فلسفة الحياد في تجربة الرئيس الراحل فؤاد شهاب
د. وفيق ريحان
في ظل الحرب الباردة ما بين الشرق والغرب التي تتأثر بها كافة الشعوب والأنظمة العربية، والأزمات السياسية والإقتصادية الناجمة عنها، شهد لبنان أولى أزماته المستعصية منذ العام 1955 في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون، حيث إنقسم اللبنانيون الى قسمين طائفيين بوجه عام، فريق منهم يؤيد مشروع العروبة الجديدة بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وغالبيتهم من المسلمين، وفريق آخر مؤيد للغرب تحت راية “المصلحة اللبنانية” بقيادة الرئيس الراحل كميل شمعون، ولقد أدى هذا التعارض في سياسة لبنان الخارجية إلى الإنقسام العميق والعلني بين الطوائف الإسلامية والمسيحية، وأدى إلى الأحداث الدامية عام 1958، مما أدى إلى تدخل القوات الأجنبية في الشؤون الداخلية للبنان، وحيث انعكس ذلك بصورة سلبية على صيغة الميثاق الوطني للعام 1943 الذي أوجد خيوط التواصل والاتفاق بين الطوائف اللبنانية لفترة طويلة من الزمن.
وبتاريخ 14 تموز من العام 1958، أي بعد نجاح الثورة في العراق وسقوط النظام الملكي فيه، استجابت واشنطن لطلب الرئيس شمعون وأنزلت قوات “المارينز” على شواطىء بيروت، وكان ذلك بناء لطلب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، وقد برر ذلك الرئيس شمعون بقوله :”لقد اتخذنا هذا الموقف بوجه جميع الذين حسدوا لبنان على ازدهاره ممن ارادوا له الشر… والذين باعوا أنفسهم وتلقوا أسلحة وأموالاً من الخارج، والذين سممت أفكارهم ضد لبنان وحريته وكيانه المستقل”.
ولقد سارعت الحكومة اللبنانية عام 1957 بالإعلان عن تبنيها “المشروع ايزنهاور” مع الولايات المتحدة الأميركية كدليل واضح على إنحياز الحكم اللبناني الى الغرب وتعارضه الأكيد مع تيار القومية العربية بقيادة الرئيس عبد الناصر، مما أثار حملة سياسية مصرية – سورية ضده، ما لبث المسلمون أن تأثروا بها بشكل خاص، وبهذا تكون حكومة الرئيس شمعون قد اختارت طريق المجابهة مع حلف المعسكر الشرقي، مما شكل بنظر القيادات السياسية الإسلامية إنحرافاً عن الخط الوطني العروبي وخروجاً على الميثاق الوطني بشكل سافر، وحيث أدى ذلك أيضاً إلى استقالة عدد من النواب احتجاجاً على السياسة التي تتبعها الحكومة، وأعلنوا عن قيام “جبهة اتحاد وطني” ضمت قيادات سياسية مسلمة ومسيحية كان أبرزهم “حميد فرنجية” ، “حسين العويني”، “صائب سلام”، “عبدالله اليافي”، “صبري حمادة” ، “فيليب تقلا”، و”أحمد الأسعد”، رافضين سياسة الأحلاف الأجنبية، وداعين إلى تبني سياسة خارجية محايدة ومستقلة بين المعسكرين، وإلى التمسك بالميثاق الوطني بالتعاون بين المسلمين والمسيحيين.
الانعطافة التاريخية في عهد الرئيس الراحل “فؤاد شهاب”
لم يكن الوقوف على الحياد سهلاً في عهد الرئيس فؤاد شهاب في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين العملاقين الأميركي من جهة، والشيوعي من جهة ثانية، وحيث أدت هذه الحرب إلى وقف العمل بالميثاق الوطني لمدة من الزمن، وجعلت الدولة والمجتمع غير قادرين على استيعاب المرحلة بتعقيداتها الداخلية والخارجية لسنوات عدة، وبعد الأحداث الدامية التي حصلت في ظل هذا الانقسام الكبير عام 1958، تسلم الرئيس فؤاد شهاب مقاليد الحكم في لبنان، معتمداً سياسة خارجية مختلفة تماماً عن السياسة التي انتهجها سلفه الرئيس كميل شمعون بخطوطها العامة، مستحضراً سياسة الرئيس الأسبق الشيخ بشارة الخوري قبل العام 1950، والعودة إلى الالتزام الصارم والدقيق ببنود الميثاق الوطني للعام 1943. وابتعد عن الأحلاف العسكرية المبرمة سابقاً مع الغرب، والالتصاق أكثر فأكثر بالسياسة التي اعتمدتها الدول العربية، أي سياسة الحياد بين المحاور المتصارعة، لإعادة التوازن الطائفي على صعيد الداخل بالاستناد إلى سياسة خارجية حكيمة ومتوازنة وحيادية، وبما يتلاءم مع التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نشأت في المشرق العربي من جهة، وفي لبنان بعد احداث العام 1958 من جهة ثانية. كما سارع الرئيس شهاب إلى إلغاء اتفاق “ريتشارد مالك” إثر مشروع الرئيس “إيزنهاور”، كما طالب بخروج قوات “المارينز” الأميركية من لبنان، واتجه نحو تحسين العلاقات بمحيطه العربي، لا سيما بسوريا وبجمهورية مصر العربية بالإضافة إلى سائر الدول العربية الأخرى، وكان الرئيس شهاب دقيقاً في وزن الأمور وسط الحساسيات العديدة التي أعقبت أحداث العام 1958 ذات الطابع الطائفي.
لقد اعتمد الرئيس الراحل بحكمة وذكاء سياسة الحياد الإيجابي بين الشرق والغرب، وانضم إلى مؤتمر دول عدم الإنحياز المنعقد في “بلغراد” عام 1961، رافضاً الانضمام إلى أي حلف عسكري أو إلى أية معاهدة تمنح الامتيازات إلى الدول الكبرى المتصارعة، حريصاً كل الحرص على الالتزام بالمبادىء العامة التي أرساها الميثاق الوطني للعام 1943 لرأب التصدعات الداخلية، والانطلاق بالدولة والوطن نحو المزيد من الازدهار والاستقرار والتقدم.
كما اتبع الرئيس شهاب سياسة الإعتدال بالانفتاح على الغرب والدول الكبرى وانضم إلى الاتحاد الأوروبي، لكنه لم يقاطع الاتحاد السوفياتي السابق، بل اعتبر الدول الاشتراكية صديقة للبنان، خلافاً للسياسة التي اتبعها سلفه، وبقي لبنان في عهده أقرب إلى المعسكر الغربي من المعسكر الشيوعي، نظراً للروابط الاقتصادية والثقافية التي تربطه به، لكن دون أن يؤدي ذلك إلى منح المعسكر الغربي طابع الامتياز أو الأفضلية كما فعل سلفه “الرئيس شمعون”، مستمراً في نهج الحياد الإيجابي حتى نهاية عهده الذي تكلل بالنجاح والازدهار، ليخلفه الرئيس الراحل “شارل حلو” مكملاً مسيرته التي تكللت هي أيضاً بالنجاح والازدهار في خدمة الوطن وبناء دولة القانون والمؤسسات.
لقد تمكن الرئيس “فؤاد شهاب” بسياسته الخارجية والداخلية الحكيمة من إبعاد لبنان عن النزاعات الإقليمية، ومن حفظ التوازنات الداخلية وبث روح الوئام والمودة بين الطوائف، معززاً بذلك سيادة لبنان والتضامن العربي من خلال سياسة الحياد والانفتاح على الخارج. فهل سوف يحظى اللبنانيون اليوم بفرصة مماثلة؟