الشريفْ القاسمي أخلاقيات مناضل

الشريفْ القاسمي أخلاقيات مناضل

المصطفى اجماهري

     تعود علاقتي بالمرحوم الشريف محمد القاسمي إلى نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وقد حصل التعارف في بيت صديق مشترك، هو المواطن الإيطالي ابن مدينة الجديدة ألبير مالانكيني. ومنذ ذاك الوقت استمرت علاقتي به حتى غيّبه المرض بضع سنوات إلى الأيام الأخيرة لوفاته يوم 31 ماي 2016، وبذلك افتقدت عائلته وأصدقاؤه ومدينته مناضلا مخلصا للمبادئ التي آمن بها وأدى الثمن غاليا من أجلها.

   أنتهز هذه الفرصة لأسرد عليكم بعض ذكريات الصداقة التي جمعتني به، وهي صداقة يمكن أن أصفها، من جانبي، بأنها كانت ذات بعد ثقافي، بالمعنى الاجتماعي للكلمة، جعلتني أكتشف فيه إنسانيته ونبله وطيبوبته، بل جعلتني أدرك أن بيني وبينه قواسم مشتركة، تجلت لي من خلال حواراتي معه وزياراتنا المشتركة لأماكن وشخصيات معينة وحضورنا للقاءات وندوات.

   كان المرحوم القاسمي رجل مبادئ، يؤمن بمقولة “الثبات على المبدأ فضيلة”. وقد ترجم هذا الإيمان في تصرفاته وسلوكياته الشيء الذي جعله محط تقدير واحترام من قبل الجميع، مغاربة وأجانب، عرفوا في الراحل انحيازه إلى الصف الديمقراطي وتشبعه بقيم الحداثة وحقوق الإنسان.

   في ستينيات القرن الماضي، انتقل المرحوم من الرباط للعمل بمكتب البريد بالجديدة وبفضل أخلاقه وسلوكه سرعان ما دخل قلوب جميع العاملين وهم في غالبيتهم فرنسيون ومغاربة يهود من بينهم مفتش البريد هنري رويمي. في تلك الظرفية السياسية المضطربة حصلت، ذات يوم، استفزازات مست العاملين اليهود من طرف البريديين المسلمين، فما كان منه إلا أن تصدى لتلك الاستفزازات معبرا عن تضامنه المطلق واللامشروط مع مواطنيه اليهود. وكان موقفه هذا بداية صداقة حقيقية بينه وبين هنري رويمي امتدت طويلا في الزمان حتى أن رويمي لما غادر إلى فرنسا وفتح مكتب محاماة هناك كان يستقبل سي القاسمي، كلما زار فرنسا، ويسعد باستضافته. وقد سنحت لي الفرصة لألتقي بهنري رويمي في باريس وفعلا كلمني بكل حب وتقدير عن سي القاسمي منوها به وبأخلاقه.

   لم يكن المرحوم يتصنع هذه المواقف الإيجابية بل كانت تنبع منه بشكل تلقائي ويمارسها مع الكبار كما الصغار. وروى لي جان لوي موريل، الرئيس السابق لودادية قدماء مازغان. في هذه الفترة التي كان المرحوم يشتغل فيها كموزع للبريد، كان يوميا يمر بزنقة فاس فيجد في انتظاره الطفل برونو ابن أستاذ الفلسفة بثانوية ابن خلدون، أندريه مونجاري. اعتاد الطفل أن ينتظر مرور ساعي البريد حتى يأخذ منه مراسلات والده. لكن المشكل الذي كان يحصل، والذي استشعره سي القاسمي بحدسه الأبوي، هو أن الطفل، في غياب المراسلات، كان يتألم ويمتقع وجهه. فما كان من سي القاسمي إلا أن اشترى مجموعة من البطائق وطلب من ابنته أن ترسم فيها رسومات مختلفة فكان يضع واحدة منها في جيبه حتى يسلمها للطفل كلما لم تكن هناك مراسلات لوالده.  فهل بقي الآن موزع بريد من هذا الصنف؟

   هذه المواقف النبيلة المتأصلة في وجدان الفقيد كان يترجمها فكرا وسلوكا، وهو ما أعجب به، ذات مرة، المؤرخ غي مارتيني من مجموعة الفرنسيين الأحرار. وقد كنت شخصيا وراء تعارف الرجلين. حصل لقاؤهما الأول يوم 20 أبريل 2001، حين شاركنا معا في مائدة مستديرة نظمتها هيئة المحامين بالجديدة في موضوع “جذور مدينة الجديدة والحضور الأجنبي”، والتي قدم خلالها سي القاسمي شهادة حول “الحالة الاجتماعية بالجديدة إبان الحرب العالمية الثانية”. كانت المناسبة مواتية ليدخل المرحوم في حوار مع المؤرخ غي مارتيني الذي سعد باللقاء خاصة حينما اكتشف بأنه يشترك مع سي القاسمي في نقطتين : كونهما محاربين سابقين على الجبهة الإيطالية واقتسامهما معا لنفس الأفكار التحررية. وفي وجبة العشاء التي جمعتنا ذلك اليوم، في مطعم القلعة البرتغالية، سوف يلح علي غي مارتيني بأن أزوره رفقة سي القاسمي في بيته بحي فرانسفيل في الدار البيضاء. وتمت الزيارة فعلا حيث قضينا مع غي مارتيني عدة ساعات، رغم مرضه، ناقشنا معه خلالها مواضيع تاريخية وسياسية تهم المغرب.

   وفي شهر نونبر 2004، حصل الراحل من الرئيس الفرنسي جاك شيراك على وسام جوقة الشرف من درجة فارس، وقد حضرتُ إلى جانبه الحفل المنظم بإقامة القنصل العام لفرنسا بحي أنفا في الدار البيضاء، الذي حضرته شخصيات مغربية وفرنسية، وتم خلاله التنويه من قبل السيدة كورين بروزيه القنصلة العامة بمساهمة الراحل وزملائه من قدماء المحاربين في تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني.

   وأعترف بأنني حاورت الراحل في كثير من المواضيع إلا واحدا وهو المتعلق بحيثيات اعتقاله ومحاكمته في إطار ما عرف بمحاكمة مراكش الكبرى لسنة 1971. كان يهمني، كباحث في التاريخ المعاصر لمدينة الجديدة، أن أعرف منه التفاصيل، إلا أنني كنت أحجم، في كل مرة، عن استفساره بشأن هذا الموضوع لإحساسي العميق بأنه خرج من تلك التجربة بمرارة وخيبة أمل. ثم إنه لم يكن يرغب في الخوض في التفاصيل.

   وقد أثمرت علاقتي بالراحل بعض الكتابات حيث أدرجت شهادة له في كتابي “ذكريات مغربية، الجديدة زمن الحماية”، وشهادة ثانية في كتاب آخر عن “الطائفة اليهودية بمدينة الجديدة”، فضلا عن مقالة كتبتها بجريدة “لبراسيون” بتاريخ 14 مارس 2001 خصصتها للحديث عن مشاركته مع الجيش الفرنسي إبان الحرب العالمية الثانية وذلك بمناسبة دعوته لحضور الاستعراض العسكري في باريس يوم 14 يوليوز 2004.

رحم الله الفقيد وأكرم مثواه.

[1]  ألقيت هذه الشهادة في الذكرى الأربعينية لوفاة المناضل الشريف القاسمي، المنظمة بفضاء مندوبية قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بالجديدة يوم الجمعة 15 يوليوز 2016.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى اجماهري

كاتب وناشر مغربي