو الدائرة الواحدة، وعندما طبقت النسبية في الإنتخابات النيابية الأخيرة التي جرت عام 2016 وعام 2022 على أساس النظام النسبي، ضمن نطاقه الضيق، مقروناً بما سمي الصوت التفضيلي، الذي إصطبغ باللون الطائفي أو المذهبي وذلك ضمن دوائر صغرى بلغ عددها خمس عشرة دائرة إنتخابية، جرى توزيعها بما يتناسب مع الحالة الطائفية والمناطقية الموروثة في البلاد، منذ زمن السلطنة العثمانية والإنتداب الفرنسي حتى اليوم، علماً بأن دستور الطائف قد تجاوز هذه الحالة الطائفية والمذهبية من حيث النص الدستوري في عدد من مواده، وعلى رأسها المادة 95 منه، التي تدعو اللبنانيين الى إلغاء الطائفية السياسية ضمن خطة منهجية، يشرف عليها الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية في البلاد على مراحل متعددة، بإشراف من الرؤساء الثلاثة ومن القيادات السياسية والهيئات النقابية والمدنية والثقافية التي تتشكل منها تلك الهيئة، إلا أن هذه الهيئة لم يتم تشكيلها حتى اليوم من قبل جميع الذين تعاقبوا على السلطة السياسية على إختلافهم، منذ العام 1990 وحتى اليوم. كما أنهم لم يلتزموا بروح النصوص الدستورية المنظمة للحياة السياسية والإدارية والأمنية والإقتصادية، بحيث يرى كل فريق منهم على حدة الطريقة التي تناسب وضعه السياسي من خلال تفسير الدستور أو تطبيقاته العملية، حتى بات الدستور موجوداً من حيث الشكل، ومغيباً من حيث الواقع أو المضمون، وأدخلت البلاد في حلقات من الفوضى السياسية والمالية والنقدية والإقتصادية والإجتماعية، إنعكست على مختلف أوجه الحياة والإنتظام العام للدولة، وكرست الى حد بعيد سيادة نفوذ القوى والأحزاب الطائفية على حساب سيادة ونفوذ السلطة المركزية، وأدى ذلك الى غياب الشفافية والمحاسبة في إدارة السلطة وإهتراء الإدارة العامة وتراجع السلطة القضائية والأجهزة الرقابية، وأدخلت البلاد في نفق الأزمات المستعصية على جميع الأصعدة، والى شلل القطاع المصرفي والمؤسسات المالية والنقدية، والى تراجع مستوى المعيشة في لبنان الى أدنى المستويات العالمية في ظل فراغ سياسي ونظامي وإداري يزيد من تفاقم الأزمة اللبنانية بالإضافة الى فشل جميع الجلسات الإنتخابية لإنتخاب رئيس جديد للبلاد، وفي ظل حكومة مستقيلة لتصريف الأعمال ضمن النطاق الضيق الى أن يتمكن المجلس النيابي المنتخب حديثاً من إنتخاب رئيس جديد للبلاد، وتشكيل حكومة للإنقاذ الوطني كما يعتقد الجميع.

هل تشكل الفدرالية خشبة الخلاص للبنانيين؟؟

لقد نصت وثيقة الوفاق الوطني للعام 1990 على ضرورة تطبيق “اللامركزية الإدارية الموسعة” على مستوى الأقضية، التي يتم إختيارها عن طريق الإقتراع العام ضمن القضاء، ويرأسها القائمقام، مما يتيح للبنانيين في كافة المناطق والأقضية التصدي للحاجات الإنمائية والإقتصادية والإجتماعية المختلفة، تحت إشراف ووصاية السلطة المركزية ممثلة بوزارة الداخلية والبلديات، إلا أن هذه التوصية لم يتم الأخذ بها حتى اليوم، حيث ما زالت القوى الطائفية وميليشيات الحرب هي الممسكة بزمام الأمور وتشكل المرجعية السياسية والامنية وحتى الإنمائية منها على حساب مركزية الدولة ومواطنية الإنتماء إليها. وتأتي الدعوات التي نشهدها اليوم الى إعتماد النظام الإتحادي الفيدرالي من كنف الكانتونات الطائفية التي كرستها الحروب الأهلية والإنقسامات العمودية المتتالية في ظل النظام الطائفي، وهي تكاد تكون إستكمالاً لها، وهي تدخل في سجل الصراع على تولي السلطة المركزية في لبنان، من منطلقات اللامركزية في إطار الكانتونات الفيدرالية، الإسلامية والمسيحية على حد السواء، وإذا كانت بعض القوى السياسية المسيحية تجاهر علناً في هذه المرحلة من الأزمات الدستورية والسياسية بإعتماد الفيدرالية كحل سحري لحالات الإنقسام والشرذمة في ممارسة السلطة السياسية والمؤسسات الدستورية، إلا أن القوى السياسية الإسلامية ليست بعيدة عن هذا الطرح بما تضمره من نوايا من منطلق طائفي أو مذهبي. إن وهم التقسيم الفيدرالي لن يأخذ الوطن إلا الى الجحيم الموعود والى المزيد من الأزمات المعيشية والأمنية، فهل نتعظ من الحروب الأهلية العبثية السابقة؟

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. وفيق ريحان

أستاذ جامعي