نحن والزمن الظاهر والخفي

نحن والزمن الظاهر والخفي

د. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام

     في هذا اليوم، العاشر من يوليوز من سنة 2023 كان من المفترض أن أكون في عمان بالمملكة الاردنية الهاشمية، ولكن تلك الرياح، العاقلة او المجنونة، شاءت عكس ما أراد مهرجان الرحالة المسرحي بالأردن، والذي دعاني لندوة فكرية حول المخرح والمفكر والحكيم المسرحي الكبير عبد الرحمن عرنوس، ولقد أعددت ورقة في الموضوع عن أفكاره وعن وصاياه لتلاميذه وعن تجاربه المسرحية الرائدة والتجريبية، وبنفس المناسبة أيضا، كان مطلوبا مني ان أشارك في جلسة نقدية حول كتاب المخرج المسرحي الأردني الكبير حكيم حرب، والكتاب صدر عن الهيئة العربية للمسرح بالشارقة، وهو بعنوان (القبطان الذي ضل طريقه نحو المسرح) ولقد أعددت مداخلة، وستقرا بالنيابة عني، وقد اعطيتها عنوان: (حكيم حرب قبطان في بحار المسرح).

   ولقد أكدت فيها على أن المسرح اكبر واخطر واعمق واغرب كل البحار التي في العالم

  وإنني اعتذر لكل أصدقائي الأردنيين والعرب، والذين كنت ساكون سعيدا برفقتهم العلمية والفكرية أيام المهرجان، وذلك في واحدة من أجمل العواصم العربية، والتي هي عمان السعيدة

  والمانع لهذا التلاقي الجميل ليس خيرا، لأن رفيقتي في الحياة ستجري يوم غد عملية جراحية، وأعتقد ان الغياب، في مثل هذا الظرف، لا يمكن ان يكون إلا خيانة

وفي الأيام الأخيرة الماضية ايضا، استطعت ان اقتطع من وقتي الضيق ساعات قليلة للمسرح، واقد كنت يوم الأربعاء الماضي عضوا باللجنة العلمية التي تقيم التحصيل الفكري والفني لكل طلبة معاهد الدار البيضاء المسرحية، ورغم ان اليوم كان متعبا وشاقا، فقد استمتعت بما قدمه المسرحيون الشباب من مشاهد مسرحية تنبئ بمولد جيل جديد من المسرحيين العاشقين لأبي الفنون، ويمكن ان اقول، تعقيبا على هذا الحدث، بان مستقبل المسرح المغربي مضمون، وبأن دماء جديدة سيتم ضخها في شرايين وعروق هذا المسرح، وبالمناسبة، فإنني اريد ان احيي المدير والمايسترو الموسيقى الكبير الأستاذ عبد الواحد بنو احد، واحيي كل المعاهد التي تشرف عليها مقاطعات الدار البيضاء، واحيي مديريها واساتذتها وكل الذين اشتغلوا – ويشتغلون – بالتموين العلمي الرصين في المجال المسرحي والفني.

وأول أمس، السبت 8 يوليوز، كان اليوم الأول من أيام المؤتمر الرابع لنقابة المسرحيين المغاربة وشغيلة السينما والمسرح، والذي انعقد على امتداد يومين متتاليين بالمركب الثقافي سيدي بليوط، ولقد ألقيت في الجلسة الافتتاحية الأولى كلمة، ذكرت فيها بالظروف التي صاحبت مولد هذه النقابة، والتي جاءت من أجل أن تعزز التعدد والاختلاف في المجال النقابي، ولكي تكون صوتا مختلفا ومخالفا، ولكي تكون قيمة مضافة في سجل العمل المسرحي بشكل خاص، وفي سجل كل العمل الفني الإبداعي بشكل عام، وانني بالمناسة احيي كل الشباب المناضل في هذه النقابة، واثمن روح البذل والعطاء والتطوع من أجل خدمة حاضر ومستقبل المسرح والمسرحيين، وذلك في كل الوطن المغربي الواسع وبالمناسبة أيضا، فإنني اهنئ النقيب عبد الرحيم ضرمام على تجديد الثقة فيه، لقيادة سفينة العمل النقابي.

مكر الزمن ومكر الأيام

   الاحتفالي والزمن، علاقة مؤثثة بكثير من الأسئلة، والفعل الاحتفالي هو فعل محكوم بسلطان الزمن، ومؤطر بإطار الزمن، وبحدوده المادية والوهمية والمتخيلة

   تعتبر الاحتفالية، في فكرها وفنها وعلمها، ان هذا الزمن ليس وعاء فارغا يمكن أن نملأه بما نشاء، كما أنه ليس بريئا دائما، وقد يكون ماكرا في جميع الحالات، وهو بالنسبة للإنسان، وعبر كل التاريخ، قد كان دائما، وسوف يبقى، اكبر واخطر سارق في الوجود، وهو لا يسرق المال والجاه والسلطان، ولكنه يسرق الأعمار ايضا، وهل هناك ما هو أصدق وأغلى من أعمارنا؟

   وفي المقابل، فإن هذا الزمن السارق، يمكن ان يسرقه السارقون ايضا، ولعل أجمل ما يمكن ان نسرق فيه هي بعض اللحظات الصادقة والشفافة والجميلة، والتي تعبنا وتخترقنا مسرعة، مثل رصاصة قاتلة، ومن يملك ان يقبض على رصاصة؟

   وهذا الزمن السارق، قد يسرق افراحنا الجميلة ايضا، وقد يسرق احلامنا في غفلة منا، وقد يسرق منا تلك الساعات التي أعطيت لنا في مسرحية الوجود، والتي كان علينا أن نحياها، بكل عيديها التي هي روح وجوهر كل الأيام والأيام في حيوات كل الناس

   أما أسوأ كل الأشياء، بالنسبة للإنسان الحي في الزمن الحي، فهو ان يعطى زمنا محددا ومحدودا، ليعيشه ويحياه، وأن بفعل به وفيه شيئا ينفعه ويمتعه ويسعده ويقنع كل الناس، وان يجد الإنسان نفسه في دوامة الأيام والاعوام ينفق هذا الزمن الغالي والنفيس في الفراغ والخواء، وأن يبذر ساعاته ولحظاته بحمق وبجنون

   ولقد أكدت هذه الاحتفالية دائما على الحضور، الفاعل والمتفاعل َوالمتفاعل، في الزمن ومع الزمن، ولقد ربطت بين الذات الفردية، في مستواها الجماعي والاجتماعي الاكبر والأعلى، بزموها ومكانها وببيئتها ومحيطها وبأرضها وتربتها وبثقافته ولغاتها، ولقد جسدت هذا في المثلث المتساوي الاضلاع، والذي هو نحن والآن والهنا، وبهذا يكون من الضروري أن نتساءل  وهذه النحن الآن هنا، ماذا تعني؟

هل تعني أن الآخر هناك، في ذلك المكان الآخر وفي ذلك الزمن الآخر غير موجود؟

أم أن هذه النحن،الكبرى والمركبة، تتضمنه بالتأكيد، وانه بهذا موجود فيها وداخلها وليس خارجها؟

   وبالنسبة للاحتفالي والاحتفالية فإن هذه النحن، الإنسانية والكونية، هي الأصل، ولا أحد في هذا الوجود يمكن ان يكون له وجود خارجها، كما أن هذا الزمن الآن هو الأصل، لأنه زمن ومقتسم، وما قد نسميه اليوم بالماضي كانت اتطلاقته من هذا الآن المتحرك، وما قد نسميه المستقبل هو زمن اخر، يسير باتجاه هذا الآن

إن الرهان الأكبر في الاحتفالية، هو رهان على وجودنا في الآن هنا، وبهذا فهو رهان واقعي تاريخي، على المادي المحسوس وعلى الملموس، وعلى الكائن والممكن، وبهذا فهو ملتقى الواقعي والافتراضي، وملتقى الحضور والغياب، وملتقى الكائن الآن والممكن غدا، وهو ذلك الغائب الذي كان كائنا وحاضرا في هذا الآن المتحرك

   وهذا الاحتفالي، الواعي وبحدوه الوجودية، وفي تأكيده المتجدد على الحضور وعلى شرف الحضور، يجد نفسه يقول مع عمر الخيام في إحديرباعياته

غد بظهر الغيب واليوم لي

وكم يخيب الظن في المقبل.

 

العيد لحظات مختلسة من بنك الزمن

   ولما كان هذا الزمن، هو سيد ومعلم كل السارقين، من بني الناس، فقد كان ضروريا ان نتعلم منه فن وعلم وفقه السرقة الشرعية، وأن يكون العيد سرقة، وأن يكون الاحتفال شكلا من أشكال السرقة أيضا

   وبالنسبة للاحتفالي، فإن أشرف وأصدق سارق في الوجود، هو سارق اللحظات الجميلة من بنك الزمن، اما اصدق وأشرف سارق في المجال المعرفة، فهو سارق الكتب، حبا في العلم والمعرفة والحكمة، وأن يكون هذا السارق مثل جده الاكبر برمثيوس سارق النار، ولقد سبق للكاتب الاحتفالي ان قال، في كتابه (اعترافات الحكواتي الجديد ) ما يلي :

(أنا كاتب من سلالة برمثيوس، هكذا اعرف نفسي، اي من ذلك المخاطر الذي سرق النار من الآلهة، والذي – مع وهج هذه النار الحية والحارقة والمضيئة – قد سرق روح المعرفة أيضا، وهو نفسه الذي ادرك جوهر الفهم والعلم والحكمة،وهو الذي انسن هذه النار وانزلها من السماء إلى الأرض، وجعلها حقا مشاعا بين الناس

   وماذا يمكن ان يكون البكاء، في الشعر العربي الجاهلي، سوى انه الإحساس بأن الزمن ليس وفيا مثل المكان، وبانه قد سرقهم المنزل الذي كان، وسرق منهم الحبيب الذي كان، وسرق منهم منهم الساعات الجميلة التي كان

   يقول مولانا جلال الدين الرومي (الدنيا تدور وتعود، وتقف عنك، لتفعل بك ما فعلت بغيرك) والدنيا التي يقصد هي تلك الساعات التي قد تحضر في غيابنا، أو تغيب في حضورنا، والتي قد تكون ساعات شيمتها المكر والغدر

   إن الاحتفال واحد اوحد، ولكن الذين يحتفلون متعددون، فهناك من يؤسس هذا الفعل، وهناك من يعيشه، وهناك من يتفرج عليه عن قرب، وهناك من يراقبه عن بعد، وهناك من يتاجر فيه، وهناك من يسعده ان يفسد فعل الاحتفال، خصوصا عندما يكون احتفال الآخرين، وهناك من يحتفل في هذا العيد بوجه مكشوف وهناك من يحتفل بوجه عليه أقنعة. وهناك من يحتفل لحساب الحياة والأحياء، وهناك من (يحتفل) لحساب الموت والموتى

   نعم، لقد قلت الاحتفال واحد، وفعلا هو كذلك، ولكن هذا الشيء الواحد الأوحد قد تكون له صور كثيرة، وتكون له ظلال متعددة، وبهذا فقد كان مقدرا لنا أن يكون لكل واحد منا احتفاليته الخاصة، والتي قد تشبهه اكثر مما تشبه غيره، والتي قد تعكسه ثقافته، وتعكس مستوى هذه الثقافة، ولكن الأساسي هو ان تعكس روح وجوهر وفلسفة هذه الاحتفالية

   وهذا الفعل الاحتفال، هناك اليوم من يعرفه، تماما كما كان يعرفه بالأمس، وهناك من يزعم لنفسه، وللناس أيضا، بانه يعرف هذا الاحتفال ويعرف هذه الاحتفالية، ويدعى القرب منها، ومن كونها وعلمها، مع أن أكثر عشاق وتعلقا بهذه الاحتفالية يقولون بانهم – فقط – يعرفون شيئا قليلا عن احتفالية الأمس ويعرفون شيئا بسيطا عن احتفالية هذا اليوم، ولكنهم يجهلون كل شيء عن احتفالية الغد، وهم يتوقعون، مجرد توقع، ان تكون هذه الاحتفالية في المستقبل القريب والبعيد اجمل واكمل، وهم يعملون، فكريا وجماليا وأخلاقيا من أجل أن تكون فعلا كذلك.

   هناك إذن فئتان من الناس، من هو معها، ويعرف لماذا هو معها، ومن هو ضدها، انسياقا مع المزاج ومع التيار الذي يشكك في كل شيء موجود. من غير ان يكون له أي تصور عن الشيء الممكن الوجود.

   هو عالم إذن، واحد نقتسمه – شكليا – مع كل الناس، مع انه في الحقيقة، هو اليوم في الخفية عالمان اثنان، أو هكذا أرادوا له ان يكون، فهناك الذين يعيشون فعل هذا الاحتفال بصدق، وذلك في حياتهم اليومية، وفي ابداعهم الجمالي، وفي سلوكهم الأخلاقي، وهناك من يتحدثون عنه فقط، وذلك باعتباره خبرا او باعتباره حكيا وروأية او باعتباره إشاعة او باعتباره مادة في الدرس المسرحي فقط، ولا شيء أكثر من ذلك.

يقول الاحتفالي

أسوأ شيء أن تكون مبصرا ولا تبصر

وأن يكون لك عقل ولا تفكر

وان يكون بإمكانك أن تطير والا تطير

وأن تكون قادرا على القراءة وألا تقرأ

وأن تكون قادرا على الكلام وأن تلتزم الصمت

   وأن تكون قارئا سيئا، لكتابة سيئة، فهذ شيء معقول ومقبول، ولكن أن تقرأ الإبداع الجميل قراءة، وأن تحاكمه بنية سيئة فإن مثل هذا الفعل لا يمكن أن يكون إلا عدانا سافرا على الجمال وعلى الاجتهاد وعلى الحق في الاختلاف.

سيد الزمان هو المحتفل في الزمان

   وهذه الاحتفالية هي مع الدرس المسرحي بكل تأكيد، ولكنها ضد المدرسية القائمة على التكرار والاجترار، وهي أيضا مع العلوم السياسية، ولكنها بالتأكيد ضد دجل بعض السياسيين، وهي ضد ان يقول لها ماركس بأن راس المال وحده هو صانع التاريخ، او ان يقول لها فرويد بأن الجنس هو صانع الحياة اليومية وصانع التاريخ، أو ان يقول لها داروين بأن جدنا الأكبر قرد.

   إن السياسي الذي يقرأ الغيب، مثلما تفعل قارئة الفنجان، لا يهمني، ولا يهم الاحتفالية أيضا، لأن معرفة ما سوف ياتي لا يمكن ان تتم قبل حضور هذا الآتي، والذي قد ياتي او لا يأتي، والذي قد ياتي في غير الصورة التي انتظرنا ان يأتي بها.

   والاحتفالية تتوقع أن يقع التغيير في كل شىء خارجي وبراني وهامشي وموسمي وعابر، ويمكن ان يتغير نظام حياة الإنسان في المدينة، ولكن يبقى الإنسان هو الإنسان، وتبقى المدينة هي المدينة، ولهذا يرى الاحتفالي ان التغيير يمكن ان يلحق المظهر وليس الجوهر، وأن الأصل الثابت الذي لا يمكن أن يتغير، هو انسانية الإنسان، وهو مدنية المدينة وهو حيوية الحياة، وهو جماليات الجمال وهو حقيقة الحقيقة.

   وهذه الاحتفالية لا تسعى من أجل أن تنتصر في معركة، حقيقية او وهمية، وما معنى أن تنتصر؟ وتنتصر على من؟ وهي في مثل الحال تتذكر دائما كلمة الإمام الشافعي (ما جادلني جاهل إلا غلبني).

   وهذه الاحتفالية هي اساسا موقف، وهي بحث متجدد عن المعرفة، وهي موجودة اينما وجدت الحكمة والمعرفة، ولا يهمها إلا من يساهم معها في إضاءة الطريق من أجل الكشف عن هذه المعرفة، وهي لا تسعى لأن تجادل فقط، حبا في الجدل البيزنطي، أو من أجل أن تفوز بموقع، وذلك على خرائط الفكر والفن والعلم، أو من أجل تحقيق منفعة معينة،

   وبخصوص هذه المواقف المبدئية يقول المناضل الاحتفالي في كتاب (أنا الذي رأيت).

   (إنني انا المواطن الإنسان لا اعتز إلا بمواطنتي وإنسانيتي، وكل شيءٍ غير هذا مجرد تفاصيل، وارى ان الأصل في هذا الإنسان انه كائن مناضل دائما، تماما كما هي كل الكائنات الحية في الوجد، وحتى بعض الحجارة تقاوم الزمن، وتبقى حية وخالدة على الدوام، تماما كما هي الأهرام، وكما هي القلاع والأبراج والصحون، وكما هو بعض الكلام الذي لا يشبه الكلام، والذي هو فكر وعلم، والمثقف واحد من حراس هذه الحصون، حصون المعنى قبل حصون المبنى، وحصون القيم الرمزية قبل القيم المادية، ويسعدني ان اكون واحدا من صناع هذه القلاع المعرفية والجمالية، وأن اكون واحدا من حراسها).

   والاحتفالي هو الذي قال مع نتشه(سيد الزمان هو الذي يأتي في غير زمانه) والأصل في هذا الإنسان هو انه في سباق دائم ومتجدد مع الساعة، وأن أخطر سم قاتل هو سم عقارب الساعة.

   والرهان الاكبر في الاحتفالية هو الرهان على الزمن العيدي دائما، والذي هو زمن حيوي متجدد، زمن فيه حرية وتحرر وانفلات، وهذا الزمن لا يبدأ من الفراغ، لينتهي إلى الفراغ، كما في في مسرح العبث، ولكنه (يبدا من الامتلاء ( لينتهي) إلى ما هو أكثر امتلاء، وبهذا فهو يحاكي العيد الذي نستعيده دائما، وذلك مع كل دورة منردورات الزمن، والذي لا يمكن ان نستعيده بنفس الإحساس ولا بنفس العمر، ولا بنفس المعرفة، ولا بنفس الرؤية، ولا بنفس العمق النفسي، ولا بنفس الغنى الذهني والوجداني).

   والرهان الاكبر، بالنسبة للاحتفالي، هو الرهان على الممكن الآتي، وهذا بالتأكيد ما جعل الحكواتي يقول في (المقامة البهلوانية)

(يا هذا.. كن مع الآتي غدا، ولا تكن بعقل الأمس الذي كان).

   فهذه الأرض تدور حول شمس الحقيقة، وكل ما عليها وما فيها يتحرك، ولهذا فقد كان المبدع الاحتفالي محكوما بان لا يمشي في نفس الطريق مرتين، وأن يمشي إلى الأمام، وأن ينظر إلى الأعلى وإلى الأبعد وإلى الممكن الذي يقع عند حدود اامستحيل.

   ولأن للحقيقة أبواب بعدد لا يحصى، فإن هذا الاحتفالي محكوم بأن لا يطرق نفس الباب مرتين، إيمانا منه بأن الأبواب الأخرى يمكن ان تكون اصدق، وتكون أحق بأن تطرق، وهو بهذا لا يعيش نفس العمر مرتين، وهل الحياة عمر واحد ام هي حفنة اعمار، بعضها خلف بعض او داخل بعض؟

   وهو في حياته، وفي حياة أعماره لا يحيا نفس الحالة مرتين، والإنسان الاحتفالي هو بالضرورة كائن تجريبي، لأنه صيرورة متحركة اكثر منه كينونة ثابتة وجامدة، وهو وجود ناقص، قدره ان يحيا بهوية ناقصة وغير تامة ولا كاملة، وهذا هو ما يجعله في سباق دائم مع نفسه ومع الزمن، وهو في فعله الوجودي اليومي، قد يظهر بأنه يكرر نفس الفعل السيزيفي العبثي، والذي يدور في حلقة مفرغة تقوم على التكرار والاجترار، والحقيقة الخفية عكس هذا تماما، لأنه في فعله التجريبي هذا، هو لا يفعل شيئا سوى انه يبحث عن اناه الأخرى، ويبحث عن زمنه الآخر، ويبحث عن علومه وفنون الأخرى، وهو في الحقيقة لا يبحث عن هويته الصادقة والحقيقية، وذلك في الآتي الممكن، وفي مستقبل الأيام الأعوام وهو بهذا الإصرار السيزيفي يعتبر نفسه مجرد مشروع وجود، ومجرد مشروع هوية، ويرى ان هذه الهوية قابلة للحركة وللتحول والاتساع والتمدد والتعدد والتجدد، وحتى يمكن ان يجد هذا الاحتفالي التجريبي نفسه الأخرى، فهو مطالب بأن ( يخالف نفسه دائما، وأن يجدد حياته وعيشه، لحظة بعد لحظة، ولولا تجريبية هذا الإنسان، فهل كان سيكتشف النار، وهل كان سيخترع العجلة، وهل كان ينتقل من النيىء إلى المطبوخ، ومن العاري إلى الكاسي، ومن الكهف إلى البيت، ومن الصيد إلى الزراعة، ومن المشي على الأرض إلى التحليق في السماء، ومن الطبيعة إلى الثقافة، ومن الوجود إلى المسرح، ومن المسرح إلى التيارات المسرحية؟).

   فأن تكون احتفاليا فأنت بالضرورة تجريبي وحداثي، إما كونك مسرحيا تجريبيا، فإن هذا وحده لا يؤهلك لان تكون احتفاليا حقيقيا، لأن التجريب فعل اجرائي تقني، في حين ان الاحتفالية هي رؤية للوجود، وهي نظام حياة في الإبداع، وهي نظام إبداع في الحياة، وهي فلسة وجود قبل كل شيء.

الحياة مخاطرة أم مقامرة؟

   هذه الاحتفالية، في فكرها وعلمها وفنها وصناعتها الإبداعية، هي أساسا طموح مشروع، وهي مخاطرة نعم، لأنها حياة وحيوية، والأصل في هذه الحياة هو انها تجريب موثث بالمخاطرة العاقلة والمسؤولة، وبهذا فهي ليست مقامرة، يمكن ان نربح فيها كل شىء، أو نخسر كل شيء، ولهذه المخاطرة درجات بكل تأكيد، بعضها أعلى واسمى من بعض، وفي هذا المعنى يقول المتنبي (لا تقنع بما دون النجوم) والحلم ليس ذنبا ولا جريمة، وليست كل الأحلام على درجة واحدة من الرفعة والسمو والجمال والكمال، واسوأ كل الأحلام في عالم الأحلام والحالمين، بالنسبة للاحتفالي، هي تلك الأحلام الصغيرة والفقيرة، اما اسوأ كل الأسفار عند هذا الاحتفالي، فهي الأسفار القصيرة، ولقد كانت الاحتفالية حلما بسعة الوجود وكانت حياة بسعة الحياة، وكانت سفرا في الزمن بسعة التاريخ.

   وفي آخر كتاب (عبد الكريم برشيد وخطاب البوح) يسألني ذ عبد لحبابي السؤال (في آخر هذا الكتاب نريد منك كلمة تعتبرها من أجمل ما قرأت، وتراها تعبر عنك احسن تعبير) وفي الجواب اقول، لقد قال جبران خليل جبران” لا تجالس انصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، ولا تقرأ لأتصاف الموهوبين، ولا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، ولا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، ولا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف امل، إذا صمت فاصمت إلى النهاية، وإذا تكلمت فتكلم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت).

   وهذه الاحتفالية آمنت بالمسرح، واكدت دائما على أن المسرح فعل وانفعال وتفاعل، ولقد سعت من أجل الوصول إلى درجة المسرح الحقيقي في المسرح الحقيقي، واكدت على أن هذا المسرح لا يمكن ان يكون إلا كاملا أو لا بكون، بكل مقوماته الأساسية والحيوية، وبانه لا وجود لشيء هو نصف مسرح او هو شبه مسرح او هو شيء يعادل المسرح.

   وحلم فرد من الأفراد، هو بالتأكيد حلم صغير، وإذا لم يستطع هذا الحلم الفردي الصغير أن يصبح حلم جماعة أو حلم مجتمع أو حلم شعب أو حلم أمة، أو حلم كل الإنسانية، فإنه في حقيقية الأمر ليس حلما حقيقيا.

   وفي كتاب (التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث) يؤكد المفكر الاحتفالي على الفعل والفاعلية وعلى الحركة والحركية، وعلى فعل الانتقال بالأفكار والأشياء من حال إلى حال، وايضا، على فعل التاسيس الفكري والجمالي المجدد، وعلى إعادة التاسيس، وعلى تدوير نفس العناصر الرمزية والمادية، ولكن بشكل جديد ومختلف، وبحسب هذا الاحتفالي فإنه (لا شيء ثابت في المسرح إلا.. الإنسان والمكان والسؤال الوجودي والقضية، وحيثما يحضر هذا الإنسان ، في اي مكان وزمان، تحضر معه القضية، وأقدم كل القضايا واخطر ها هي قضية الوجود، يكون او لا يكون هذا الإنسان؟ ذلك هو السؤال الوجودي الذي مازال يتردد في كل مسارح العالم، ولكن بأشكال وصيغ متعددة).

وبخصوص من هو الاحتفالي، فقد سبق وكتبت كلمة على جداري في الفيس بوك وقلت:

ليس الاحتفالي هو من يقول انا احتفالي

ولكن هو الذي تقول له الاحتفالية انت احتفالي

وهو من يقول له فكره وفنه وعلمه وسلوكه ومجموع علاقاته الإنسانية والمدنية أنت احتفالي.

Visited 4 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي