أساليب القص ومقوماته في قصص “أجساد فقط”
عبد النبي البزاز
تتميز مجموعة “أجساد فقط” القصصية (قصص قصيرة جدا)، للأديب والقاص المغربي محمد بوشيخة، بتعدد وتنوع المكونات والموضوعات والأبعاد. فمن حيث النوع السردي فهي تندرج ضمن لون القص الموجز، وتتوزع بين قصص قصيرة جدا، ومتواليات قصصية عبر محددات القصر والكثافة والاختزال باعتبار أن النصوص الأخرى، غير المدرجة في خانة المتواليات، أكثر طولا، وإن كانت تستوفي شروط وخاصيات القصة القصيرة جدا من حيث التكثيف والاختزال والتلميح والإيحاء. فعلى مستوى الموضوعات وظف القاص “تيمات” من قبيل ما هو عقدي ديني في شقه الشعائري حينا حيث نقرأ في نص “نفحة عابرة”: “هم مساعد الفقيه بإقامة الصلاة، انخرط الجميع في روحانية يفرضها المقام بعد الركوع الأول، ومباشرة الركعة الثانية، انسل أحدهم مخترقا الصفوف ومخترقا الأنوف. “ص 59، حيث يتم تصوير مشهد فريضة الصلاة وما يجللها من هالات روحية في اختراق أحد المصلين للصفوف، وهو تصرف منزاح وغير مألوف، خلف استياء تسرب لنفوسهم وأيضا لأنوفهم ليفتح تأويلات عدة يمكن اختزالها في نقض لشروط الطهارة (الوضوء) الذي يترتب عليه مغادرة المسجد لإعادة الوضوء جراء رائحة قد تكون منفرة ومقززة، ووضع المسجد، أحيانا، في مقام روحاني محفوف بمسوح من قدسية وخشوع تسمو على فيزيقية المكان، وكرونولوجيا الزمان فينفلت من ربقة الوقت حيث يذوب طقس الانتظار، وتمحي رتابته كما ورد في قصة “أجساد”: “المساجد أمكنة تفقدنا الإحساس بوجودنا. تمارس سيادتها المطلقة، وتذيب فينا إحساس العلاقة بالمكان. هكذا خمن وهو ينتظر إقامة الصلاة. “ص 65. وتضمنت قصص الأضمومة كذلك ما يشيع داخل المجتمع من مظاهر اعوجاج وانحراف تُفاقِم من تناسل الأزمات، وانتشار الآفات الاجتماعية كالجريمة التي تسهم المؤسسة السجنية في توسيع دائرتها في غياب ثقافة تقويم السلوك الأخلاقي داخل ردهاتها حيث يعم الفساد بشتى أنواعه وتداعياته مما يعيق تقويم سلوك النزلاء، والمساهمة في إعادة إدماجهم، بل ينمي لديهم حس الجنوح والانحراف عقب مغادرة أسوار السجن خاويي الوفاض من أي تكوين تعليمي أو مهني يمكنهم من كسب رهان ظروف عيش معقدة ومتقلبة وهو ما تختزله قصة “رقية”: “بعد أن عمر في مؤسسة السجن أكثر من عشر سنوات عقابا على فعلته… يغادرها وقد تسلم شهادة المجرم المحترف. “ص 21، فبدل إحراز شهادة عملية، داخل ورشات تكوين مهني بفضاء السجن، تضمن له دخلا يعينه على تغطية مصاريف معيش يومي، والقطع مع حياة حبلى بسوء السلوك، ومشين الفعل يعود، تدريجيا، للتمادي في اقتراف جريرة الجرم بشتى أنواعه وأشكاله وبمستوى احترافي (وقد تسلم شهادة المجرم المحترف)، مع الانتقال لتصوير معاناة المواطن البسيط مع إلزامات وإكراهات متطلبات عيش مضن ومكلف، في رصد لما يعج به المجتمع من مظاهر اختلال طبقي سافر: “يحلم وهو هارب من ضغوطات واقع مر، كريدي لا ينقطع، زوجة تنهره صباح مساء، أبناء جوعى.. يهرب ويهرب؛ ليستيقظ وهو لم يفارق مكانه. “ص 34، مشهد يجسد مدى مكابدة الفرد البسيط داخل مجتمع تخترقه العديد من الهنات والأعطاب، يرضخ فيها لسلطة القروض مما يؤثر، بشكل أو بآخر، على العلاقة الأسرية ويزج بها في تنافر يصعب رأب صدعه، ورتق فجواته (زوجة تنهره صباح مساء، أبناء جوعى). فضلا عن تناول للجانب الأسطوري من خلال شخصيات يزخر بها المخيال الشعبي كشخصية “عيشة” في العديد من القصص الشائعة داخل فئات عريضة من المجتمع، وما تحفل به من طابع عجائبي لا يخلو من إثارة وتشويق، مثل قصة “عيشة بنت البلاد “: “في كل الأمكنة تسكن؛ في كل عقول الناس. لها من الهيئات أضعاف من تعرفهم ويعرفونها. لا تعترف بحدود الزمان، فالليل والنهار لديها سيان. سرمدية كالإله.. وجودية كالروح في الجسد. “ص61، وما أضفى عليها من صفات على مستوى الشكل والهيئة، وكينونة منفلتة من إهاب الزمان، موغلة في سرمدية إلهية تمنحها أنطولوجية روحية فتغدو (عيشة بنت البلاد) شخصية بها لات ربانية تستعصي على التصنيف والتحديد، والموضوع التاريخي في ارتباطه بالشق الديني، مثل شخصية زليخا (امرأة العزيز) وقصتها مع نبي الله يوسف كما ورد في سورة “يوسف”، وبلقيس ملكة سبأ وما تجسده من قوة عظمة وهول سلطان، والتي ذكرت أيضا في سورة “النمل” من القرآن الكريم وذلك في نص “غرور”: “هي ليست كامرأة العزيز ولا كبلقيس .. ” ص68، وهما شخصيتان بحمولات تاريخية وعقدية، وأبعاد رمزية واعتبارية.
ورغم ما يميز لغة المجموعة من تكثيف يتماشى وطبيعة القص الموجز فإنها تتوسل بسجع يضفي عليها إيقاعا يجنبها مغبة السقوط في الرتابة والإسفاف مثل قصة “انتحار”: “تدور الأرض بما رحبت، والسماء بما حبلت، والعمارة بما احتوت…” ص 13، في اختتام الجمل بحرف التاء، وفي “العشق المهبول” حيث تتكرر الألف والتاء: “الفتيات اليقظات، وهن صغيرات، يبقين جميلات فاتنات…” ص 57، واستعمالات من المعجم العامي في نص “انتحار”: “صافي تْراجعْ هاهما رْقَّاوْك. “ص 12، أو في قصة “الكبت”: “شوف وسْكتْ”. ص 39، وأيضا من اللغة الفرنسية: “فقر، كريدي لا ينقطع…”. ص 34 ، بحيث اختار (كريدي) بدل قرض باعتبارها أكثر تعبيرا ودلالة، كما وظف القاص عبارات ذات َنفَس مجازي، مثل: “رمته في دوامة من التفكير وغابة من التيه. “ص 68، لما يستدعيه حجم ونَفَس نصوص المتواليات القصصية من اقتصاد لغوي توسل بأسلوب مجازي لتوسيع، وتعميق دائرة المعنى، حيث يتكرر ذلك في نصوص أخرى مثل “مسودة”: “وبمجرد بلوغ اللذة تولَّد الدستور”. ص 37 ، وما يرمز له الدستور من قوانين وظفها القاص في ميثاق زواج قائم على توافق وتراض تحكمه خلفيات انتهازية (من طرف الزوج بالخصوص). و”ورطة”: “سَرْوَلتْه من كل ما يملك…” ص 43، بتحويل السروال كنوع من اللباس إلى فعل يحمل العديد من المعاني، ويحيل على الكثير من الدلالات.
وإذا كان التنوع هو سمة نصوص المجموعة على مستوى “التيمات”، ولغة القص، وعناصره فإنه يلامس أيضا شكل النصوص وطبيعتها، حيث تعتبر قصص المتواليات أكثر كثافة واختزالا من حيث الَّنفَس القصصي الذي عمد فيه القاص إلى اقتصاد لغوي يروم التلميح والإيحاء بدل التقرير والتفصيل؛ في نصوص مثل: الجاني، المتهمة، القرار..! ونهاية القاضي في قصرها، وتقتيرها اللغوي، وبعد دلالتها، وعمق معانيها.
فقصص “أجساد فقط” والموسومة بالقصيرة جدا منجز سردي غني بميزات التجريب والتنويع على مستوى أساليب القص، وعناصره مما يثري المتن القصصي المغربي في هذا النوع الذي يعرف تطورا مطردا تتعدد تجاربه، وتتراكم نصوصه وتتنوع.
_______________________
ــ الكتاب : أجساد فقط ( قصص قصيرة جدا )، محمد بوشيخة، منشورات الثقافة الجنوبية 2013.