إشكاليات التحول في رواية “رسائل المتحول” (1/2)

إشكاليات التحول في رواية “رسائل المتحول” (1/2)

لحسن أوزين

                  (إن اختيارك تقمص نوع معين من الجسد، أن تعيش أو ترتدي جسدك بطريقة معينة، يعني عالما من الأنماط الجسدية   المعترف بها. أن تختار جندرا يعني تأويل المعايير الجندرية السائدة بطريقة تعيد تنظيمها بشكل جديد). / جوديث بتلر

تمهيد: الكتابة لا تولد رواية، بل، بالأحرى، هي تصبح كذلك

     ما يهمنا في هذا العنوان الفرعي، الذي قمنا فيه بتحوير كلام سيمون دي بوفوار، هو مفهوم الصيرورة الدال على الانتقال والتحول المستمر والتغيير في البنيات والاشكال والعلاقات…، التي تخص تطور الإبداع الروائي. وذلك قصد تشخيص وتمثيل تحولات الواقع الحي، التي تعجز أو تصاب بنوع من الصد المعرفي العلوم الإنسانية والاجتماعية، في مقاربتها المنظوماتية والبنيوية والميدانية، لما يعتمل ويتطور في أعماقها-التحولات-  من تغييرات سوسيولوجية، لا تتوقف عن الحدوث الصريح والخفي باستمرار.

   هذا يعني أننا لا حظنا، في هذه الرواية، وخلال قراءتنا للروايات السابقة لعبد الحميد شوقي، أن هناك جهدا معرفيا وفكريا وفلسفيا وإبداعيا، يؤسس ويرافق التضاريس الوعرة لهذه الصيرورة في تكون وتطور الكتابة الروائية عند الكاتب. وذلك تبعا لمنطق اشتغالها الداخلي، وفي ارتباطها وتفاعلها بالحقل الثقافي الاجتماعي، وبالقارئ كقطب جمالي يفرض رهاناته وتوقعاته وتأويلاته، وهمومه وهواجسه وأسئلته. وهذا ما جعلنا نعتقد أن رواية “رسائل المتحول” اكتسبت بجدارة قيمة أن تصير وتكون رواية مضيافة، ومنتجة لأسئلة إشكاليات التحول.

   تترسخ في التجربة الإبداعية لعبد الحميد شوقي، سيرورة التحول هذه. تأخذ معانيها العميقة، ومداها الأبعد. كما لو أننا أمام مخاطرة إبداعية للكتابة، لا تخشى الحد الأقصى للمغامرة في مواجهة الرؤى والأفكار والدلالات، والانساق الثقافية والاجتماعية التقليدية السائدة. لهذا تنوع الخلفيات المرجعية، الواقعية والنصية والتخييلية، المذكرات والرسائل واليوميات…، التي يتكئ عليها الابداع في اشتغاله الداخلي ككتابة أدبية إبداعية. إنها تجربة تقتحم وتنتهك وتخلخل البنى السردية والثقافية والاجتماعية التقليدية المتحجرة. وبعيدا عن التنميط المألوف، تصر على أن تعيش البنية السردية تحولاتها، صيرورتها، لامتلاك تمكينها الأدبي، واقتدارها الفني الإبداعي للشكل الروائي.  وبالتالي تُحصّل قدرتها على إنتاج المعاني وتوليد الدلالات، وتحقيق متعة القراءة، ومعانقة حرقة الأسئلة التي تواكب سيرورة، انتقالها وترحالها، وتحولاتها في أن تصبح رواية. وهكذا تكتسب جدارة حمل عبء، ومسؤولية الكتابة الإبداعية، المعبرة عن هويتها السردية، من خلال  الشكل الروائي الأصيل.

   هكذا كان تفاعلنا مع رواية” رسائل المتحول”، حيث كان لسيرورة القراءة منطقها الخاص، بتوجيه من الذخيرة الثقافية، وضمنها كانت حاضرة بشكل ما قراءتنا لأعماله السابقة، التي تؤسس فرضياتنا التأويلية، وهي تنتج الأسئلة الحارقة المتفاعلة مع الرؤية الفكرية والصنعة الفنية الجمالية للرواية في تحولاتها الجميلة والقاسية في زحزحة التوقعات، وخلخلة التقليد والموروث في البنى والأفكار والاشكال والتلقي…

العنوان: انتهاك عتبة باب الحكاية المحظور

   يبدو العنوان بكل ايحاءاته المعنوية، و ثقله الفكري، وكثافته السيميائية، بمثابة عتبة باب الحكاية المحظور طرقه، أو التفكير في ولوجه. إنه المحذور والتابو المحرم انتهاكه، والممنوع التجرؤ على فتحه. لكن ككل حكاية/ رواية فمتعتها وجماليتها في قدرتها على ركوب مغامرة انتهاك المحظور، وتحمل كل المآسي والعواقب، والمعاناة التي تجعل من الرواية رواية مؤلمة وساحرة وممتعة وأخاذة بعقل القارئ. ومفجرة للكثير من الأسئلة النقدية الموجعة والمؤرقة، والضروري بناؤها واكتشافها، باعتبارها النور الوهاج المضيء للسبل الآمنة. والبوصلة التي تشتغل كأفكار توجيهية لعملية التلقي، بعيدا عن التماهي، وقريبا من خلق المسافة النقدية.

   للمحرم المحظور سحره واغراؤه، خاصة وهو يتحرر من لعنة الهامش والمدنس والملعون، والمستباح المهدور دمه، الى حد، النبذ والطرد، أو الرجم والقتل. هكذا صار بقوة الكتابة وسلطتها مركزا، ومتنا وخطابا. يعيد بصورة أخرى مختلفة، إنتاج علاقات توزيع قوة سلطة الحضور والغياب، المركز والأطرف، المكتوب والشفوي، المتن والهامش، المذكور المدون والمنسي المسكوت عنه.

   هكذا يشتغل العنوان وهو يورط القارئ بفضول اغراء انفلات الشر، وارتكاب المعصية، في أخذ حصته من متعة المدنس في انتهاك عوالم التابو، رغبة في التعرف على أسرار ما وصمته الأوامر والنواهي، ومكارم الاخلاق والفضيلة، والشرف الرفيع، بعمل الشيطان. دون أن تقيم أي اعتبار للإنسان بمنحه مساحات آمنة في الحضور والوجود وجق الاختلاف، بعيدا عن التحكم في الرغبة والجسد والمتعة…

   يشتغل العنوان على أسئلة كثيرة مكبوتة ومقموعة، ظلت عند القارئ في العتمة مغيبة خوفا من سلطة القهر التي تمارسها الرقابة المجتمعية، والانساق الثقافية والدينية، والاجتماعية السياسية، السائدة والمسيطرة، كسلط متحكمة في الجسد والعقل  والرغبة …

   العنوان يثيرهذه الأسئلة، يستفزها، يقدف بها في العراء، ويقوم بتحيينها وتشهيرها في وجه القارئ. فيزج به في حيرة التباس خارج تصورات أنماط الجندر المشروعة والشرعية، التي تربى عليها منذ الطفولة، وتشربها ثقافيا واجتماعيا. وما عداها شر ولعنة وانحراف عن الصراطات المستقيمة، ورجس من عمل الشيطان.

أولا / ما الذي تقوله قصة/ متن الرواية

   تحكي الرواية عن أستاذ جامعي يدرس اللغة الإنجليزية بجامعة ابن طفيل بمدينة القنيطرة، يجد نفسه ضمن بعثة أرسلت من طرف الجامعة، الى أمريكا، للتكوين واستكمال التأهيل في المستجدات التربوية والبيداغوجية، التي صارت ضرورية وأساسية، من أجل بناء أطر ذات كفاءات. و قادرة على مواكبة المستجدات، والتحولات العلمية والتعليمية. الكثير من الغموض والاسئلة والالتباسات تحيط بشخصية هذا الأستاذ الذي سيفاجئ زملاءه في البعثة، باختيارات، ما بعد جندرية، صادمة ومزلزلة، للتصورات والمعتقدات الأخلاقية والقيمية التي توجه وتحكم ثقافتهم الجندرية  بسطوتها الذكورية.

   فقد أقدم هذا الأستاذ على تفعيل اختياراته التي يرى أنها تنسجم مع كينونته، بوصفه كائنا حرا، كما كان يكرر دائما في وجه كل من يتحدى رغبته الدفينة في التحكم في زمام مصيره، جسدا وروحا. فخلال إقامته، بعد مضي أشهر معدودة على تواجده بأمريكا، تعرف على أستاذه إميليو ووفاميلا، وهما من الارجنتين يحملان هموم التحولات التي عاشتها وتعيشها بلادهم.  التحول من الديكتاتورية العسكرية الى خوض غمار الانتقال الديمقراطي، والتخلص من معاناة وعذابات قسوة ووحشية العسكر. ففي الوقت الذي كان أستاذه مهتما بخوض تجربة التحول إبداعيا على مستوى الفرجة المسرحية. كطريقة للوجود في اثبات الذات، وتملك العقل و الجسد، وتحريرهما من رعب القمع والتسلط الفاشي للعسكر. إزاء هذا التحول يختار الأستاذ الجامعي المغربي عيش التحول في حده الأقصى، كما يعتقد، تحديا لكل ما يمكن أن ينتهك حرمة جسده. أو يحد من حريته في القدرة على تملك مصير كيانه ووجوده وكينونته. “اخترت أن أجبر نفسي على الاعتراف بحقي في إخضاع الحرية لأشرس أنواع التناقضات”.  200

    لهذا خاض تجربة التحول الجنسي، عن طريق الجراحة ومستلزماتها الطبية والصحية. فتلبس جسد أنثى، رغم أنه يصر مرار بأنه ليس ذكرا ولا أنثى. كما ليس شاذا ولا منحرفا أو مومسا. لكنه مظهرا،  وجسدا ولباسا، وعلى مستوى الوظائف والأدوار الجندرية، انخرط في الأدوار والوظائف الجندرية للمرأة، المفروضة من طرف النظام الثقافي الاجتماعي الأبوي، بنزعته المركزية الذكورية.

   مع العلم أن هذا الأستاذ المتحول ترك عشيقة أو حبيبة اسمها دونيز إشراق. وهي أستاذة جامعية تدرس اللغة الفرنسية، ومشبعة بثقافة الحداثة والأنوار. كما ترك ابنته جميلة في شهرها الثاني، وزوجته سلمى التي تمارس أيضا مهنة التعليم بالسلك الابتدائي. ولم تجد سلمى في طريقها لمعرفة الأسباب التي حالت دون عودة زوجها من أمريكا، بعد أن عاد أصدقاؤه من دورتهم التدريبية الى المغرب، غير صديقه بشير حمراوي الذي حاول قتله بدعوى أنه تحول مسخ، وعار على البلد الذي لطخ شرف وطنه بتحوله الجنسي المسخ. تقنع بشير بهذه الاخلاق الرفيعة، التي تنضح بالفحولة والذكورة المتغلبة، بعد أن فشل في تحرشه الجنسي بصديقة، بدعوى أنه الأولى بالتمتع بجسده كمتحول/أنثى. هذا الأخير/ة سيتنازل عن قضيته في متابعته قضائيا، ليطلق سراحه من السجن الذي مكث فيه أربع سنوات، ويرحل مباشرة الى المغرب. لهذه الاسباب فقد عمله وصار عاطلا عن العمل لا يلوي على شيء.

   في لقاء سلمى ببشير قدم لها قصة كاذبة عن دوره البطولي في قتل المتحول المسخ، في صورة أقرب الى جريمة الشرف التي يستحقها البلد تكريما وتعظيما وتقديرا له. أمام هذا الفقدان والهجر النفسي العاطفي، تورطت سلمى معه في علاقة جنسية، حيث كانت تزوره كل نصف شهر. دون أن تكشف لابتها جميلة عن سر غياباته المتكررة، الى أن كبرت سلمى بين جدة تتستر على تصرفات ابنتها، و أم تائهة، ومجرم مفعم بضغينة الانتقام، يستغل أمها جسديا وماليا، بعد فشله المخزي كمتحرش، حاول قتل أبيها.  فقد تواطأ معا، سلمى وبشير، على كتابة رسائل، لابنته جميلة،  مشحونة بحكايات بطولية، باسم الاب الغائب، المقتول في موقف بطولي. هكذا زورا تاريخها الفردي، وهويتها الشخصية. لكن بفضل خبرتها وتجربتها الذاتية، ومستواها الثقافي الدراسي، اكتشفت الخدع الكاذبة وراء الرسائل المزيفة لأب غائب، قتلته الشفرة النفسي للاشعور الثقافي الاجتماعي الجمعي، التي استبطنها بشير تربية وتنشئة، في ظل أقنعة مكارم الاخلاق والشرف الرفيع، التي يتغنى ويتبجح بها النظام الابوي. حدث هذا التعري والانكشاف للحقيقة، من خلال تعرف جميلة على دونيز إشراق حبيبة الأب، التي صارت تراها أمها الحقيقية التي أخطأها القدر.

   وفي رسالة من دونيز، التي سافرت الى باريس، قصد لاستكمال دراستها العليا، ستقرأ جميلة رسالة أباها الى دونيز، يخبرها برغبته الكبيرة في رؤيتها ورؤية ابنته جميلة. فأيامه صارت معدودة بسبب السرطان. هذا الرعب المرضي عاش تجربته الوهمية في تشخيص خاطئ بالمغرب، حيث أخبره الطبيب بإصابته بسرطان الجلد. لم يدرك هذه الحقيقة التي قررت قدر تحوله، هروبا من سطوة المرض والموت. إلا عندما خضع/ت لفحوصات دقيقة كذبت معاناة الوهم المرضي، للتشخيص الكاذب بالمغرب. معاناة وعذابات تجرها في أعماقه صامتا. حتى أثقلت على روحه الشيء الذي ولد في نفسيته ردود أفعال جنونية في تخطي تجربة المرض والتهديد بالموت والتخريب والتحلل الذي سيطول جسده. هكذا تولدت لديه رغبة عارمة وفادحة في امتلاك زمام حرية تقرير مصير جسده. بوصفه كائنا حرا، كما كان يزعم كشكل أقصى لعيش تجربة التحول. وهذا ما دفعه الى التفكير في خوض غمار التحول، متحديا فكرة التحول في المسرحية التي كان يشتغل عليها أستاذه.

   ستسافر دونيز إشراق الى أمريكا، لتعيده في المستشفى. فتجده يعيش ساعاته الأخيرة طالبا الصفح والغفران، من سلمى وجميلة ودونيز. وعندما التحقت جميلة بالمستشفى لرؤية أبيها ولو في اللحظات الأخيرة، وجدته قد فارق الحياة، وقد صار مجرد جثة، ستتحول الى مجرد رماد حملته معها دونيز في عودتها الى فرنسا. بينما سلمت الى جميلة رسائل كتبها أبوها خصيصا لها.

ثانيا/ إشكاليات التحول

  • مفارقات التحول

     “كان إميليو هادئا في مقعده بالباكستيدج، يعطي بعض التعليمات الأخيرة لطلبته المتحمسين. لا، لم يكن التحول في عرضه المسرحي يشبه تحولا من الإنسانية الى الحيوانية، كما في رواية كافكا، ولم يكن تحولا جنسيا مجانيا بفعل الصرعة المرضية،  كما في أرصفة مدينة لا تنام، كان تحولا آخر”. 200

    لا يستطيع القارئ أن يتجاهل الكثير من المؤشرات النصية التي تطرح التحول كثيمة محورية ومركزية في الرواية. هذا التحول الذي يعتبر مسخا في السياق المجتمعي المغربي. ومرفوضا، ملعونا غير مرحب به. لهذا يبقى سؤال التحول مطروحا في عمق تضاريس الرواية، وهي تتناول التحول في البلدان الديكتاتورية خاصة في الارجنتين التي هي أقرب في سياق تجربتها القاسية المؤلمة الى ما عرفه المغرب الحديث والمعاصر. يحدث هذا في الفترة التاريخية نفسها من سبعينيات القرن الماضي. إنها مرحلة الصراع السياسي الاجتماعي حول السلطة، وما عرفته من تجاوزات خطيرة: الاعتقال والاختطاف والاغتيالات، والمجازر والاختفاءات، والتعذيب والسجون. وهي المرحلة التي سميت عن حق تجربة الجمرة والرصاص. الوقائع نفسها عرفتها الأرجنتين بقوة وشدة أكثر عنفا وقسوة في التحطيم، للقوى السياسية المعارضة، للفرد والجماعة، وللمجتمع ككل.

   لذلك عندما تناولت الرواية بشكل دقيق مرحلة العنف الفاشي السياسي الطبقي الذي مارسه العسكر في الارجنتين. ثم ما تلا ذلك من محاولة عيش التحول الديمقراطي، بالكشف عن الحقائق البشعة، والفظاعات المرعبة، التي ارتكبت في حق الشعب. ثم المصالحة التي دخلت تجربتها جميع القوى السياسية والمجتمعية. بما في ذلك النخبة المثقفة الحاملة لمعاناة وهواجس وأحلام وتطلعات التحول الديمقراطي. فالقارئ أمام هذه المعطيات والسياقات التي يحملها تحول البنية السردية، كخطاب روائي يؤسس فنيته الأدبية، على جملة من الخصائص المعنوية الأدبية، والتقنيات الشكلية الحداثية في البناء والدلالات الروائية.  مما يدل على أن الرواية أيضا منخرطة في تجربة التحول، بالمعنى الفني الجمالي، في التمثيل والتشخيص لانحراف وليس انعكاس الواقع. لا يمكنه -القارئ – أن يتجاهل سؤال التحول الذي عاشه المغرب بعد تجربة الجمر والرصاص. حيث تم تأسيس هيأة الانصاف والمصالحة، التي أشرفت على تعرية فظاعات الماضي المرعب الأليم. من خلال جلسات الاستماع للحقيقة.

   الرواية لا تشير الى هذا التحول بشكل تقريري مباشر، بالقدر نفسه الذي غطت به التحول الارجنتيني. لكن السؤال المؤلم يطل من بين شقوق وطيات النص. ولا يستطيع فعل القراءة، وتفاعل القارئ أن يتحاشى عملية إنتاج المعنى، وهو يواجه موضوعية السؤال، في أن هناك نوع من التقابل المرعب الى حد المفارقة بين التحول الذي تعبر عنه الشخصيات الارجنتينية سياسيا وفنيا وإنسانيا، والتحول الذي تعبر الشخصية المغربية في خوض تجربة التحول الجنسي. كما لو أن الرواية تمارس نقدا مبطنا ، ممزوجا بالدونية والتبخيس والاحتقار. في نوع من القراءة السلبية لسيرورة التحول التي عرفها وعاشها المغرب. فكانت من نتائجها هذا التحول العار والمسخ….

   لكن بالمقابل هناك معطيات كثيرة، من القيم والأفكار والرؤى والدلالات الايحائية، والنصية والسياقية المعنوية، تقف في وجه  هذه القراءة التي قد تبدو مغرضة. وفيها تعسف كبير يضعف من مصداقية التأويل السابق. إنها معطيات تنتصر لحرية الانسان في اختياراته الفردية والذاتية في عيش كينونته، ونمط وجوده الاجتماعي، بما يحفظ ويصون كرامته وقيمته الإنسانية. بعيدا عن السلطة القهرية الثقافية الاجتماعية للنظام الأبوي الذكوري في فرض الأنماط الجندرية.

   “لا أستطيع أن أقول لك أي شيء عن تحولي، إنه اختبار لحريتي الشخصية في امتلاك جسد خاص بي.”244

  • التباس التحول

   “كان التحول مرسوما منذ اللحظة التي انبسط فيها قدري على صور الاشعة في مكتب طبيب مختص في أمراض الجلد. لقد مكر بي جسدي قبل أن تلامس قدمي عشب الأشياء البسيطة… سأمكر به إذن، سأنسف يقينه المورفولوجي، لن يختل سوى نظام البائسين الذين ما إن يتأوه الجسد، حتى يستلو خناجرهم، ويثقب الاسلاف حناجرهم. لست جسدا بائسا منذورا لشفقة الاخرين، وتوسلات من سيزورني في المستشفى، قررت، ضدا على جسدي، أن أتزوج امرأة عادية، وأن أعشق، ضدا على بذاءة الوصايا، أميرة من لهب، وأنجب، ضدا على المحو، بنتا، ستفك يوما ما، ما انغلق عليه جسدي من أسرار، ولربما، نطقت أمام جثماني بالغفران، وارتفعت الى جبل الألب، لتطال ” تحولي”، لو قدر للأطلنتيك أن يحملها الى القارة الجديدة. “276

   أسئلة القراءة السابقة تواجه تحدي الالتباسات التي تنجزها تحولات البنية السردية. حيث تكشف في انتقالاتها، أو تحولها عن حقائق تزيل الكثير من الغموض الذي رافق الأستاذ الجماعي المتحول. فالتحول النفسي المؤلم الذي برزت ارهاصاته، وتفجرت سطوته في منح الأستاذ المتحول وجهة دون أخرى، من القرارات الحدية القطعية التي لا تقبل الشك والسؤال.

    كانت بدايات هذا التحول بسبب التشخيص الخاطئ لحالته الصحية في المغرب. مما جعله يعيش محنة المرض الوهمي. لذلك كان بعيدا عن القناعات المبدئية التي كان يتشدق بها، باعتباره كائنا حرا. بل كل ما في الامر أنها مجرد ردود فعل ورطته في الزواج والانجاب من سلمى. ومن عيش تجربة عشق جنونية مع دونيز في اقبال على الحياة بكل شغف، انتصارا لنزوة الحياة ضد تهديد الموت. كما لو كان يسير في الاتجاه الأقصى لعيش تجربة القدرة على تحديد، والتحكم في مصيره جسدا وروحا، في اختياره لكيف يموت، متغلبا ومتحديا سلطة القدر المحتوم الخارج عن إرادته في تملكه واسترقاقه.

   وفي تحوله الذي يبدو اختيارا إنسانيا، كما تنتصر الرواية الى هذا، من خلال الكثير من القرائن  والمؤشرات النصية. تحضر التباسات خطيرة تحكم استراتيجية الكتابة في جعل هذا التحول ضحية تأويلات ثقافية اجتماعية جندرية على أنه أنثى. إد جعل المتحول جسده موضعا اعتباطيا لجندرته بوصفه  امرأة. تنجز الوظائف والأدوار، اليومية في العمل والشارع، نفسها التي يفرضها النظام الأبوي، في التلازم البنيوي الحتمي بين الجنسي والجندري. وهو بذلك يؤكد، دون وعي، فكرة أن الجنس المعاش أو المتحول، هو في كل الأحوال خاضع لعملية جندر مسبق. يحدث هذا في الوقت الذي يصرح على أنه كائن حر، وليس ذكرا ولا أنثى.

   وبعد القراءة وعيش تحولات البنية السردية، تتجمع المعطيات على أننا أمام تجربة في التحول مؤلمة وجارحة في رمزيتها العميقة. كانت وراءها معاناة سطوة الأوهام التي اشتغلت كتوجيهات إرشادية (براديغم)، فغلطت الرجل بهذا المعنى في اختيارات، أسستها ردود أفعال، بعيدة كليا عن خوض تجربة التحول، وعيشها بكل العنفوان النابع من حرية الذات في امتلاك زمام مصيرها جسدا ووعيا ورغبة…

   لذلك طفحت التجربة بطلب السماح والغفران من كل الذين واللواتي سبب لهم ولهن الأذى بشكل أو بآخر.

  • سؤال جحيم دلالات التحول

   “في أعماق كل مغربي خوف تاريخي من التحول. التحول مسخ، هرطقة، مروق، زيغ، بدعة، وسوسة شيطان. لم أسمع يوما من يمجد التحول دون أن يربطه بمقدمات ماضوية ونتائج مستقبلية مريبة” . 247

   إذا كان الامر كذلك فلماذا تورطت الرواية في قراءة التحول بهذا المعنى السلبي في المس في العمق بحق فئات مجتمعية كثيرة في اختياراتها الجنسية والجندرية؟ وهل حقا يمكن القبول بهذا التأويل الذي قدمناه، أم فيه تعسف وتجن على المعاني الجميلة والانسانية التي يمكن أن تحفز تفاعل القارئ على إنتاجها وتطويرها، والبحث في طياتها عن الأبعاد الواقعية والرمزية لدلالات التحول؟ وكيف يمكن للقارئ أن يتجاهل البنى والعناصر السردية في تحولها الإشكالي، هي أيضا. وما تحمله في سطورها وطياتها من قرائن ومؤشرات واضحة  تدل على التبخيس والمسخ تجاه تجربة التحول التي عاشها المغرب في شخص الأستاذ المتحول؟

   وهل نستطيع القول انطلاقا من هذه الالتباسات والمفارقات،  والتناقضات، التي تناولناها سابقا، أن هناك ما يدل على أن الحريات الفردية في الرواية تساق الى المذبح، لتقدم قربانا لعسر، أو مسخ التحول في المغرب؟

   وهل الكائن الحر، حقا كما وصف نفسه، كان في أمس الحاجة، وهو يختار كيف يموت، الى الاعتذار وطلب الصفح والغفران، بعد أن تأكد له أنه كان ممسوسا بلعنة الوهم، التي استنبتها في دواخله التشخيص الخاطئ لوضعه وحالته؟

   ألم يكن مؤلما أن تخبو الإرادة، وتنكشف هشاشة الكائن الحر، في صورة اضطرابات نفسية مست هويته الجنسية، وكينونته الإنسانية. مفسحة المجال للقدر المحتوم في العبث بجسده، والسخرية من قدرته على التغيير والتحول.

   “على ضفة سبو، كنت أصرخ في وجه سلمى: أنا حر، أنا حر،… المارة العابرون، والصباح يجهز فطوره الربيعي في نشوة أليفة، وسلمى لا تفهم سببا لهذه الحرية التي كان صراخها يضيع في ضباب الصباح بأشهر قليلة من زواجنا، آه، كم يلزمني لأعتذر منها، وأقول لها إنني لم أكن أصرخ ضدها، بل كنت أنتقم من قساوة الاشعة التي تجسد مرضي على صور سوداء، كيف تكون البداية ماكرة الى هذه التراجيديا؟ كنت أنفصل عن هذا الجلد الذي يغطي جسدي، والذي تصور الاشعة بقعه المرضية، لأدخل جلدا يغطي جسدا يمكر بدوره بهرمونات الصنافة البيولوجية. كان مكر المرض الخبيث هو الذي دفعني الى زواج دون معنى، وجعلني أسقط تمثال أميرة شقراء من كبريائها الشاهق، عندما انفصلت عنها في قمة الألق الشهواني، وجعلني أدخل جلد قارة لا تنتمي لدمي”. 277 و278   يتبع…

الهامش

عبد الحميد شوق،” رسائل المتحول” – (دار خطوط وظلال الطبعة الأولى 2023).

Visited 26 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي