جامعة البوسفور تتصدى ليد السلطة التركية.. لا نقبل ولن نتراجع
ريم ياسين
في اسطنبول، تحاول جامعة البوسفور المرموقة التصدي لوضع اليد عليها من قبل السلطات.
ساحة خضراء معلقة فوق مساحة بلون أزرق فيروزي. من بعيد، حرم جامعة البوسفور الأكثر عراقة في تركيا شبيه ببطاقة بريدية رومانسية. تحت شمس تبهر العيون التي تفتح بعد ذلك لترى حقيقة لاذعة. عشرة أساتذة يفصل بين كل منهم متران، يصطفون على العشب الأخضر ويديرون ظهرهم لمبنى رئاسة الجامعة. يرتدون اللباس الجامعي ولا ينبسون بأي كلمة وبدون أي حركة. الصمت هو الوسيلة الوحيدة للاعتراض واليافطات المكتوب عليها “لا نقبل ولن نتراجع“.
إنها الساعة الثانية عشر والربع في هذا اليوم الصيفي الحار. وكما في كل يوم بمثل هذا التوقيت، يتناوب الأساتذة منذ بداية سنة 2021 للاعتراض على تعيين رئيس للجامعة، بفرض من الرئيس التركي، وهي الجامعة التي تعتبر الملاذ الأخير للتعبير الحر في بلد يتزايد فيه القمع. لا يردعهم شيء، لا الحرارة ولا الشتاء ولا الثلج المتساقط ولا حتى التهديد بالملاحقات القضائية والإدارية ضد المشاركين في التجمع وذلك بعد إعادة انتخاب أردوغان رئيسا للجمهورية في 28 أيار. مما يبشر بالأسوأ في السنوات الخمس القادمة لحكمه.
“الخناق يشتد يوما بعد يوم ولكن من واجبنا الصمود لأننا لا نناضل فقط من أجل استقلالية جامعتنا ولكن في سبيل الحفاظ على القيم الديمقراطية لوطننا”، تقول زينب غام باتي بعد انتهاء هذه الوقفة اليومية.
تطل هذه الأستاذة الجامعية المتخصصة بالنظرية السياسية بإبتسامة مشرقة بالرغم من المحنة وتدعونا للجلوس على مقعد موجود في ظل شجرة بعيدا عن كاميرات المراقبة المثبتة في حرم الجامعة. تتكلم بتودد وهي صفة تشتهر بها جامعة هارفرد التركية. “انظر إلى هذه المساحة الكبيرة من العشب الأخضر. كانت منذ عدة سنوات القلب النابض لجامعتنا. وهي كانت مسرحا دائما للمنتديات المنظمة من قبل الطلاب. كانت الأجواء متنوعة وسعيدة. كنا نلتقي على نفس المساحة بتجمع لنادي الشباب في الحزب الوطني كما لتجمع المثليين وأيضا بخيمة للطلاب من الجمعية الإسلامية. الجميع كان يتعايش هنا بدون أي مشكلة. كان الحديث يدور حول النسوية والبيئة والدفاع عن القضية الكردية.”
ثم نرى في الممر الرئيسي، ثلاثة رجال شرطة بلباسهم العسكري يقومون بدوريتهم في هذا المكان المقفر. “هذا هو الروتين الجديد”، تعلق الأستاذة بسخط.
تأسست هذه الجامعة سنة 1863، وقد تخرجت منها النخبة التركية وكانت منارة في قلب العاصفة. كانت تتميز بالتدريس باللغة الإنجليزية وبالانفتاح على الصعيد الدولي وقد صمدت يواجه كل الإملاءات لجميع الأفرقاء حتى أمام مجلس التعليم العالي الذي أنشأه الحكم العسكري بعد الانقلاب سنة 1980. وكان للجامعة مواقف كثيرة مثل الاعتراف بإبادة الأرمن وضد منع ارتداء الحجاب في الجامعات الذي كان سائدا سنة 1990 وضد العنف المستعمل في العمليات العسكرية التركية في الجنوب الشرقي الكردي وذلك بعد غياب وقف إطلاق النار سنة 2015.
وفي بداية 2016، شارك 70 أستاذا في الجامعة في الإمضاء على بيان من أجل السلام في كردستان، بمبادرة من مجموعة من الأساتذة. في هذه المرة، كان جواب السلطة الاضطهاد. ففي جميع أنحاء البلاد، ضرب أساتذة جامعيون وأعتقلوا واتهموا بدعم الإرهاب من قبل الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم منذ سنة 2003. وبعد الانقلاب الفاشل في تموز 2016، طرد أساتذة كثيرون ولاحقوهم في المحاكم. أساتذة جامعة البوسفور كانوا محميين من إدارتهم فلم تلحقهم عمليات التطهير ولكن لاحقهم الخوف. استدعيت الأستاذة زينب إلى المحكمة ثم تمت تبرئتها سنة 2019. فقررت أن تتقاعد قبل الأوان. “في هذه الظروف غير المستقرة، يتعلق هذا القرار بالصحة العقلية وفي حال طردت من العمل، أفقد جميع مكتسباتي. حاليا، أعود هنا لأتظاهر ولكن بدون خطر كبير”.
الضربة القاضية كانت في شهر كانون الثاني 2021. عين الرئيس أردوغان أحد معاونيه رئيسا لجامعة البوسفور بموجب الصلاحيات التي استحصل عليها بعد الانقلاب الفاشل بتعيين رؤساء الجامعة مباشرة منه. مليح ماله ليس معروفا من الجامعة وصفته الوحيدة هي أنه كان مرشحا للحزب الحاكم في الانتخابات التشريعية سنة 2015. عندها، انفجر الغضب. حشود من الطلاب والأساتذة تجمعت أمام مدخل الجامعة حيث تم اعتقالهم. كما ضرب وسجن العديد من المتظاهرين. ردا على ما حصل، قامت مجموعة من الأساتذة بالتجمع ودعت لوقفة صامتة للتنديد بهذا الهجوم على الفكر المتنوع. منذ ذلك الوقت، تتكرر هذه الوقفة كل يوم بالرغم من محاولات تخريبها، “عندما تقوم الإدارة بالري الأوتوماتيكي للعشب الأخضر في نفس الوقت ونفس المكان الذي تحدث فيه الوقفة، ينتقل الأساتذة إلى مربع آخر من المساحة الخضراء. وعندما يمنع رئيس الجامعة الاحتفال بتخرج الطلاب خوفا من أن يتحول إلى مظاهرة اعتراضية، يطبع الأساتذة أوراقا تشبه الشهادات ويوزعونها لطلابهم تحت نافذة مكتبه”.
هذا العصيان له ثمنه: تم إلغاء بطاقات الطلاب القدامى حتى لا يستطيعون الدخول إلى حرم الجامعة وعشرات من الأساتذة يخضعون للملاحقات التأديبية. حتى أن أحدهم تم تعليق وظيفته ثلاث مرات. حاولت السلطة إقناع المتمردين باستبدال رئيس الجامعة بنائبه ولكن لا أحد ينخدع بهذه اللعبة.
“من المستحيل أن نستسلم”، يقول أحمد أرسو، أستاذ التاريخ المتخصص في الإمبراطورية العثمانية وأحد أركان التجمع اليومي ضد إدارة الجامعة التابعة لأوامر أردوغان. “وهذا ليس سوى غيض من فيض. منذ سنوات عديدة، انخفضت ميزانية البحث العلمي كثيرا بشكل غير مبرر وقد منع أساتذة كثيرون من السفر سنة إلى الخارج بالرغم من حصولهم على منحة للبحث العلمي من جامعات كبيرة معروفة جدا في العالم”.
في الوقت نفسه، يعين رئيس الجامعة عمداء ومدراء جدد للكليات متماهين مع السلطات، متجاهلا بشكل صارخ عمليات التوظيف التي تعتمد على الكفاءة. وقد أسست كليتان جديدتان، كلية التواصل وكلية الحقوق لهدف غير مخفي وهو فرض إرادة السلطة في هذه المجالات، “أصبحت الجامعة المكان الذي تعين فيه السلطة أتباعها وتفرض أفكارها الإسلامية والقومية وتحصل على خزان من الأصوات الانتخابية”.
لا يستطيع أحمد آر سو إحصاء عدد الشكاوى والطلبات والبيانات ضد ما يسميه الأعمال غير القانونية وهو يكرس نصف وقته للمعارك الإدارية والقضائية بدلا من العمل الأكاديمي. ولكن الإصرار أتى ببعض النتائج. نجح الجامعيون بإبطال تعيين أربعة أساتذة جدد للحقوق مشكوك بكفاءتهم كما أوقفوا مشروع إعمار داخل كلية التاريخ وهو موقع يبتغيه المستثمرون.
أحمد آرسو، مثل كل زملائه، وضع كل آماله في الانتخابات النيابية والرئاسية الأخيرة في شهر أيار الماضي. وعدت المعارضة بإعادة الأساتذة المطرودين من الجامعة. قبل أشهر من الانتخابات، تقدم الأساتذة بمشروع قانون أمام البرلمان لإلغاء قانون الطرد. يعترف أحمد أرسو بأنه كان يحلم، إذا ربحت المعارضة، بإقامة معرض رسوم ابتكرها على حائط مكتب رئيس الجامعة.”في كل مرة، عند استدعائي للمحكمة، كنت ابتكر رسوما كاريكاتورية للقضاة على شكل حيوانات.هذه كانت طريقتي للتخلص من الضغط ولتوثيق هذا الفصل الأسود من الانجراف الاستبدادي. لكن مع إعادة انتخاب أردوغان، أصبح التاريخ أكثر سوادا”.
تسود فورة مفاجئة لدى مجموعة من الطلاب. في أقصى المربع الأخضر، عشرة طلاب يتناقشون بصوت عال تحت مظلة شمسية حيث يرفرف علم قوس القزح. تقول طالبة وعمرها 18 ربيعا بغضب” أتى رجل أمن وأمرنا بنزع العلم وإلا سيطردنا. منذ منع نوادي المثليين، نحن نتناوب لعرض رمزهم والتضامن معهم. نحن نناضل بسلمية ضد التمييز وهم يعملون على إلغاءنا من المجتمع”. ينصهر الغضب والقلق بانعدام التفاهم” عندما تدعم المثليين، تنعت بالأحمق. وعندما تدعم الأكراد، تنعت بالإرهابي. وعندما تتحدث عن حقوق المرأة، يقولون أنك مجرم. درست شقيقتي الكبرى في جامعة البوسفور. في ذلك الوقت، كان الطلاب يشربون البيرة على العشب الأخضر ويدخلون إلى حرم الجامعة بدون أي مشكلة. الآن، يجب عدم إظهار أي اعتراض وإلا تتعرض للطرد”.
يضيف أحمد: “سجن أحد أصدقائي لأنه، سنة 2021، ألصق علم قوس القزح فوق رمز لمكة المكرمة مقابل مكتب رئيس الجامعة. تصوروا في أي عالم نحن نعيش. أنا اخترت الحذر. فمع الأزمة الاقتصادية وجائحة الكورونا والآن إعادة انتخاب أردوغان، فقد شباب جيلنا جميع أوهامه. أنا لا أفكر إلا في شيء واحد وهو توفير المال وتعلم اللغة الإسبانية لمتابعة الدراسة في مدريد. فجامعة البوسفور انتهت!”.
عن لوفيغارو الفرنسية