الثقافة ودورُها الحَاسِم في التصدّي للأفكار المغلوطة وصقل الوَجْه الحقيقيّ للمغرب لدىَ الإسبان 

الثقافة ودورُها الحَاسِم في التصدّي للأفكار المغلوطة وصقل الوَجْه الحقيقيّ للمغرب لدىَ الإسبان 

د. السّفير محمّد محمّد خطّابي  

      تبعاً لموضوع شيّق تحت عنوان: (هل للمغرب حضور ثقافي في إسبانيا؟)  (Existe una acción cultural de Marruecos en España)؟ نشره مؤخراً بلغة سيرفانتيس الباحث المثابر فى الشؤون الاسبانية- المغربية – وأمريكا اللاتينية الصّديق الأستاذ محمد أبريغاش في موقع (زنقة 20 الاسبانية Rue 20 en Español) الواعد والمتجدّد، حيث حفزنا- بعد تهنئته على هذا العمل القيّم- إلى إعداد هذا المقال عن “الثقافة ودورها الفعّال ا في التصدّي للأفكار المغلوطة  وصقل الوجه الحقيقي للمغرب لدى الإسبان”. فنقول:  

   بحكم الموقع الجغرافي والجيوستراتيجي الممتاز لاسبانيا والمغرب، تأسيساً على”ماضٍ” حضاريّ، و”ثقافةٍ” رفيعةٍ، و”إشعاعٍ” متألق إنصهرا فى بوتقته، وبحكم”الحاضر” الواعد الذي يعيشانه ، و”المستقبل” المشترك الذي يتطلّعان إليه ، كلّ ذلك جعل منهما بلديْن واعييْن كلّ الوعي بالدّور الحيوي الهامّ المنوط بهما لتحقيق المزيد من التقارب، والتعاون، والتفاهم، والعمل على نَسْج عُرَى صداقة ثنائية وثيقة، وترسيخ أواصر مودّة عميقة.وتمتين جسور التعاون بينهما فى مختلف المجالات، وعلى وجه الخصوص  فى الميادين الثقافية التي كانت وما زالت لهما فيها اليد الطولىَ، و الباع الطويل. 

   لا يغزب عن بالنا انّ العناصر والمكتسبات الصالحة المشتركة لمورثات البلدين، الحضارية منها والتاريخية، والثقافية، واللغوية الثرية، تحفزهما أكثر من أيّ وقتٍ مضى لوضع قاطرة التعاون الثنائي بينهما على السكّة الصّحيحة القويمة، لتقريب ذات البيْن بينهما واستخراج كلّ العناصرالإيجابية لتاريخهما المشترك في عصرٍأصبحت فيه التكتّلات، والسياسيّة، والاقتصادية، والثقافيّة بين الشعوب تتبلور بشكل لم يسبق له نظير، وذلك لزيادة تقوية الأرضية الصّلبة لعلاقاتهما فى مختلف مرافق الحياة، وتمتين أوجه التعاون بينهما فى مختلف المجالات الثقافية منها على وجه الخصوص، وهنا تكمن الأهميّة القصوى للدّور الحيوي الهام والحاسم الذي ينبغي أن تضطلع به الدبلوماسية الثقافية فى هذا القبيل بين الجانبين التي تأسّف على عدم وجودها بالشكل المطلوب صديقنا الأعزّ الأستاذ أبريغاش في مقاله الرّصين الآنف الذّكر. 

   الصّداقة والتفاهم التعاون الذي أصبح يجمع بين البلديْن يَعكس مقدارَ الرّغبة التي تحدوهما لزيادة بلورة طموحهما، وتوسيع تعاونهما فى محتلف الميادين والقطاعات السياسيّة، والتجاريّة، والاقتصاديّة، والثقافيّة، والعلمّية، والاجتماعيّة، والسياحيّة، والمشاريع الاستثمارية،والإنمائيّة، والصناعية الكبرى المشتركة إلخ كلّ ذلك ينبغي أن يواكبه تعاون ثقافيٌّ  وعلمي خِصب متنوّع، وتعاون مكثّف يزيدهما وتقارباً وتدانياً ويعملان على زيادة تمتين أواصرالصّداقة، وتوفير الاحترام المتبادل بينهما. وعليه فإنّ القولة القائلة: (إنّ المغربَ يضاهي دوحةً عُظمىَ، جُذورُها ضاربةٌ فى عمق الثرى الإفريقي، وتتنفّس أغصانُها اليانعة، وأوراقُها االباسقة فى الرّبوع الأوربية) ستظلّ حقيقة ماثلة قائمة بين البلدين..!. 

   هذا على الرّغم ممّا يشوب علاقات البلدين من أمور وقضايا ما زالت عالقة تنتظر الحلول الناجعة لها وهي أمور وقضايا ومطالب مشروعة ومعروفة لا تخفى على أحد، ويعرفها القاصي والدّاني على حدٍّ سواء! فإنّ المروث التاريخي، والثقافي، والحضاري المشترك الزّاخر بين البلدين يشكّل ولا ريب أرضية صلبة، وحقلًا خصباً ممّا جعلهما ينفردان بخصوصّيات، قلّما نجدها لدى سواهما من البلدان الأخرى ممّا أفضي إلى خلق نوعٍ من الاستمرارية والتواصل الدائمين في علاقاتهما الثنائية منذ قرون خلت، وحسبنا أن نعرف أنّ التبادل الدبلوماسي بينهما يعود للقرن السّابع عشر حيث كان للمغرب قصب السّبق فى ذلك، حيث كانت السفارات، والرّحلات الدبلوماسيّة المغربية هي البعثات الوحيدة الأولى التي زارت إسبانيا انطلاقا من بعثة ابن عبد الوهّاب الغسّاني سفير السّلطان المولى إسماعيل خلال حكم العاهل الاسباني كارلوس الثاني (1691-1690)، ومروراً بالسّفراء : الزيّاني(1758) وأحمد المهدي الغزال (1766) وابن عثمان المكناسي (1779) والكردودي (1885) إلخ، كلّ هذه البعثات المبكّرة شكّلت فى العمق ”دبلوماسية ثقافية” من الطراز الرّفيع، إذ أولت جميع هذه السفارات للجانب الثقافي على وجه الخصوص أهميّة قصوى، وعناية فائقة.  

الثقافة سلاح حادّ في مواجهة الأحكام المغلوطة 

   ما فتئ المثقفون المغاربة والاسبان  يؤكّدون  فى كل مناسبة على الدّور المحوري الهامّ الذي تضطلع به  الثقافة، أو بالأحرى ينبغي أن تضطلع به الثقافة فى توثيق وتعميق العلاقات بين الشعبين الإسباني والمغربي، للتصدّي للأفكار الجائرة، والأحكام المغلوطة المنتشرة فى البلدين، حيث أصبح الإهتمام فى الضفتين بثقافة البلدين يتنامى بالفعل بشكلٍ مُرضٍ بينهما، خصوصاً في أوساط النّخب الثقافية المتنوّرة والمستنيرة، إنّ الاقبال المتزايد للإسبان على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم على زيارة المغرب، وإقبال المغاربة  على زيارة إسبانيا  في المدّة الأخيرة من شأنه أن ينسج جسورَ التواصل لمعرفة واقع وثقافة وتاريخ بلديْهما. اللذين ينبغي لهما التصدّي للمفاهيم الخاطئة التي لا تقدّم صّورة البلدين الحقيقية، والتي تنتشر أساساً لدى الشرائح الاجتماعية ذات الثقافة المحدودة، وبالتالي فالوسيلة الوحيدة لمحو هذه التصوّرات المغلوطة هي العمل سوياً على واجهات التربية والتعليم، والصحافة، والثقافة، والفنون. إنه مجال يتطلب منّا بذل مَجهودٍ مُضنٍ من أجل تعبئة مختلف وسائل الإعلام قصد نقل الصّورة الحقيقية والإيجابية عن البلدين، وتصقيلها، وتقديمها بالشكل الصّحيح غير المغلوط. والواقع أنّ المثقفين الإسبان والمغاربة يم يألوا جهداً بالفعل فى بذل المساعي المتواصلة فى العقود الأخيرة فى تطوير وتفعيل وتقوية العلاقات الثنائية بينهما على مختلف الأصعدة والمستويات. 

لغة “سيرفانتيس” وثقافتها 

    لابدّ  من  البحث عن الوسائل الناجعة، والآليات العاجلة لزيادة إثراء الحوار الثقافي بين البلدين لإقرار أرضية صلبة للتفاهم بينهما فى مختلف المجالات، وإقتناعهما بالتأثير الإيجابي المتبادل بين ضفّتيْ البلدين على إمتداد القرون، ممّا جعل من حوض المتوسّط عبر التاريخ فضاءً ثقافياً خصباً، كان له تأثير بليغ على أوربّا، وشمال إفرقيا، ومختلف البلدان المجاورة، كما جعلت “الأندلس” فى عزّ مجدها منهما بلدين متلاحمين، ومتقاربين، ومتشابهين، ومشتركين فى العديد من المظاهر الحضارية، والثقافية، واللغوية، والأدبية، والإبداعية، والفنيّة، والمعمارية، والهندسية، وسائر مرافق الحياة الأخرى، هذه التأثيرات المتشابهة طبعت البلدين إلى حدٍّ أصبح معه المغرب ينفرد بعلائق تاريخية وطيدة، وخصوصيّات ثقافية مميّزة مع جارته إسبانيا. 

   ويرى الملاحظون ان هناك  فى الوقت الرّاهن حضوراً متزايداً للغة سيرفانتيس وثقافتها فى مختلف ربوع المغرب اللتين كادتا فى المدّة الأخيرة على التلاشي، والزّوال، إلاّ أنهما ”طفقتا تسترجعان مكانتيْهما السّابقتيْن لدى المغاربة الذين زاد اهتمامُهم بتعلّم هذه اللغة الجميلة، والتفاعل مع الأنشطة الثقافية التي تنظمها المعاهد الثقافية الإسبانية الموجودة بالمغرب، والتي تحمل اسمَ صاحب “دون كيخوته” (سيرفانتيس)، ممّا  يبشّر بمستقبل زاهر للثقافة الاسبانية فى هذا البلد الذي يعتبر الأقرب من إسبانيا جغرافياً، وتاريخياً، وتقافياً!، ونأمل أن يعرف التبادل الثقافي بين البلدين تطوراً بين الأجيال الصاعدة على مختلف الواجهات. هذه الخصوصيّات طبعت علاقات البلدين على امتداد الحقب والعهود. ولعَمْرِي إنّ هذا التقارب والتواصل والحوار الدائم القائم بينهما لهو خير ضمان لبناء مستقبلٍ واعدٍ حافلٍ بالآمال بين البلدين. 

   وليس بخافٍ على أحد أنّ وضع  التنابذ والتباعد الذي كان يطبع العلاقات المغربية الأسبانية منذ عقود خلت  بين الفينة والأخرى يرجع في الأساس إلى موروثات تاريخية مغلوطة، وأحكام خاطئة  إلاّ أنّ العقليات اليوم قد تبدّلت، والأجيال الحاضرة قد إرتقت سلاليم الوعي والانفتاح والتعايش، وقبول الآخر، واستيعاب التنوّع الثقافي، والتعدّد الهويّاتي والعرقي والإْثنِي يكاد أن يصبح أمرا ًواقعاً في الضفتيْن. 

   ينبغي لنا التحلّي بروح الإنفتاح والتسامح، والنظر إلى الأمور بواقعية وتبصّر وحكمة، ينبغي علينا قبول النزاعات ومعالجتها بجرأة، وموضوعية،، هذه النزاعات التي فُرضتْ على البلدين قهراً وقسرًا في زمن لم تكن مفاهيم السيادة و الحرية والانعتاق قد تبلورت، والنظرة الشوفينية الضيّقة لم تكن تجرّ على البلدين سوى التعنّت والعناد، هذا العناد ربّما هو الذي جعلهم يتماطلون، ويتمنّعون حتى الآن فى تقديم إعتذار علني من إسبانيا عن إستعمالها للأسلحة الكيمياوية الفتّاكة ظلماً وعدواناً فى حرب الرّيف التحرّرية الماجدة، وإلحاق الأضرار الجسيمة بأهلها الآمنين الذين ما زال أحفادهم يعانون من الآثار الوخيمة لهذه السّموم المحظورة إلى يومنا هذا المشهود، فضلاً عن موضوع إشكالية طرد “الموريسكيّين” الأندلسيّين المسلمين “المُهَجَّرين” و”المُبْعَدين ” قهراً وقسراً من مواطنهم، والذين إستقرّ معظمُهم فى المغرب، وفى الجزائر، وتونس، وفى بلدان أخرى، ولعلّ الجميع يتذكّر أنّ العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل سبق له أن قدّم إعتذاراً لليهود (السيفارديم) الذين أُبْعِدُوا من إسبانيا، ولم يقم هو ولا خلفُه العاهل الإسباني فليبي السادس الحالي بنفس البادرة التاريخية حتى الآن مع الموريسكيين المسلمين لتجاوز مظاهر التظلم، والإجحاف، والتطاول، الذي طال أجدادَنا فى الأندلس الذين تعرّضوا لعمليات طرد جماعي، وتهجير قسري، من موطنهم وأراضيهم ودُورهم ، وكلّ ما تلا ذلك من تظلم وحيف وتمييز حاق، ولحق بهؤلاء المُورسكييّن المُهجّرين الذين ما زال أحفادهم يعيشون بين ظهرانينا فى العديد من المدن المغربية العريقة وأرباضها، وفى سواحل الرّيف المتراميّة الأطراف حيث توجد بها مجموعات سكنية إثنية تنحدر من الأندلس منها فرقة تُسمّى: “إندروسان” أيّ فرقة “الأندلسيين” الذين هاجروا من الأندلس، واستقروا في منطقة بني ورياغل، وبالضبط في منطقة أجدير” (أنظر بحث الدكتور جميل حمداوي (باحث بكلية الناضور) فى هذا القبيل بعنوان: “هجرة الأندلسيّين إلى منطقة الرّيف”) وما فتئ المثقفون الإسبان والمغاربة يثيرون هذين الموضوعين اليوم بلا هوادة لعلّ إسبانيا تخطو هذه الخُطوة الشجاعة في هذا القبيل!.  

المثقفون المغاربة ودورُهم في تقديم وجه المغرب في إسبانيا 

   لا ريب أنّ الثقافة تلعب دوراً محوريّاً هامّاً فى توثيق وتعميق العلاقات بين الشعبين الإسباني والمغربي، فقد إضطلع المثقفون الإسبان والمغاربة بالفعل فى العقود الأخيرة – بدون أيِ دعمٍ رسميّ – بدورطلائعيّ فى تطوير وتفعيل وتقوية العلاقات الثنائية بينهما، وتجدر الإشارة في هذا الصدد أنّه فى عام 1978 تمّ تأسيس “مجموعة المثقفين الإسبان والمغاربة” التي شكّلها صفوةً من الكتّاب، والأدباء، والمفكّرين المغاربة والإسبان التي ضمّت 40 مثقفاً من المغرب، و46 مثقفاً من إسبانيا الذين طالبوا- في بيان نُشر إبّانئذٍ في أمّهات الصحف الإسبانية والمغربية – بضرورة تحريك وتفعيل العلاقات الإسبانية المغربية على مختلف المستويات، وإعطائها نفساً جديداً، وإذكاء روح التعاون والتفاهم والحوار بينهما. وقد أفضت هذه البادرة المبكّرة إلى تنظيم عدّة ندوات، وطاولات مستديرة هامّة حول مختلف أوجه التعاون الثقافي، والأدبي، منها ”معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون ”بين الطرفين التي ألحّت بدورها على ضرورة تفعيل وتحريك الجانب الثقافي بينهما. ونذكر من الموقّعين المغاربة: المهدي بنونة، محّمّد شقور، محمّد شبعة، لسان الدين داود، عبد الكريم غلاب، محمد بن عيسى، مصطفى اليزناسني، محمّد العربي الخطّابي، د. السّفير محمّد محمّد الخطّابي(كاتب هذه السطور)،عبد الكبير الخطيبي،عبد الله العروي، محمّد اليازغي، محمّد المليحي، محمّد العربي المساري، سيمون ليفي، محمّدالصبّاغ، علي يعته.. إلخ. ونذكر من الإسبان: خوان غويتيسولو، فرناندو أرّابال، بيدرو مارتينيث مونتافيث، خورخي سينبرون، فاثكيث مونطالبان، فيكتور موراليس، وآخرين، وقد طالب هذا البيان بضرورة إعطاء نفسٍ جديد للعلاقات الثنائية بين البلدين، وإذكاء روح التعاون والتفاهم والحوار بينهما فى مختلف المجالات السياسية، واالاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والإنسانية..إلخ. كما أفضت هذه البادرة المبكّرة فى ذلك الإبّان إلى تأسيس ”جمعية المثقفين الإسبان والمغاربة” التي نظمت فى البلدين ندوات وطاولات مستديرة دورية هامة حول مختلف أوجه التعاون الثقافي، والأدبي، والعلمي، والتاريخي وسواه بين البلدين. كما أسّست بعد ذلك ”لجنة إبن رشد” التي ضمّت هي الاخرى نخبة من كبار المثقفين والأدباء والمفكرين، والشخصيات السياسية والإعلامية النافذة فى كلّ من إسبانيا والمغرب، والتي عقدت غير قليل من الاجتماعات والندوات فى البلدين لتسليط الاضواء على العديد من المواضيع والقضايا الحيوية التي تحظى باهتمام الطرفين سواء فيما يخصّ تاريخهما الحافل ومستقبلهما المشترك. 

   هذا فضلاً عن تأسيس العديد من الجمعيات الإسبانية المغربية سواء فى المغرب أو إسبانيا ذات الصّبغة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفنية التي أصبح عددها يتنامىَ يومًا بعد يوم، والتي تعمل هي الأخرى على تقريب الهوّة بين البلدين، والتعريف بطاقاتهما الخلاقة لتأكيد مزيد من التفاهم والتعايش بينهما فى مختلف الميادين، وفى مقدّمة هذه الجمعيات النشيطة ”جمعية الصّحافيين المغاربة الناطقين باللغة الإسبانية” التي تضمّ نخبة هامة من مثقفينا اللاّمعين الذين لهم باعٌ طويل، ودرايةٌ واسعة بلغة سيرفانتيس وآدابها وثقافتها، إلاّ أنّ هذه الجمعية وسواها اصطدمت دائما بعثرات قلّة ذات اليد، وندرة الإمكانيات المادية وضآلتها إنْ لم نقل إنعدامها كما ذهب الى ذلك مُحقّاً  الصّديق محمد أبريغاش في مقاله السابق. 

   وفى نفس الاتجاه ودعمًا وترسيخًا لهذه الجهود كان قٌد أعلن فى المغرب منذ بضع سنوات كذلك عن تأسيس ”مندى الحوار المغربي الإسباني” بمبادرة من جماعة من المثقفين ورجال الأعمال والسياسة المغاربة، وكانت هذه البادرة قد جاءت لتؤكّد فى بلاغها: “تعبيراً عن إقتناعها الرّاسخ بأهمية العلاقات بين بلدين جارين، وضرورة تطويرها وتنويعها، يربطهما التاريخ والجغرافية، بما يساهم فى إعداد هذه العلاقات لولوج عهد جديد، موسوم بطابع التعاون الشامل فى مختلف المجالات، وذلك بإقامة وإرساء قواعد ثابتة ودائمة للحوار والتفاهم والتعايش بين الطرفين، ولكن ّ ووأسفاه.. بعض هذه الجمعيات اندثرت، واِمّحت، وتلاشت، وشلّت، وذهبت أدراج الريّاح. كما أوصت القمة الإسبانية المغربية المنعقدة عام 1996 بإنشاء ”لجنة ابن رشد”، التي تمّ تأسيسها بإشبيلية عام 1997، وتنظيم عام1998 ندوة ”المغرب وإسبانيا: الحوار والتعايش”. وبمبادرة من جماعة من المثقفين، ورجال الأعمال، والسياسة المغاربة تمّ تأسيس “منتدى الحوار المغربي- الإسباني”. كما تمّ تأسيس “مركز الدّراسات الأندلسية والحوار بين الثقافات، وتنشيط النادي الاقتصادي للمقاولين من خلال المجلس الاقتصادي المغرب- اسبانيا وسواها من المبادرات، والخطوات الأخرى التي كانت تهدف برمّتها إلى تحقيق هذه الغايات والأهداف النبيلة التي تخدم المصالح المشتركة للبلدين. 

التنوّع الثقافي بين البلدين 

   الحديث عن التنوّع الثقافي والتعدّد الحضاري فى المغرب وإسبانيا يحلو ويطول، إنّ الزّائر الإسبانيّ الذي يأتي لبلادنا أو المغربيّ الذي يزور إسبانيا يلمسان التاريخ المتشابه بينهما حيّاً نابضاً قائماً في كل مظهر من مظاهر الحياة ، دراسةُ هذا التاريخ، والتعمّق فيه واستخراج العناصر الصالحة منه أمر لا مندوحة لنا عنه،وهو أمر ينبغي أن يولىَ أهميّة قصوى، وعناية فائقة، وتتبّعاً متواصلاً من طرف أولي الأمر فى البلديْن ومن لدن المثقفين، والكتّاب، والمفكرين، والخواصّ، ومختلف الجهات العلمية والتاريخيىة والمرافق التربوية والتعليمية التي تُعنى بهذه المواضيع للتعريف بهذه الذخائر، فى البلدين، ونشر الوعي وتأصيله بشأنها لدى أبناء جلدتهما ليكون المستقبل الذي يتوقان إليه مستقبلاً زاهراً، وتلاقياً وتلاقحاً بين ماضٍ عريق، وحاضرٍ واعد، ولا شكّ أنّ في ذلك تجسيداً وتجسيماً للعهود الزاهرة التي عاشها أجدادنا فى شبه الجزيرة الإيبيرية والمغرب على حدّ سواء على إمتداد العصور الحافلة بالعطاء الثرّ ، والتعايش، والتسامح، والإشعاع الثقافي والعلمي الباهر الذي شكّل وما يزال جسراً حضارياً متواصلًا بين الشرق والغرب. 

ما أفدح َالجهل المُتفشّي بيننا! 

   كان العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل قد قال خلال إحدى زياراته الرسمية للمغرب بالحرف: “من الضروري أن نتعارف أكثر فيما بيننا،فما أفدح الجهل المتفشّي بيننا، ينبغي أن نمحي من رؤانا المشتركة جميع الصّورالمشوّهة، والأفكار المسبقة الخاطئة، كما ينبغي أن نقصي عنّا جميع الرواسب، وأن نقضي على التأويلات التي تحول دون تعرّفنا ونطردها من أذهاننا، إنّ اسبانيا والمغرب ليسا ورثة القليل، ولقد طبعت فكرهما معرفة عامة كجاريْن عاشا على امتداد التاريخ واحدًا بجانب الآخر،ولقد فرّقهما الجهل أحياناً بشكل يجاوز كل حدّ”. وكان الكاتب الإسباني المعروف الرّاحل خوان غويتيسولو قد ردّد أكثر من مرّة: “انّ المهمّة الملقاة على عاتقنا لهي مهمة واسعة ومتشعبة،إذ ينبغي على اسبانيا ان تعمل على إعادة نشر لغتها وثقافتها في مجموع منطقة شمال افرقيا، ففي الوقت الذي تفتح فيه للثقافة واللغة الفرنسية في البوتقة المغربية مجالاتٍ واسعة، فانه ينبغي على اسبانيا ان تسير في نفس التيار، وتعمل على نشركتبها هناك، وإيفاد الأساتذة والمحاضرين، وإقامة جولات مسرحية، وتنظيم عروض سينمائية، وعلى المغرب من جانب آخر أن يقوّي حضوره الثقافي باسبانيا، وتبيان الصورة الحقيقية للثقافة المغربية الغنية للرّأي العام الاسباني بنشر أعمال كتّابه وفنّانيه وفولكلوره الثريّ، كما انه على الأوساط الثقافية الاسبانية أن تجري حواراً مستمرًا ودائماً مع النخبة المثقفة المغربية ودعم كفاحها من أجل مغرب قويّ وعادل وديموقراطي” . 

هويّة وطن 

   يؤكّد الدّارسون فى مختلف أنحاء المعمور أنّ تاريخ المغرب الزّاخر، وتراثه العريق مستوحيان من ينابيع مغربية أصيلة، وروافد وافدة متداخلة متعدّدة، وإن إختلفت مصادرها، وتعدّدت ينابيعها، وتباينت لغاتها وألسنتها بين أمازيغية بربربة، وعربية إسلامية، وصحراوية حسّانية، وما فتئت العديد من النصوص، والوثائق، والمظانّ، وأمّهات الكتب والمخطوطات، والأشعار، والآداب، والفنون، والعلوم التي أبدعها كتّاب، وفلاسفة، وعلماء، وشعراء، ومؤلفون مغاربة أقاموا واستقرّوا، أو ولدوا وترعرعوا، فى هذا الرّبع القصيّ الجميل الكائن فى الشمال الغربيّ الإفريقيّ، إلى جانب المعالم التاريخية، والمآثر العمرانية، والقلاع الحصينة، والدّور، والقصور، والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق الغنّاء التي تبهر الناظرين، التي شيّدت وبنيت شامخة فوق أرضه الطيّبة، فضلاً عن العادات والتقاليد المغربية الأصيلة التي تجذّرت في أعراف وذاكرة الشعب المغربي في مختلف مناحي الحياة، كلّ ذلك ما زال  حيّاً شاهدًا إلى اليوم على مدى  الشأو البعيد الذي أدركه الإشعاع الحضاري فى المغرب، هذا الفيض الغامر من الإبداعات الرفيعة في مختلف الميادين لا يمكنها أن تحيا وتزدهر داخل حدود ضيّقة أومنغلقة، بل إنّها ظهرت وترعرعت وازدهرت اعتماداً على نبعها الأصيل، واغترافاً من تاريخها التليد، وموروثاتها الحضارية ذات الّرّوافد الثقافية المتعدّدة والمتنوّعة التي لا حصر لها. 

*تحريراً في يوم الثلاثاء 29  أغسطس 2023  حيّ المزمّة أجدير الحصين الحسيمة.  

Visited 8 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا