قصة قصيرة: شارع بسعة الحرب

قصة قصيرة: شارع بسعة الحرب

لحسن أوزين

   لا داعي للف والدوران، رغم أن هذا جزء من شخصيتي، أنا امرأة في غاية الجمال، لا يمكن لعين الإنسان كيف ما كان رجلا أو امرأة أن تخطئ ذلك. جسد متناسق متكامل فنية الخلق، وعظمة الإتقان، وبدون حاجة إلى مساحيق كاذبة أو صادقة. مثيرة للنظرة والغرائز  والعواطف الجياشة، وللحب من أول نظرة. في كل مرة أخرج فيها للتسوق أو لأي غرض خاص أكاد أجزم أنني أخلف عشرات القتلى والمعطوبين، دون الحديث عن ذوي الإعاقات الدائمة. مع أن الكثير من الاعترافات تصلني مباشرة من خلال حواسي الروحية والجسدية المتحفزة والمترامية الأطراف، التي تكون في حالة طوارئ قصوى. هكذا أكون في وضعية رهيبة وأنا أجمع بين القتل والبعث لعيش الحياة من جديد، بين الملاك والشيطان. أشعل الكثير من الحرائق، وأزرع ألغاما مكتومة الصوت قابلة للانفجار في أية لحظة. وفي الوقت نفسه أعيد الفرحة والابتسامة إلى بعض الوجوه التي خسرت معنى الحياة أمام التعاسة التي أخذت في الانتشار وهي تكتسح المدينة.

   ولكن الحقيقة المتخفية وراء كل هذه الفتنة، التي تسحر أو تقتل أو تحيي، والتي يجهلها الجميع أنني امرأة مفككة إلى أبعد حالة في التفكك والانقسام الذاتي والجسدي. لست أكثر من مجموعة أجزاء مبعثرة كأشلاء قتيل مرمية على قارعة الطريق، بفعل قنبلة، مجنون خلفته قصور العباسيين، كانت موضوعة بإحكام وعن قصد مدروس في ذاكرتي وشفرتي الوراثية أمّا عن جدة. فبمجرد ما تحضر في ذهني رغبة الخروج للتسوق أو لإنجاز عمل ما، إلا وبدأت معركة شرسة في أعماقي تخاض بشراسة وقسوة ليس لها نظير. تضطرب حواسي كلها، وأكاد أصاب بنوع من التبلد المصحوب بالعداء لكل الأجزاء المبعثرة التي تشكلني. الويل كل الويل لأي جزء من جسدي وجوارحي أن تسول له نفسه الخروج من تحت السيطرة الجنونية التي تتلبسني كالممسوسة، والتي لا تقبل المساومة والتساهل في أدنى معانيه. أنطفئ تدريجيا ويتصاعد من أعماقي بخار لولبي، يولّد من تفككي الملتهب امرأة أخرى شديدة القسوة، صارمة وحازمة. كأنها لم تعرف في حياتها الضحكة ولا الابتسامة. وفجأة تجحظ العينين وتبرز بعض التجاعيد بسبب ملامح، وتقاسيم الوجه العابسة  والمسكونة بحزن مزمن أبدي. أضبط بقسوة وعنف كل حركات جسدي من تحت الملابس التي تدثرني. ولا أسمح بأي حركة زائدة عن المألوف. وتزول تلقائيا تلك الفرحة والابتسامة من على وجهي كأن أحدا ما عكر ذلك النبع الصافي العميق في داخلي. كما لو أن يدا عدوانية مشحونة بالضغينة والكراهية فجرت كل الحياة في داخلي. وأرادت أن أكون شاهدة قبر متحركة في الشارع العام. أخيف العابرين وألزمهم بضبط النفس، أو غض الطرف لكل من أراد منهم  الخروج سالما من هذا اللقاء العنيف الذي ينفث رائحة الحرب البشعة للخسة الإنسانية. تتخلى عني هويتي الرائعة المفعمة بالحب والحنان والفرحة العارمة، فتعلو روحي وجسدي لعنة الموت ورائحة المقابر العطنة.

   وعند عودتي من هذه المهام العاجلة أكون مرهقة بشكل فظيع كما لو أنني كنت ضحية نوبة صرع مفاجئة. تتهدم أعصابي كلها. أشعر بحالة إنهاك قصوى مع سطوة الغثيان التي تفرض غيمتها على روحي من جراء هذا التمزق والتفكك الذي بعثر هويتي وكياني الروحي والجسدي. تقزز ما يشملني ورغبة تقيؤ لا تكتمل، تظل حبيسة، فتزيد من اختناقي العويص، مما ينعكس سلبيا على قلبي الوهن، الذي تكلمت في أوردته لعنة التفكك الذي خربني الى مجرد أشلاء، فصعبت عليه عملية توزيع الدم.

   قلت لكم أنا امرأة مفككة الى أبعد مما يخبئه هذا الجسد الجميل الفاتن، موزعة بين قذارة الشيطان في الشارع العام، وصورة الملاك في عزلتي الخاصة بعيدا عن عيون الآخرين، بما في ذلك عيون زوجي، ذلك الذكر الغبي الخائف من جزئي الشيطاني.

   وتزاد محنتي كلما خرجت برفقة هذا الرجل المسكون بالتخيلات المرضية، والنوايا السيئة، والتهيؤات النفسية المرعبة. في الشارع يعلن في نفسه الدرجة الممتاز للحذر، ملتفتا ذات اليمين وذات الشمال. كاسحا الرصاص الذي قد تقذف به عيون المارة صوب جسدي المترنح الأجزاء من وراء حجاب، معترضا الصواريخ الفجائية التي يرميني بها بعض الفضوليين. عيونه تصوّب في كل الاتجاهات وهي تنتقل بسرعة فائقة، من جسدي المحموم والملوث بجرثومة التفكك، الى كل ما كان يحيط بنا ونحن  نسير معا في الشارع كغريبين جمعت بينهما لعنة القدر، أو تفاهة الحياة. تضيع خطواتي في الطريق العام، وتنكسر عيوني في الفراغ معلنة حالة من فقدان الذاكرة والتبلد الذاتي.

   وإذا كان كل هذا العذاب يحدث معي في كل لحظة من حياتي، فإن أبشع اللحظات وأشدها رعبا وفزعا وترويعا، هي عندما يقترب مني هذا الرجل الغبي، المسكون برهاب الحياة، والفزع من الفرح الجميل والابتسامة العريضة النابعة من القلب الصافي كالنبع العذب. في تلك اللحظات كنت أضيع، وأتبدد الى عشرات  القطع، وتتشتت هويتي الفردية الى درجة لا أعرف كيف أستجمع قواي، وأنا أخوض معركة شرسة وخاسرة بشكل مؤلم وفظيع بين الملاك والشيطان، لكن دائما أنتصر للتفكك الذي يسكنني ضد وحدة روحي، فأبقى جثة هامدة بين يدي هذا الذكر الذي يغتصبني، كحيوان مفترس أجهز على فريسته. لكم هي بشعة هذه اللحظة.

Visited 17 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي