رحيل الفنان التشيكلي المغربي أحمد المرابط
عبد الرحيم التوراني
هذه المرة لم يكن النعي خبرا زائفا. وتمنيت لو كان كذلك. والأخبار الزائفة دائما مرفوضة، إلا إذا اتصلت بنعي إنسان عزيز وقريب. وكم كان نعيا ثقيلا…
هذه المرة صح الخبر، وإن وصل متأخرا بحوالي أسبوعين. لم أكن أعلم بولوجه إحدى مصحات منطقة “بانوراميك” في مدينة الدار البيضاء، بعد أن ساءت صحته الجسدية ولم يعد قادرا على الوقوف أو المشي، كما بلغني لاحقا. أما أحواله النفسية فقد غاصت به من فترة في بئر يعلو ويرتفع ماؤها الراكد إلى تخوم اللوثة وحواف الجنون.
عندما طالعت اليوم النعي المتأخر على الفيسبوك، ولم تهتم بموته قنوات التلفزيون ولا الراديوهات والمواقع المتنافسة، ولم نعيه الفيسبوكي يكن مرفوقا بصورة من صوره الشخصية، ولا بصور من لوحاته وإبدعاته الفنية، وكان مبدعا حقيقيا. لكنه شخص فضل بصرامة واعية النأي عن الأضواء واستعراض الذات، وكان مصابا بكل أسباب العزلة وأعراض الانطواء، بالرغم من أنه كانت له شلة أصدقائه الذين انتقاهم بكل عناية.
لما أراد الصديق الكاتب والإعلامي محمد العروسي تقديم خبر وفاة الفنان أحمد المرابط، لم يجد غير عبارة “موت فنان مجهول”. ولم يجانب الصواب. وربما كانت هذه الجملة المبتسرة تلبي رغبة فناننا المتمرد وتستهويه أكثر من أي عنوان. فقد التزم أحمد المرابط الابتعاد عن الأضواء والشهرة، كلما حدثوه عن عرض لوحاته أو الاحتفاء به كفنان لامع، كان يطوي بسرعة دفة الحديث، ويبتعد عندما يكلمونه عن تميزه وعبقريته كرسام. وأعترف أني رغم صداقتنا فشلت في انتزاع حوار صحفي معه بعد أن وافق على إجرائه من قبل. بل إن الإعلامي الفرنسي المشهور فريدريك ميتران أعجب بالأعمال الفنية لأحمد المرابط وأبدى رغبة قوية في ملاقاته والحديث إليه في إطار التحضير لمعرض تشكيلي كبير أقيم بباريس، لكن المرابط رفض رفضا الالتقاء به، وقال للوسطاء “أخبروا المعني أني لست هنا، وإذا ما ألح فليتقي بي ويحاورني عبر لوحاتي. هناك سيجدني ويلقاني”.
من المرات النادرة جدا، وربما هي الوحيدة، التي سمح فيها أحمد المرابط بالانصياع والدخول في لعبة العرض الفني، هي تلك التي قادته إلى الفوز من دون تخطيط مسبق بالجائزة الأولى للرسامين الشباب، وهي الجائزة الفنية التي كانت ترعاها مؤسسة مصرفية لم تعد موجودة اليوم بعد انصهارها في تجمع بنكي أكبر.
في فترة الثمانينيات كان أحمد المرابط يعتكف ويرسم تقريبا يوميا، كانت شقته الصغيرة هي مرسمه، حتى ضاقت بلوحاته وأصباغه. عندما كنت أزوره كانت تواجهني فوضى جارفة تملأ المكان، الذي كان يغص بأصداء قوية من الضحك العالي وتخنقه روائح سيل من قهقهات سهل تصنيفها في دوائر العبث وسمفونيات الجنون…
فممن كان يضحك المرابط، وعلى من؟
أجزم أن فنانا الراحل كان يكلم العالم بلغة الضحك، ولعلي أذهب إلى القول بأن أحمد المرابط عمل على تحويل الضحك من نشاط إنساني لا إرادي إلى نشاط مرتبط مباشرة باللّغة الفنية وبخطاب تشكيلي غير مباشر. خطاب يدين هذا العالم المليء بالزيف وبالتسلّط والظلم والاستعلاء، عالم ظل يرفضه وتمرد عليه بوعي حتى نهاية السير… والرحيل، كان قرارا حاسما منه للرد بوثوق عبر كتائب من الأسنان المصطكة والمتراصة والمسلحة بالضحك المرئي غير المسموع والمسموع حقيقة، بأفواه تضحك ولا تضحك، أو قل مع المتنبي إنها “ضحك كالبكا” في مواجهة الضحك البرجوازي الساخر المتسلط…
***
أحمد المرابط من مواليد مدينة طنجة عام 1956، تابع دراسته الثانوية بالدار البيضاء في ليسي جابر ابن حيان، شعبة الفنون التطبيقية. بعد حصوله على شهادة الباكالوريا انتقل إلى فرنسا لمتابعة دراسة الفنون التشكيلية بمعهد الفنون الجميلة بمارسيليا، وعاد إلى المغرب ليمارس تدريس مادة الرسم بالمركز التربوي الجهوي في درب غلف. أقام سنوات طويلة بحي المعاريف، حيث صادق عددا من المثقفين في المنطقة، من بينهم الكاتب الروائي محمد زفزاف، والشاعر أحمد الجوماري، والقاص إدريس الخوري، والشاعر الجمركي أحمد زكي وعبد الرحيم التوراني.
صداقاته المهنية كانت محدودة، من زملائه بعض ممن درسوا معه في فرنسا أو عملوا معه في المركز الجهوي التربوي، من بينهم صديقه الحميم الفنان التشكيلي عزيز بلام، والتشكيلي أمل بشير.
قبل عام من هذا التاريخ، في يوليوز 2022، كتبت عن أحمد المرابط نصا بعنوان: “ ضَحِكٌ مُلَوّنٌ كَالْبُكَا… “. لمن يريد الاطلاع والاستزادة أنشر رابطه فيما يلي: