د. عبد الكريم برشيد
 
فاتحة الكلام
     والفاتحة هذه المرة ستكون بقلم واحد من أجنحة الاحتفالية المحلقة في السماوات السبع، وإنني بالفعل اكتب هذه العتبات، للدخول إلى الفضاءات الاحتفالية في الأكوان الاحتفالية، وذلك بحثا عن الفكر الاحتفالي وعن العلم الاحتفالي وعن الفن الاحتفالي وعن فقه الوجود الاحتفالي، نعم، إنني أكتب، ولكنني اقرأ ايضا، ويسعدني أن أقتسم مع القراء وأجمل ما قرأت، وإليكم ما كتبه الاحتفالي المجدد والمتجدد جناح التامي، يقول في أحد تعقيباته على ما كتبت:
(نحن نحب جمالية الحياة بمعناها الحقيقي، ونؤمن بالفصول الأربعة وبقوة المد والجزر. .
لا نأتمن أبدا لأصحاب المصالح البائدة
    “نحن هنا الآن” لا أحد يكتشف معانيها إلا من مارس دخول البحر الهادئ والميت والأحمر والأبيض والمحيط والخليج، كلها بحار ومحيطات، لكنها محطات للقروش والدلافين والحوت الكبير والأخطبوط الأبيض والأرزق والأسود والقناديل.. هكذا نحن، نعيش حريتنا في الخيال والواقع، فقط هو الموت برج يفرض نفسه، لكنه يدفعنا لنعيش.. لنصرخ.. لنقول الحقيقة.. لنبكي.. لنغازل وننافق .. ولنرسم في الكون أشكالا تشبه أفراحنا واحتفالاتنا وتعازينا .. ما أروع أن نعزي أنفسنا، ونشرب نخبنا ونحن مؤمنون بأن هذا العالم مقنع بأقنعة وبأشباح ولا شيء حقيقي.. أو خالد وأبدي وسرمدي. تحياتي للجميع، رحلة وحيدة تنتهي بلباس بدون جيوب . وافرحتاه يا الله! من غير هذه الوجوه*؟).
 
عن الفن الحي في حياة الأحياء
   – ما الفن، في روح ووجدان وعقل ومخيلة المبدع الاحتفالي؟
من هذا السؤال القديم أبدا هذا النفس الجديد في هذه الكتابة المتجددة والمتجددة
– هل هو نشاط جانبي على هامش الحياةاليومية الجادة؟
   في الجواب عن كل الأسئلة الكائنة والممكنة يقول الاحتفالي في كتاب (الرحلة البرشيدية) ما يلي:
  (الفن رؤية ورؤيا اولا، وهو موقف عادل ثانيا، وهو ذوق سليم ثالثا، وهو خطاب بليغ رابعا، وهو جمال وكمال خامسا، وهو تناسق وتناغم سادسا، وهو تفاهم وتلاؤم سابعا، وهو تفاعل وتواصل ثامنا، وهو عشق ومحبة تاسعا)
   وَهذا الفن الفنون، باعتبار حياة وحيوية، وباعتباره فعلا وفاعلية في التاريخ، هو بالتأكيد جسد حي، مثل كل الأجساد الحية، وله بالتأكيد روح وطاقة حيوية يحيا بهما بين الأحياء، وعليه، فقد كان ضروريا ان يجري عليه ما يجري على كل الكائنات الحية، وأن تلحقه الاعطاب،وأن (يمرض أيضا، تماما كما يمرض كل الناس، وكثيرا ما يصل هذا المرض إلى حد الوباء. وتنتقل أعراضه المرضية إلى جسد هذا الفن).
   وأعتقد بأنه لا وجود لفن سليم بدون خيال سليم، وأن يحلق هذا الخيال في السماوات العالية والبعيدة، وإنني، أنا الاحتفالي، أومن أيضا، بأنه لا مجال لوجود فن حقيقي بدون عقل خلاق، وبدون قصد فكري، وبدون رسالة نبيلة، وبدون محسنات بلاغية مكملة، محسنات جمالية تكون بمثابة الملح في الطعام، وأن يكون وجودها بالقدر الذي لا يصبح وجوده مضرا، وأن يكون تصنعا وتكلفا و أفتعالا أو مجرد استعراض نرجيسي، ويكون بهذا زيادة بلا معنى.
   وبالنسبة للاحتفالي، دائما، فإن كل فن فيه حس مادي محسوس، وليس فيه حدس صوفي رمزي، هو فن ناقص وغير مكتمل
وكل فن أيضا، لا يخاطب في الإنسان كل حواسه، الظاهرة والخفية معا، فإنه لا يمكن ان يكون فنا حقيقيا.
   وكل فعل تجريبي لا يفسر وجوده، ولا يبرره ، ولا يقنع متلقيه بأنه فعل ضروري وحيوي، فإنه لابد أن يظل مجرد شرود ذهني وفني ووجداني، ولا شيء أكثر من ذلك.
   إن الزيادة في الفن نقصان، والمرأة الجميلة ليست هي التي لها في جسدها عضو زأئد، ولكن هي تلك المركبة تركيبا فيه تناسق وفيه هرمونية، وفيه تناغم بين الشكل واللون، وبين كل المكونات، البرانية والجوانية والظاهرة والخفية، والكائنة والموجودة والممكن الوجود.
    والفن أساسا هو الكلية، وهو الوحدة والشمولية، وهو التفاعل بين الأجزاء التي تشكل هذه الكلية، ولهذا يؤكد الاحتفالي دائما على الكلمة في الاحتفال المسرحي، ويرى أنه مكون من بين مكونات أخرى متعددة ومتنوعة، ولهذا فقد وجسدناه يقول ويكتب بأن الكلمة أساسية، ولكنها وحدها لا تكفى، وكل المكونات الأساسية الأخرى لا تكفى، إلا إذا كانت متحدة ومتضامنة ومتكاملة ومتحاورة ومتجاورة ومتناغمة ومتناسقة، وذلك في فسيفساء واحدة، تذوب فيها الجزئيات الصغيرة لصناعة لوحة فنية واحدة مقنعة وممتعة.
   هذاالفن، هو أساسا ظاهرة انسانية واجتماعية وتاريخية، وهو فيض عقل الإنسان، وهو فيض روحه، وهو فيض خياله، وهو تفكير حي بالجسد الحي في المجتمع الحي في الحق التاريخية الحية، وقد خرجت كل الفنون من رحم واحد أوحد، والذي هو الاحتفال، ولقد ارتبط هذا الاحتفال بدوره بالعيد وبفعل التعييد، وارتبط هذا العيد بالجديد وبالتجديد وذك في المجتمع المتجدد وفي الزمن المتجدد.
   وهذا الفن،ماذا يمكن أن يكون سوى أنه إحساس إنساني قأئم على الإحساس بالوجود، وذلك انطلاقا من القانون الاحتفالي (أنا أحتفل إذن فأنا موجود).
 
والذي يمكن أن يرتقي ليصبح في درجة
   (ونحن نحتفل َمع الآخرين
إذن موجودون
والآخزون الذين نحتفل لهم ومعهم موجودون أيضا)
   ولأن هذا الإنسان لا يكفيه بأن يكون موجودا فقط، وأن يكون مجرد شىء جامد من الاشياء الجامدة، فقد اشتغل دائما، وطوال التاريخ، على تصنيع وتطوير وتجويد وعقلنة وتجميل هذا الوجود، وأيضا على تحديث الوجود الإنساني الخام في التاريخ، وبها فقد كان الفن هو الخلق، وكان هو الابتكار وكان هو الإبداع، وكان هو الاكتشاف، وكان هو الحرية والتحرر، وكان هو التحدي والتجاوز، وكان هو الانفلات من سجن الواقع، ومن كل قوانين الطبيعة، وتحديدا من قانون الهوية، ومن قانون الجاذبية، والعمل من أجل الانفلات والخروج من المغلق إلى المنفتح، والسعي دوما من أجل الشك في الموجود والسعي لإيجاد اللاموجود.
 
كل شيء ممكن وحتى المحال ممكن
   نعم (كل شيء ممكن..) وكل شيء محتمل الوجود في هذا الوجود اللامتنهي واللامحدود،
هكذا نطق ذلك المسافر الاحتفالي، والذي يحمل نفس اسمي، وذلك في رحلته الافتراضية التي قادته إلى مدينة الفكر والعلم والفنون الافتراضية، تلك الرحلة المتخيلة التي أعطاها (مقترفها) اسم (الرحلة البرشيدية) والتي كانت مخاطرة فكرية جميلة ونبيلة، وذلك بحثا عن عالم أوسع وأرحب وأعمق من هذا العالم الواقعي المحدود، وأن يكون ذلك العالم الممكن الوجود أكثر جمالا وكمالا، وأكثر إقناعا وإمتاعا، وأكثر عدلا وإنصافا، وأكثر عقلا وحكمة.
   كل شيء ممكن إذن، وكل شيء حاضر، إما بالفعل أو بالقوة، وإن لم يكن هذا الشيء حاضرا اليوم هنا، فما المانع من أن يكون حاضرا غدا أو بعد غد، أو في أي يوم من الأيام أو في أي عام من الأعوام؟
   وأصدق الوجود هو الوجود في الأحلام الصادقة، وهل هذه الحياة إلا حلم حالمين؟ وماذا يمكن أن يكون الفن سوى أنه فقه اصطياد الأحلام الطائرة، أو هو ترويض الأحلام أو أنسنتها أو تحريرها من سجونها؟
   وبالنسبة للاحتفالي فإن الحضور واجب وفرض عين، وذلك على كائن حي، وكل غياب في الوجود هو خيانة وجودية، وعليه، فإنه لا أحد يعذر لغيابه، ولهذا للحضور صور متعددة ومتنوعة، والشيء إذا لم يكن حاضرا هنا، فمن الممكن جدا أن يكون حاضرا هناك، في الأمكنة الأخرى وفي الأزمنة الأخرى، ولقد أكدت الاحتفالية ـ منذ بداياتها ـ على أنها وحدة واحدة، فيها حدود كائنة وفيها حدود ممكنة، وحتى ما قد يراه البعض حدودا مستحيلة فهي في الاحتفالية ممكنة الوجود وبالنسبة للمبدع الاحتفالي، المؤمن بعبقرية الإنسان، وبطموحه المشروع واللامحدود، فإن كل شيء سهل و قريب، مهما بدا للقاعدين الملتصقين بالأرض بأنه بعيد جدا، وهو قريب بالتأكيد، ولا يحتاج إلا لشيء من العقل، ولنسبة معينة من الخيال، ونعرف أن تلك الشجرة أسقطت التفاحة على نيوتن، وجعلته يكتشف قانون الجاذبية لم تكن في المريخ، ولكنها فوق رأسه وقريبة منه وقريبة من كل الناس، ولكن، هل كل الناس نيوتن؟ وهل كل الناس أرخميدس؟ وهل كل الناس أينشتاين؟ وهل كل الناس شكسبير؟ وهل كل الناس ابن خلدون أو ابن بطوطة؟
   إن كل الأشياء، التي قد تبدو بعيدة هي قريبة جدا من بصر ومن سمع ومن كل حواس الفنانين المتخيلين والمسافرين والمحلقين في السماوات العالية، وهي قريبة جدا في عين العراف (الأعمى) ترزياس، وقريب في مخيلة الضرير أبي العلاء المعري، في رحلته إلى ما وراء الواقع والوقائع، وما قد يحدث هناك، يظل قريبا في عين زرقاء اليمامة، وفي عيون كل حفدتها الذين المبصرين عن بعد، وقريب جدا أيضا، في عقل وروح ووجدان الفنانين المفكرين في الناس والأشياء، والمسافر في الفضاء المطلق للزمان والمكان مما يعني أنه لا حدود للعقل، ولا حدود للخيال الخلاق، زلا حدود لعبقرية الإنسان، وأنه لا شيء مستحيل في الفن، والذي هو فيض متدفق من الممكنات وفيض من الاحتمالات وفيض من التصورات وفيض من التوقعات وفيض من الاختيارات، وفي (الرحلة البرشيدية) نقرأ بأن كل شيء ممكن (خصوصا في عالم الفن يا سيدي.. أعرف أنك مبدع وشاعر وعراف وساحر يا شريكي، وأعرف أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره.. لقد علمتني الحياة فتعلمت، وأدركت أن هذه الحياة، في صورتها الصادقة والحقيقية والشفافة، هي الفن الصادق والحقيقي دائما، وعرفت أن هذا الإنسان لا يمكن أن تكتمل إنسانيته إلا بالفن الإنساني، وعلمت أن هذه الحياة لا يمكن أن تتحقق حيويتها إلا بالفن الحي..).
   في معركة الوجود اليومية يوجد الفن، وذلك باعتباره سلاحا عند البعض، وباعتباره معرفة عند البعض، وباعتباره علاجا للنفوس المريضة أو لأعطاب الوجود وأعطاب الواقع.
 
المحارب الاحتفالي محارب دون كيشوتي
   وهناك من يتحدث اليوم، في هذه المعركة الوجودية اليومية التاريخية عن المحارب الاحتفالي، ونجد في الناس من يسأل: وهذا المحارب الاحتفالي هل له سلاح؟ وما هو سلاحه؟
وعن هذا السؤال يقول الاحتفالي:
(ليس معي سلاح الجبناء، ولكن معي سلاح الحكماء.. معي الحكمة..)
   أما بالنسبة لأخطر كل هذه الأسئلة فإنه يقول:
(وأخطر كل أسلحتي هي التي تحت ملابسي.. بل وتحت جلدي..
وأما عن سؤال ( وماذا تحت ملابسك وجلدك يا سيدي؟) فإننا نجده يقول:
(تحتهما أفكاري وآرائي يا شريكي في العيد والتعييد، وتحتهما اختياراتي واقتناعاتي،
وتحتهما تصوراتي وافتراضاتي، وتحتهما مبادئي وأدواتي)
   هي أسلحة مقنعة وممتعة، تحيي العقل والروح والوجدان، ولا تقتل الأجساد الحية، وهي تسعد النفوس بالجمال، ولا تشقيها بالقبح في الأفكار وفي الصور وفي الأشياء وفي العلاقات. وهذا الفنان الاحتفالي، ليس واحدا مفردا في هذا الوجود، بل هو كل الناس، وكل الناس هو..
(وكل إنسان لا يختزل الإنسانية في ذاته لا يمكن أن يكون إنسانا حقيقيا..) ولقد اختار هذا الاحتفالي المسرح، لأنه أبو إبن وابو وأخو كل الفنون، ولأنه ملتقى كل الفنون، وفيه تجتمع كل العلوم وكل المهن وكل الصناعات.
   ولكن، ما معنى أن يكون الشخص فنانا؟ هكذا يتساءل الاحتفالي، و(هل معناه أن يكون راقصا ومغنيا كما يفهم بعض الناس؟) وبالنسبة للاحتفالي، فإن أصدق وأخطر كل الفنون في الوجود هو فن الوجود، وأن أجمل كل الفنون في الحياة هو فن الحياة، وهو فن العيش، وهو أن تكون حياة الإنسان قصيدة شعر، فيها حالات ومقامات، وفيها صور ومشاهدات، وأن تكون هذه الحياة معزوفة موسيقية أو أن تكون مسيرة الفنان الوجودية سنفونية موسيقية كاملة ومتكاملة.
   إن المعنى الذي تعطيه الاحتفالية للفن، هو بالتأكيد أكبر وأخطر مما قد يتصور المتصورون، ومعناه الحقيقي هو أن يكون الإنسان فنانا شاملا وكاملا أو لا يكون، أي أن يكون عرافا وشاعرا، وأن يكون حكواتيا ومورخا للوجدان، وأن تكون حياته قصيدة شعرية مقنعة وممتعة، وأن يكون رساما، وأن يكون نحاتا، وأن يكون ساحرا عرافا ومتنبئا،وأن يكون وجوده في الحياة اليومية لوحة فنية صادقة وناطقة ومثيرة ومدهشة، وأن يكون عالما ومفكرا وحكيما، وأن يكون له في حياته نظام حياة، وأن تكون له في فكره وعلمه منظومة أفكار، وأن يكون في حرب الوجود بطلا، وأن تكون حياته ملحمة ينتصر فيها الجمال على القبح، وينتصر فيها العقل على الحمق، ويتفوق فيها الحلمي والمتخيل على الواقعي اامحددد والحمد، وأن تكون مسيرته العمرية مسيرة آراء ومسيرة مواقف..
   والاحتفالي الفنان، مهنته الرحيل وصناعته الفرح، وأقدم مهنة في التاريخ هي السفر والرحيل، وهي الهجرة إلى العوالم الأخرى، وهي إلى الأوطان الأخرى وإلى الأزمنة الأخرى الحقيقية، وأقدم كل المهاجرين في عالمنا تمثلها الطيور المهاجرة بلا شك.
وهذا الفنان الاحـتفالي العاشق للسفر والرحيل، هو الذي قال ( إنني أرحل بين حدين؛ حد الوجود وحد العدم، وحد البدء وحد الختام، وحد الشك وحد اليقين، وحد الحضور وحد الغياب، وحد الامتلاء وحد الخواء، وحد الضوء وحد الظلام، وحد الحرب وحد السلام، وحد اليقظة وحد المنام، وحد الصحو وحد السكر، وحد الكتابة وحد الكلام ..)
   وفي عين الاحتفالي، فإن ما يهم أكثر هو فعل الحركة، وهو الانتقال من حال إلى حال، وعليه، الختام، في معناه الحقيقي، هو بدء جديد، وأن الموت ليس نهاية، ولكنه بعث يجدد شجرة الحياة، وذلك مع تجدد الأيام والأعوام، ومع تجدد دورة الطبيعة،
ولما كانت الأشياء تظهر وتختفي، وتحظر وتغيب، وتقترب وتبتعد، وتختلفزوتتشابه فقد كان مطلوبا منا ألا نثق في حواسنا وحدها، وان يكون العقل هو المرجع الأساس، وأن يكون الشك سبيلا من سبل البحث عن الحق وعن الحقيقة وعن الجمال وعن الكمال.
 
أصل الكتابة ورقة بيضاء
   وفعل الكتابة لا يمكن أن يتحقق ـ وبشكل حقيقي ـ إلا على ورقة بيضاء، وتأثيث الفضاء مسرحيا لا يمكن أن يكون إلا داخل فضاء فارغ، وماذا يمكن أن تكتب على ورقة مكتوبة؟
وماذا يمكن أن تبني، دخل أمكنة وفضاءات ممتلئة كلها بالبنايات؟
وبذلك يكون من الضروري أن نمحو الألواح القديمة اولا، حتى نكتب عليها الكتابات الأخرى الجديدة، وأن نقوم بهدم كثير من البنايات الآيلة للسقوط، وذلك من أجل أن نبني مكانها أبنية أخرى جديدة وحديثة.
إن الورقة البيضاء بالنسبة للكاتب، هي دائما ورقة ناطقة، وهي تتحدى الكاتب، وتقول له:
اكتب واكتب، وإياك أن تقول ما انا بكاتب
   تماما كما أن أن المساحة الفارغة تتحدى المخرج وتقول له: تصور شيئا، واقترح شيئا، تأثيث هذا الفضاء الزمكاني، كما أن هذه المساحة الفارغة تتحدى الممثل، وتطالبه بأن يفعل وان ينفعل، وأن يتفاعل، وأن يقول كلاما له مبناه ومعناه، وهو مطالب في فراغ الخشبة ان يكون حاضرا، وأن يعرف انرالطبيعة لا تحب الفراغ، وأن الكتابة لا تحب البياض، وأن المواقف تحب كل الألوان، وتقبل كل الألوانط إلا اللون الرمادي. والممثل في المسرح هو سيد عالمه، وقد يظهر أن هذا العالم مجرد خشبة بطول محدد وبعرض محدود وبعمق محدد، ولكنها فضاء جمالي متخيل لا تحده الحدود، والممل في هذا المسرح يستطيع أن يفعل كل ما يشاء، وأن يكون من يريد، وإذا لم يستطيع أن يسافر بالطائرة فإنه من الممكن أن يسافر على متن بساط الريح، وإن من أغلقت أمامه كل الأبواب يمكن أن يقصد باب الأحلام والخيال، و في هذا المعنى يقول الاحتفالي:
(لا شيء أجمل من السفر في دنيا الخيال، إنني أدمن النظر والتنظير، وأدمن الرؤية والتفكير، وهذا هو قدري … ويسعدني أن أكون تحت رحمة العقل المفكر، ورحمة العقل من رحمة الله يا صاحبي، ويسعدني أن أكون أنا الحالم المفكر، وأن أكون أنا الراحل المسافر..)
   وهذا الفنان الاحتفالي، الساكن في مسرح الخيال، والمسكون بروح الجمال، الذي كتب وقال، جوابا على سؤال (وأين تسكن؟ لقد قال:
(أسكن في الطريق .. الطريق الرابط بين الولادة والموت، والرابط بين الوجود والعدم، وبين الهنا والهناك.. إنني أعيش بين موتين، وأموت بين عيشين، ولست أدري.. أيهما البدء، وأيهما سيكون المنتهى والختام، وهل هناك شيء يمكن أن نسميه المنتهى والختام؟ ومنتهى أي شيء؟ وبداية أي شيء؟ ففي هذه الدائرة التي تدور، والتي هي دائرة الوجود ودائرة الحياة،ودائرة الكون، ودائرة الطبيعة، يضيع البدء ويضع الختام، ولا يبقى معنى لأي شيء إلا للحركة، وهل هذه الحركة إلا طاقة خلاقة، وهل هذه الطاقة إلا روح؟ روح الوجود والموجودات وروح الناس والأشياء).
   هذا الاحـتفالي الفنان، قد يظهر لبعض الناس بأنه (يشتغل) بالمعرفة، ولكن (متى كانت المعرفة شغلا يا صاحبي؟ بل قل أنا أعشقها عشقا جنونيا .. فأنا مجنون المعرفة ولا فخر،
وإذا مت يوما، فلن أموت إلا من أجلها هي.. ليس هناك شيء أشقى في العشق يا صاحبي أكثر من العشق من طرف واحد، إنني أعشق مولاتنا المعرفة، ولكن هي .. هي تحب من؟
وتعشق من؟ قد أكون أنا.. ممكن جدا، وقد تكون أنت..)
هذا هو العاشق الاحتفالي، وهذا هو صوته، وهذا هو فنه، وهذا هو إبداعه، وهذه هي قناعاته وأفكاره.